أ. د. عادل الأسطة - اغتيال مدينة... اغتيال يافا

"اغتيال المدن" حلقة بثتها قناة الجزيرة يوم الأربعاء 14/5/2014، في الخامسة وخمس دقائق مساء.
راق لي الموضوع فآثرت أن أشاهد البرنامج، وهكذا كان عليّ أن أعود للمنزل مبكراً، فثمة تقارير ومقابلات عن مدن فلسطين التي كانت تسمى فلسطين، وصارت، على رأي محمود درويش في إحدى قصائده، صارت تسمى فلسطين. فلسطين أم البدايات وأم النهايات.
تحدث في الحلقة كتّاب وأدباء وسكان عاديون أيضاً؛ أنطوان شلحت ود. رائف زريق، ود. نادرة شلهوب، وسعاد قرمان، ود. عادل مناع، وفخري جداي واسماعيل شحادة، ود. باسل غطاس.
وتابعت الموضوع، كما تابعت يوم الجمعة (9/5/2014) برنامجاً آخر عن يافا أصغيت فيه إلى أبو صبحي اليافاوي، ما دفعني في اليوم نفسه إلى كتابة أسطر عنه أدرجتها على صفحة الـ في سبوك الخاصة بي.
وثمة تشابه في البرنامجين ما بين شخصيتيْ إسماعيل شحادة وأبو صبحي، وربما اقترب منهما السيد فخري جداي.
تحدث هؤلاء الثلاثة عن مدينتهم التي عاشوا فيها قبل العام 1948، وظلوا يقيمون فيها ما بعد ذلك العام حتى اليوم.
تحدثوا حديث من يحن إلى المكان وهو في المكان، وهو ما فعله اميل حبيبي في روايته "اخطية" التي مهد لها قائلاً: إنها حنين إلى حيفا في حيفا. إنها ضرب من النوستولوجي، فقد أتى فيها على حياته في المدينة قبل العام 1948، وذكر بعض رفاقه الشيوعيين، مثل رضوان الحلو، كما ذكر أيضا من درس في حيفا من أبناء الريف الفلسطيني، وفي خرافيته خرافية سرايا بنت الغول، ذكر المرحوم العلامة د. إحسان عباس، إن لم تخني الذاكرة.
إسماعيل شحادة تحدث من الذاكرة التي ظلت تحفظ الأسماء، بل وأسماء الأغاني وأسماء الأفلام، وكرج عن ظهر قلب أغنية لصباح.
ذكر صالات عرض الأفلام صالة صالة، سينما سينما، ولم تختلف عنه ابنة حيفا الكاتبة سعاد قرمان التي أتت على مشاهداتها تلك الأفلام في حينه، حيفا التي كان اللبنانيون يأتون إليها لدخول السينما فيها، ثم العودة في صباح اليوم التالي إلى بيروت، فقد كانت المواصلات مؤمنة ومتوفرة.
أول ما قاله انطوان شلحت، في بداية البرنامج، هو أن الحركة الصهيونية أرادت تدمير المدينة الفلسطينية، فوجود هذه ـ أي المدينة ـ يبرهن على وجود شعب متحضر في فلسطين، وينقض، في الوقت نفسه، الرواية الصهيونية التي تزعم أن فلسطين أرض قفار لا حياة فيها، أنها مستنقعات تحتاج إلى تجفيف حتى تغدو صالحة للحياة، ولا كوليرا فيها.
سعاد قرمان أشارت إلى محاضرة أعدت لكاتب صهيوني ليتحدث فيها عن العلاقة مع الآخر الغريب، وقالت إنها اندهشت من العنوان، فها نحن أهل حيفا غدونا الآخر الغريب في هذه البلاد.
وعموماً فقد قال المتحدثون كلاماً موزوناً، كلاماً مهما وجوهرياً عن تدمير المدن الفلسطينية، ليس أقله أنها كانت مدناً متحضرة لها علاقات مع مدن العالم العربي، بل ولها صلات تجارية مع مدن العالم، فالبرتقال اليافي كان يصل إلى عواصم عالمية منها برلين، وعلى رأي د. عادل مناع، فقد كان برتقال يافا مشهوراً عالمياً. هل تحدث المتحدثون عن الحركة الأدبية والثقافية؟
لأول مرة سمعت عن شاعر اسمه اسماعيل الطوباسي، قال اسماعيل أبو شحادة إن هذا الشاعر كلما كتب قصيدة دخل السجن، وأما د. رائف زريق فقد تحدث عن المدينة كمركز إشعاع، إنها المركز الذي يشع على الأطراف وإليها.
وأشار انطوان شلحت إلى نجاتي صدقي ومحمود سيف الدين الإيراني كاتبي القصة القصيرة، لا الرواية.
إن غياب المدينة كان غياباً للقلب، فلا مشاريع قومية بلا مدن، وحين زالت المدن ـ أعني حين أهملت ـ اختفت الطبقة البرجوازية التي تشع، وهي الطبقة التي تستطيع أن تنتج أحلاماً.
وربما يتذكر من قرأ قصة أكرم هنية "دروب جميلة" (2007) ما أورده عن يافا قبل 1948، ماذا بقي من يافا؟ بقي قلة قليلة من سكانها، ماذا يمكن أن يفعلوا للمدينة بعد هجرة أهلها؟ وسيتذكر اسماعيل أبو شحادة مثلاً يردده أهل الريف هو: عشوة ليلة ما بتعين هزيل، ولم يبق في يافا شيء ذو بال، فلا مقهى ولا أي شيء، وعلى رأي فخري جداي: إن ما بقي من يافا لا يذكر، ما بقي من يافا سمّه ما شئت إلاّ يافا، يافا الآن مزبلة.
هل هذه هي صورة يافا في الأدبيات الفلسطينية؟ وهل ثمة كتابات عن المدينة بعد العام 1948؟ هل برز في يافا أديب لامع، بعد هجرة أدبائها وكتّابها؟ هل أبرز لها صورة ما في رواية أو في قصة قصيرة؟ لا شك أن ما كتب عن يافا من نصوص ليس أكثر من نصوص شعرية كتبها راشد حسين أو محمود درويش أو سميح القاسم، وما كتبه هؤلاء لا يظهر للمدينة صورة جميلة، بخلاف الصورة التي أبرزها لها شعراء المنفى، وقد كتب فيها رسائل ماجستير.
لكن الصورة كانت من الذاكرة، صورة متخيلة، صورة يافا قبل أن تتحول إلى بقايا مدينة، ولا أريد أن أقول ما قاله بعض المتحدثين: يافا الآن مزبلة.
عبثاً حاولت أن أتذكر نصاً روائياً لأديب فلسطيني يقيم في يافا، فلم يبق من سكان المدينة السبعين ألفا سوى خمسة آلاف حشروا في مكان واحد.
طبعاً ثمة تقارير كتبها شعراء مرموقون مثل سميح القاسم، ونشروها في الصحف والمجلات في 60 ق 20. مؤخراً كنت أقرأ السيرة الذاتية لسميح "إنها مجرد منفضة" (2011) وقد أورد فيها تقريراً كتبه في 30/12/1966، وكان نشره في صحافة الحزب الشيوعي الإسرائيلي (من ص288ـ299) وفيه يصور سميح مأساة العرب في المدينة، مأساتهم في السكن وفي التعليم وفي الحياة اليومية، وما ألم بمساجد المدينة، وبمقاهيها، وبمقبرتها، ويكتب كلاماً يدخل الحزن إلى القلوب.
ثمة مدرسة في يافا اسمها مدرسة حسن عرفة، والطلاب الذين يتعلمون فيها يتخرجون "زعران" يذهبون إلى الإصلاحية ـ دار إصلاح الأحداث ـ.
أين يافا بعد 1948، حتى 1966، من يافا قبل العام 1948، وربما تذكر المرء قصيدة راشد حسين الشهيرة "الحب... والغيتو":
"مداخن الحشيش في يافا توزع الخدر
والطرق العجاف حبلى.. بالذباب والضجر
وقلب يافا صامت... أغلقه حجر
وفي شوارع السما... جنازة القمر" (ص465).
وكما كتب، مقارناً ما كانت عليه، بما صارت عليه فهي "ـ لمن يجهلها ـ كانت مدينة/ مهنتها تصدير برتقال/ وذات يوم هدّمت.. وحولوا/ مهنتها تصدير لاجئين) (ص466).
زار راشد أيضاً يافا (تاريخ كتابة القصيدة 1963) فأخذ يلمّ عن جبهتها الجرذان ويرفع الأنقاض عن قتلى بلا رؤوس بلا ركب.
طبعاً سيكتب محمود درويش غير قصيدة يأتي فيها على يافا، ربما أبرزها قصيدته في رثاء أبي علي إياد "عائد إلى يافا".
هناك كاتب فلسطيني اسمه عيسى لوباني أصدر في العام 1994 كتاباً عنوانه "أم الخير.. و..." : إيقاعات على جدران ذاكرة ليست للنسيان" وفي الفصل الأول منه (ص5 ـ ص45) يأتي على يافا بعد العام 1948، فماذا كتب عن المدينة لما سيطر عليها الإسرائيليون؟
سكانها نعتوا أنفسهم بأنهم أصبحوا كالأيتام "أرأيت كنا كل شيء، وأصبحنا لا شيء!!) (ص6)، وهو ما ردده أبو صبحي في تقرير الجمعة 9/5/2014: "لقد صرنا كالأيتام على مأدبة اللئام".
سارد القصة أو أحد شخوصها يقارن بين يافا في زمنين، زمن الانتداب وزمن الدولة العبرية، ومما ينطق به:
"طفت حولها كثيراً وخصوصاً أيام الأعياد وما أكثرها!، والناس بثيابهم الملونة، طوفان من الفرح والمرح" "واستدارت ناحية شارع بطرس!!" وأضافت: "كان يسمى شارع الصاغة والذهب!! أما والآن، فقد تبخر الصاغة وتبخر الذهب وحل محلهما باعة الخردوات والأحذية العتيقة" (ص30). و... و... وكانت مدينة اسمها: يافا!!

د. عادل الأسطة
2014-05-18




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى