أ. د. عادل الاسطة - ذاكرة المنفى: ٢٣٧٤ يوما من الإبعاد

"ذاكرة المنفى: ٢٣٧٤ يوما من الإبعاد" هو عنوان كتاب تيسير نصرالله المولود في مخيم بلاطة ، عضو المجلس الثوري لحركة فتح ، وقد صدر مؤخرا ( ٢٠٢١) عن منشورات طباق.
يروي تيسير عن تجربته الشخصية التي مر فيها ، فيضيف إلى الذاكرة الفلسطينية صفحات عن معاناة الفلسطينيين وقسوة حياتهم في الوطن والشتات وفرح المبعد عن وطنه حين يعود إليه ولو اضطر أن يوافق على اتفاقية سلام لا تلبي أدنى طموحات شعبه الذي ناضل منذ بدايات القرن ٢٠ ضد انتداب بريطاني ظالم قمع الفلسطينيين وسجن أبناءهم وأعدم مناضليهم وأبعد سياسييهم وسلم بلادهم للصهيونيين القادمين من أوروبا ليقيموا دولتهم على أرض شعب سرعان ما هجروه . شعب ناضل ضد البريطانيين ثم واصل نضاله منذ النكبة ضد المحتلين ، فدفع ثمنا لنضاله عشرات آلاف الشهداء والجرحى ومئات آلاف السجناء ، ولا أعرف حقا عدد الذين أبعدتهم بريطانيا عن وطنهم في زمن انتدابها ، ولا عدد الذين أبعدتهم إسرائيل منذ ١٩٤٨ .
هحرت إسرائيل في ١٩٤٨ من ٦٥٠ إلى ٧٠٠ ألف فلسطيني عدهم تيسير نصرالله مبعدين إبعادا جماعيا قبل أن تلجأ إلى سياسة الإبعاد الفردي للنشطاء السياسيين ، وهي سياسة اتبعتها إسرائيل فأبعدت من مناطق ١٩٤٨ النشطاء سياسيا مثل حبيب قهوجي وصبري جريس وآخرين ، ومع احتلال بقية فلسطين في ١٩٦٧ صارت سياسة الإبعاد نهجا وممارسة وأسلوبا عقابيا لتفريغ فلسطين من نشطائها الباحثين عن حرية شعبهم .
منذ بداية الاحتلال في حزيران ١٩٦٧ وحتى فترة متأخرة واصلت الدولة الإسرائيلية هذا الأسلوب ، وقد كتب عنه الأدباء والمبعدون في أدبياتهم ، فقرأنا - وإن بإيجاز - قصصا قصيرة لكتاب القصة القصيرة المبعدين مثل خليل السواحري ومحمود قدري ومحمود شقير وأكرم هنية ، ثم قرأنا سيرا ذاتية لسياسيين مبعدين مثل عائشة عودة في " أحلام بالحرية " و " ثمنا للشمس " ، وهناك سير غيرية أيضا مثل السيرة التي كتبها محمد القيسي عن أبو علي شاهين " الهواء المقنع " و ... و... .
لا يقتصر تيسير في الكتابة عن حياته في المنفى ، إذ غالبا ما يربط بين ما مر به هناك وما مر به في الوطن ، فيأتى على تجارب سابقة له منذ بدأ نشاطه في مقاومة الاحتلال واعتقاله ثم اختياره في السجن لحركة فتح ليصبح عضوا فيها إلى الآن ، وهكذا نقرأ عن حياته في المعتقلات الإسرائيلية ليصبح جزء من السيرة الذاتية الجزئية له من أدبيات السجون التي كتب عنها المذكورة أسماؤهم أعلاه وعشرات السجناء الفلسطينيين ، وأحيانا يقارن بين ما قامت به سلطات الاحتلال وما قامت به بعض الأنظمة العربية التي أبعدته أيضا عن أراضيها . إنه يخجل من مثل هذه المقارنة ولكن هذا هو ما حدث .
في سيرته يكتب أيضا عن الرموز السياسية الفلسطينية التي التقى بها في المنافي مثل ياسر عرفات ونايف حواتمة وصلاح خلف وآخرين ، ولكنه يكتب بإيجاز شديد جدا ، وحتى حين ينتقد بعض سلوكات الفلسطينيين في تونس فإنه ينتقد نقدا سريعا خجولا . لا تروق له الحياة في تونس فيشعر بأن الفدائي فيه بدأ يذوي رويدا رويدا وهو لم ينتم إلى حركة المقاومة ليحيا مترفا ، ولذلك يطلب الانتقال إلى ليبيا ليعيش في معسكر تدريب للفدائيين وهناك يجد نفسه ويتمنى لو ظل في المعسكر الذي لم يتركه إلا حين علم بأن والدته سافرت إلى العراق وتريد رؤيته .
تذكر السيرة الجزئية لتيسير قاريء الأدبيات الفلسطينية بأدبيات فلسطينية أخرى حيث تتقاطع الكتابة أحيانا في موضوعاتها وإن اختلف الأسلوب اختلافا بينا ، وتحضرني هنا أعمال عديدة لمعين بسيسو ومحمود درويش وعاطف أبو سيف وربعي المدهون . لقد كتب الأولان أيضا سيرا جزئية لفترات من حياتهما ، ولكن كتابتهما كانت كتابة الأديب الشاعر الممتلك للغة الكتابة التي تحفل بالصور ، وهو ما تفتقده لغة تيسير السياسي الذي باعه في الكتابة أقل .
تجربة الإبعاد القسري عن الوطن وعدم لقاء المبعد بأهله إلا لقاءات عابرة في المنفى كتب عنها كثيرون . كتب عنها ربعي المدهون في " طعم الفراق " وكتب عنها أيضا عاطف أبو سيف في روايته الأخيرة " الجنة المقفلة " . في المنفى يلتقي الفلسطيني في أعمال هؤلاء الثلاثة بأمه وغالبا ما يكون اللقاء عابرا وسريعا ، وقد ألمحت إلى هذا في الأسبوع الماضي .
في ذاكرة المنفى يكتب تيسير عن الأعراس الفلسطينية هناك ؛ عن حفل زفافه وحفل زفاف المبعد جمال الشاتي وعن استحضار فلسطين وأعراسها ، ويكتب عن فرح المبعد حين يصبح أبا وفرحه هنا فرح مختلف ، إذ يتذكر ضابط المخابرات الإسرائيلي الذي يحاول في أثناء التحقيق والتعذيب اخصاء السجين حتى يحرمه من الذرية . كان يوم عرف تيسير أن زوجته حامل يوم فرح حقيقي له إذ لم ينجح السجان في مهمته ، وكان يوم رزق بابنته لين أجمل أيام حياته و ... .
ذاكرة في المنفى وإن كتب على عجل وبلغة متقشفة هي لغة السياسي غير المحترف أدبيا يبقى مهما للحفاظ على الذاكرة الفلسطينية ، وكما كتب محمود درويش :
" من يكتب حكايته يرث أرض الكلام ويملك المعنى تماما " .

الجمعة ٢٦ تشرين الثاني ٢٠٢١


أ. د. عادل الاسطة
( مقال اليوم الأحد في جريدة الأيام الفلسطينية ٢٨ / ١١/ ٢٠٢١ )



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى