سهيل خليل - وجاء شتاء آخر

وكما هو الأخضر في الربيع و أحس أن الشتاء أقرب إلى قلبي، لاسيما ذلك الشتاء الذي ابتعد كثيراً اليوم، شتاء المواقد والحكايا وربابة أبي ونوس، وغناء أمي الحزين، وصمت أبي الغريب، كنا ننتظر المطر بلهفة العاشق لأن المطر هو عطر الأرض، كان أبي يحب المطر الذي تحمله النسائم الغربية، وكان المطر يهطل غزيراً مدرراً كان المطر خيوط موسيقا تهطل من سقف الدنيا، وكان الناس يخرجون من بيوتهم للتمتع برؤية الخير الهاطل، يجلس العجائز أمام المواقد والنساء يدخلن قرامي الحطب كي لا يبللها المطر، وكنت أجلس قريباً من الموقد أتابع الجمرات المتأججة وكنت أراقب ألسنة اللهب الزرقاء التي تلفظها الأغصان، كان الشتاء صديقاً جميلاً يحمل ثمار البلوط. و أذكر الآن بكل الحب أبا علي المحمود وهو من أكثر رجال قريتنا فقراً، كان أبو علي يتغير كثيراً عندما يتمدد قريباً من الموقد وأمامه كمية من ثمار البلوط والتين اليابس والجوز، وكان يتحدث كآغا عندما يلوك ثمرة بلوط ناضجة، بل وكان يغني أحياناً، كان يغني للبحر والزيتون ولوحيده الذي رحل إلى المدينة الكبيرة وضاع هناك، وكان يبكي في نهاية كل موال، كنت أحب مواويله لأنها تحمل شجناً لايدخل إلا إلى قلوب الفقراء، وكانت أمي تقول: يا ابني عندما يغني الفقير فإنه لا يغني ولكنه يبكي، في صوت الفقير بحة حزن، والجميل أن أبا علي يتغنى كثيراً بلباس الآغا وهو : طربوش الشمط وقنباز الفتلي وجزمة البيك، وذات شتاء مات أبو علي المحمود، ودفنوه في مقبرة القرية، ولم يضعوا شاهدة على قبره، فشاهدة الفقراء هي رحيلهم عن هذا العالم رحل أبو علي وكان زهرة بنفسج برية أقول رحل البنفسج فاستراح، هاهو الشتاء يدق الأبواب، وسيأخذ معه العجائز الذين اتعبهم العمر و...
سهيل خليل
الأحد 2/12/2007