مقتطف أشرف الخضري - مقتطف من رواية "أطفال لا ترى الملائكة"..

...- كنا في الفنارة قرب مدينة فايد، تعرض موقعنا لقصف عنيف ودفنت بيدي خمسة شهداء، وفي الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، تحركنا للنجاة بأنفسنا باتجاه السويس، وظننا نحن السبعة أن ظلمة الليل ستمنحنا فرصة ممتازة للهرب، لم نكن نعرف أن اليهود يملكون أجهزة رؤية ليلية، وعندما سمعنا الصوت العربي واضحا، يأمرنا بالاستسلام، أيقنت أننا سنموت لا محالة، تكرر النداء، سلم نفسك يا مصري، لم أصدق أن الانتصار الكبير الذي حققته قواتنا المسلحة خلال الأيام الفائتة من حرب أكتوبر، من الممكن أن ينتهي نهاية كهذه، تحدثت مع زملائي أننا سنموت إن لم نستسلم، وأننا محاصرون داخل كمين محكم من المدرعات والدبابات الإسرائيلية، لكن زميلنا حسين السوهاجي رفض الاستسلام، ووصفنا بكلمات قاسية وسبنا، وظل حسين يطلق النار على أي هدف يتحرك باتجاهه حتى استشهد.
دفنت سلاحي في الرمال، كان بحوزتي خمس خزائن رصاص لبندقيتي الروسية كلاشينكوف، دفنتها بجوار سلاحي، وبقيت في جيبي عدة رصاصات حرة فرطتها على الرمال، ودفنتها بقدمي، واستسلمنا للقوة الإسرائيلية.
حسين استشهد صائما، كنا في شهر رمضان، وكان حسين يتمنى رؤية ليلة القدر شهيدا صائما، ولعله أدرك ما تمناه، رحمه الله.
- ماذا فعلوا بكم؟ سألت ابراهيم مناع.
- الجندي الذي أسرنا كان يتحدث العربية، وبعد استسلامنا وتقييدنا، سألته أنت عربي مثلنا! فقال : أنا يهودي يمني.
أنزلونا في حفرة عميقة في الصباح، كان نور الشمس قويا من وراء الغمامة السوداء على عيني، ونطقنا الشهادة، لكن فجأة جاء صوت آمر لاهث وتم إخراجنا من الحفرة.
وضعونا في سيارة ترحيلات ومؤن، وبعد ساعات من السير عرفت من اليمني أننا وصلنا جبل لبني، وأخبرني أننا كنا سندفن أحياء، لولا أن جولدا مائير عرفت من موشيه ديان أن عدة آلاف من الأسرى اليهود في أيدي القوات المصرية.
دون إضاعة أي وقت نقلونا من جبل لبنى إلى مخيم في عتليت داخل فلسطين المحتلة، ولم يجدوا مكانا شاغرا لنا، فنقلونا إلى مخيم في حيفا.
تحممنا بعدما أمرونا بخلع ملابسنا بالكامل، ووزعوا علينا ملابس جديدة، وحصلت على جاكت أمريكي الصنع، أدهشني جماله وجودة صناعته، فلم أكن أشعر أبدا بالبرد في يناير أثناء اعتقالنا في خيام معسكر حيفا.
تم استجوابنا ووضعوني على جهاز كشف الكذب، عاملونا معاملة جيدة جدا، وكانت الوجبات ممتازة وتجيء في موعدها تماما، وكان الطعام من طهي جنود مصريين طباخين معنا في الأسر.
وفي صباح أحد أيام شهر نوفمبر أخذوا أربعة منا لإجراء حديث تلفزيوني، أدخلونا خيمة مجهزة للطهي، وجاء المخرج والمعد والمصور والمذيعة، وسألوني عن اسمي وسلاحي وفرقتي وعن رأيي في الحرب، أخبرت المذيعة أننا لم نبدأ عدوانا على أحد وأننا حاربنا من أجل استرداد أرضنا، وأن الحرب خراب ودمار ودماء.
مكثنا في حيفا ثلاثة أشهر ونصف، وفي صباح بارد من شهر فبراير سنة أربعة وسبعين أخبرونا أننا سنعود إلى مصر، ونقلونا إلى مطار بن جوريون ومن هناك ركبنا طائرة بوينج تابعة للصليب الأحمر الدولي، ركبت جوار النافذة وأنا غير مصدق، وعندما رأيت أهرامات الجيزة بكيت وصرخت فرحا: هذه مصر.
لم نهبط في مطار القاهرة، أهبطونا في مطار ألماظة، ومن ألماظة إلى منطقة عسكرية في سقارة، ودخلنا الحجر الصحي.
ضابط شاب تعلق في الجاكت الأمريكي وقال لي: سآخذ هذا الجاكت.
فقلت له: انتظر يا أخي حتى ألتقط أنفاسي، وتركته له.
عندما طرقت باب بيتنا وفتحت لي أختي شهقت وفقدت الوعي، لقد ظنت أن عفريتي ذهب لزيارتهم، فقد لبسوا الأسود واعتبروني ميتا منذ شهور.


أطفال لا ترى الملائكة
أشرف الخضري





1637088017401.png





1637088450506.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى