السيد الطنطاوي - القطار الأرعن وسائقه الطيب.. قصة قصيرة

حكاية هذا القطار غريبة جدا، فهو قطار يحب العمل بمزاجه، ولا يعجبه إلا عقله فقط، ومنذ أن عمل عليه سائقه الطيب وهو يحبه حبا شديدا، جعله يرفض العمل على أي قطار آخر، بل ازداد هذا الحب بمضي الأيام، ولا يعرف السائق سببا محددا لحبه الشديد لهذا القطار بالذات، رغم انه عمل على قطارات كثيرة قبله، وتسبب له هذا الحب الأعمى بمآزق كثيرة، ومواقف صعبة مع رؤسائه وزملائه، فهو لا يريد أن يتركه ليعمل على قطار آخر.. نصحه رؤساؤه وزملاؤه أكثر من مرة بأن يترك هذا القطار، ويعمل على قطار آخر أعقل من هذا القطار، إلا أن السائق الطيب رفض رفضا شديدا، وغضب منهم غضبا لم يروه منه من قبل، متحججا بأن علاقة ما قوية تربطه بهذا القطار "النزق"، بل علاقة حب متبادلة بينهما، تجعل من الصعب الافتراق عن بعضهما، وأرجع السائق هذا الارتباط ربما للتعود على القديم، الذي إن تركه صاحبه تاه، كما يقول المثل المصري "من فات قديمه تاه"، أو كما يقول المثل الخليجي "اصبر على مجنونك ليجيلك مجنون أجن منه"..

قال السائق لزملائه عن نفسه: أنا راجل "دقة قديمة" وراجل يعرف الأصول، ولا يفرط في أحد من أصحابه، حتى ولو كان هذا الصاحب أرعن كهذا القطار.

يئس الكل منه بعد أن غمروه بالنصائح، وذكروه "بالمقالب" التي يفعلها فيه هذا القطار، إلا أن رفضه كان باتا وشديدا، فتركوه لصاحبه القطار، عسى أن يقتنع بعد فترة من التفكير المتأني.

لكن هذا القطار الأرعن لم يراع الصحبة، ولم يراع الحب الكامن في قلب سائقه تجاهه، ولم يراع احتفاظ صاحبه وتمسكه به، واستماتته في الدفاع عنه أمام كل من يعملون في الهيئة، من أجل أن يكون بجانبه طوال عمره، ولم يستفد هذا القطار شيئا مما فعله في الرجل الطيب من مقالب سخيفة سابقة، بل تمادى فيها إلى مدى بعيد.

شاع بين السائقين وبين عمال هيئة السكة الحديد، ومعهم الرؤساء والمديرون، أن هذا القطار ربما يكون "راكبه" عفريت أو جن، أو أن شخصا لا يحب هذا السائق عمل له "عملا سفليا" رغم طيبته وحبه للجميع، فاستشاروا نخبة من المشايخ، وبعضا من "العرافين"، المنتشرين في القرى والمدن على جانبي السكة الحديد، فأكد بعضهم أن الاثنين السائق والقطار - فعلا - معمول لهما عمل، ولم يستطع أحد منهم فك هذا "العمل" المستحكم. وأسر أحد العرافين إلى المخلصين من أصدقاء السائق بأن صاحبكم السائق معمول له "عمل سفلي"، والمشكلة أن العمل "مربوط" بربطة حديدية محكمة في فرامل القطار، وتم هذا الربط بمفتاح ألماني قديم صدئ من أيام الحرب العالمية الثانية، ولا يمكن "فكه" إلا بهذا المفتاح، وهذا المفتاح صنع أيام الزعيم النازي أدولف هتلر، ولا يمكن لأي مفتاح "انجليزي" أو "فرنساوي"، أو أي مفتاح من ماركة ثانية فك "العمل".

فرد عليه أصحاب السائق: وما العمل؟.

قال وهو يتنحنح خافضا رأسه وعابثا بلحيته البيضاء المصبوغة بالحناء، وبصوت لا يكاد يسمع من فرط التفكير والسرحان: الحل سيكون في اثنين لا ثالث لهما، إما العثور على المفتاح الألماني القديم المصنوع من أيام الزعيم النازي هتلر، مضيفا: وهذا سيتعبكم كثيرا، وإما تفكيك عربات القطار من بعضها البعض بصدمة كبيرة، وهذا سيرهقكم أكثر، وأضاف: لكن العمل مفكوك مفكوك بإذن الله..

حار أصحاب السائق في هذا الأمر الغريب، فلا هم استطاعوا العثور على المفتاح الألماني خلال بحثهم في كل مخازن الهيئة ليفكوا به العمل ويحل لهم اللغز، ولا هم يستطيعون صدم القطار بقوة في المصدات لتتفكك عرباته، لإنهاء مفعول العمل والسحر الحديدي.

الغريب أنه أثناء ما كان يفكر أصحاب السائق في حل سريع وشافٍ لصاحبهم، وفك العمل بأي وسيلة، حتى ولو كان بمفتاح انجليزي أو فرنسي قديم، متجاهلين الانصياع لأوامر ونصائح العراف، لأن همهم الأكبر هو انتشال صاحبهم الطيب من هذا التعب الأبدي الأزلي المكتوب عليه. مع كل هذا القلق كان القطار الأرعن يفكر في "مقلب" جديد لصاحبه، ليرى مدى حب صاحبه له ويطمئن قلبه من ناحيته، والتأكد من أن هذا الصاحب لن يفرط فيه، رغم مقالبه السخيفة المتتالية، أو نصائح زملائه في الهيئة له لترك هذا القطار الأرعن لسائق آخر، وسأل القطار نفسه: هل سيحتفظ بي صاحبي مدى الحياة أم سينكص على عقبيه مثل صديقه السائق السابق، الذي حلف بالطلاق في آخر مرة لرئيس الهيئة ولزملائه ما هو طالع على هذا القطار حتى ولو فصلوه من الخدمة..

خلال رحلة ليلية لهما ستنتهي عند آخر محطة في ضواحي المدينة، أسر القطار لصاحبه السائق بالقول: الجو بارد جدا، فلماذا تسيرني بهذه السرعة البطيئة التي تخنقني؟.

رد عليه السائق: إنها السرعة المعهودة التي نسير عليها دائما، وأنت تعلم ذلك جيدا.

قال له: الجو بارد بشكل مزعج، وأنت تعبت طوال اليوم، ويمكنك بعد انتهاء الرحلة بسرعة، الذهاب إلى البيت مبكرا، وتنام على سريرك وتدفئ نفسك بدلا من هذا البرد القاسي.

قال السائق: زيادة السرعة في هذا الوقت، يمكن أن تتسبب لنا في مشكلات أنا في غنى عنها.

قال القطار: لا تخشى شيئا، لا من مشكلات ولا من أزمات، توكل على الله، فهذه ليست أول مرة تزيد فيها السرعة..

قال السائق في صوت خفيض: وهل سننجو من هذه المشكلات؟

قال: سننجو بإذن الله، توكل على الله وزد في السرعة، أنا لم أعد أتحمل هذا الجو البارد، وأرى أنك غير متحمل هذا البرد أيضا، توكل على الله يا شيخ!!

بدأ السائق يزيد في السرعة شيئا فشيئا، والقطار يحثه على زيادتها أكثر وأكثر، حتى أحس السائق بأن سرعة القطار تزداد غصبا عنه وأكثر من اللازم، ودون أن يلمس عصا السرعة..

ازدادت السرعة بوتيرة عالية جدا، وسمع صراخا من ركاب العربات الخلفية للقاطرة، وصراخا من الواقفين على الرصيف والمنتظرين لنقلهم إلى قراهم ومدنهم، واتصالات مجنونة من نظار المحطات، لكي يخفف السائق سرعة القطار الرهيبة، إلا أنه لم يستطع فعل أي شيء، وخيل إليه أن ضحكات عالية وصاخبة تأتيه من جنبات القاطرة، وكأنها ضحكات شيطانية هيستيرية، اختلطت في عقله بصراخ ركاب العربات الخلفية، وصيحات الركاب المنتظرين على المحطات، التي لا يستطيع التوقف عندها، ورنات التليفونات المجنونة التي تأتيه من نظار المحطات، وازدادت الضحكات الشيطانية مع سرعة القطار، حتى أغشي عليه ووقع على أرضية القاطرة.

لم يفق السائق إلا على وقع ارتطام القاطرة بشدة بمصدات الضواحي، وسمع صوت تفكك لبعض عربات القطار، ووقوعها وخروجها عن الرصيف..

عندما أفاق السائق وبدأ يشعر بمن حوله، أحس بشيء جديد عليه، وهو أنه لا يحب هذا القطار، بل يكرهه كرها شديدا، ولا يود أن يعمل عليه مرة أخرى، حتى ولو ضاعفوا له راتبه عشرات المرات، وأنه سيذهب لرئيس الهيئة ويحلف له بالطلاق أنه لن يعمل على هذا القطار مرة أخرى..

عند نزول السائق من القاطرة مستندا على الباب، لمحت عيناه وهو ينزل من القاطرة عددا من زملائه ومعهم شيخ معمم معه سبحة طويلة، رآه وهو يتلو بعض الآيات القرآنية والتعاويذ التي لم يفهم منها شيئا، ولكنه شعر بأنه لا يحب هذا القطار، بل يكرهه كرها شديدا، ولا يود أن يعمل عليه مرة أخرى، ثم حلف بالطلاق لزملائه الواقفين معه على الرصيف ما هو طالع على هذا القطار مرة أخرى..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى