أمل الكردفاني- استلهامات من عدمية جياني فاتيمو

تبدو اقتباسات جياني فاتيمو في العدمية أفضل من تأملاته التحليلية التي تميل إلى الحذلقة. إنني سأستخدم هناك اقتباسه عن نيتشه، وهو الاقتباس الجوهري في العدمية، إذ يرى نيتشه أن العدمية "تدحرج الإنسان من المركز نحو المجهول".
لا يمكننا أن نتجاهل أن هذا هو الواقع الراهن المبشر به نيتشوياً، إنه سقوطنا خارج المركز. المركز هنا هو ما أسماه بموت الإله أو فلننظر إليه بالمفهوم التفكيكي عند دريدا. تبدو التفكيكية خاتمة العدمية، لانها تنهي سيطرة المركزيات، والسقوط في المجهول (تأجيل المعنى). غير أن هذه العدمية لا تعني بأننا سنقتل أنفسنا، بل على العكس إنها تدفعنا إلى العقلانية التي تنفي نفسها. أن تكون الذات هي المقياس لكل شيء كما يرى السفسطائيون بحق. وكما يبدو فإن العقلانية نفسها تعد مركزاً سيتم أو تم بالفعل التخلي عنه. ولذلك فنحن هنا ندخل في فلسفة التشتت الألانية (وودي آلان). لا نعني أن عدم يقينيتنا تجاه العقل بل تحوله لمعضلة ديالكتيكية، لا يعني أن العقلانية نفسها انحلت وحل محلها الجنون، إنما تعني أن اللا يقينية ستدفعنا أو دفعتنا بالفعل إلى العقلانية الحقة. التي تؤكد على الذات كحاضر لا شك فيه من الذات نفسها (أنا أفكر؛ إذاً أنا موجود). أذ لا شيء غير الإنسان الذي يجدر به -هو وحده فقط- أن يحدد حقيقته وحدود تلك الحقيقة. وهنا ستتساوى العديد من القيم أو في الواقع تفقد القيم قيمتها. سيكون بن لادن هو نفسه من قتله، ويكون كلاهما هما الإنسان السوبر الذي يمضي دون أن يلتفت إلى الخلف، إن بن لادن وترامب عدميان بإمتياز.
إن العدمية لا تلقينا فقط أمام المجهول وتتوقف، بل تستعيدنا إلى الواقع، كشجرة المعرفة. ولكنها تستعيدنا إلى الواقع لكي إما أن نمانع ونقاوم المعرفة لنتلتصق بالذات فنزداد جهلاً وعاطفية وأنانية، وإما أن نتجاوز الذات نفسها، فنلقي بها هي ذاتها إلى العدمية، وهنا يمكن للعدمي أن يشنق نفسه ببساطة.
السرديات الكبرى اسقطتها العدمية، ولم تعد قادرة على النمو في عقل الممانعين رغم جهلهم. لأن مفاهيمهم ترعرت في العقل الأداتي المتعنت. المركزيات التي تبددت، ستتحول لممارسات هستيرية كدوران المتصوفة حول أنفسهم كي يحموا الكينونة عبر الخفة، أو تجعل العدمي مجرماً، وهو هنا أكثر خطورة من باقي المجرمين، لأن الجريمة لا تبررها قضاياه الشخصية؛ بل تبررها اللا جدوى الكلية فهو مستعد لكل شيء وقابل لأي نتيجة.
تتمكن الأنظمة السلطوية (اي شبكة النفوذ حتى وإن لم تكن ظاهرة السلطة)؛ تتمكن من استغلال الشعوب، تحريكهم وتوجيههم، وممارسة قمع ذهني وجسدي شديد عليهم. سيتمكن كل عدمي من القول بكل ثقة ويقين بأن الماركسية ليست فلسفة بل مبادئ أخلاقية. وسيذكر نفسه بأن الأخلاق نفسها محل شك أو أنها نسبية.
تمنح العدمية تبريراً لكل شيء، إذ أنها تدعم الإنسان الخارق. وتؤكد على إرادة القوة وقوة الإرادة، فالبطولة لا تتحقق بالنصر، بل بشجاعة خوض المعركة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى