الشاعر زين العابدين فؤاد يروى: مفاجأة صادمة فى أول حفل “لمولانا“ أيمن الحكيم

"رجعوا التلامذة" مستوحاة من أغنية فى ثورة 19 كتبها والد د. رتيبة الحفنى

ابتداء من هذا العدد نبدأ احتفالا يليق بمئوية الشيخ إمام عيسي المولود فى 2 يوليو 1918، عاشق مصر الكبير، وصاحب أهم تجربة فى الأغنية السياسية المصرية مع رفيق رحلته أحمد فؤاد نجم، والكفيف الذى أبصر روعة هذا الوطن وجماله، فغنى له ونذر نفسه وألحانه للدفاع عن الفقراء والمطحونين والمظلومين، ودفع أجمل سنوات حياته فى السجون والمعتقلات ثمنا لمواقفه، وفى الزنازين ارتفع صوته بالمقاومة وتسربت ألحانه من وراء القضبان .. لينتصر العود على السجّان.

فى غناء المقاومة يحتل الشيخ إمام مكانة رفيعة، وهو ما تجلى فى ميادين الثورة منذ اعتصام الطلاب فى ميدان التحرير ليطالبوا السادات بالحرب إلى ثورة الشعب على حكم الإخوان، وفى كل ميادين الثورة كان صوته حاضرا وأغنياته تملأ الوجدان وتهز القلوب وتُجّمع الجماهير وتزلزل الطغاة .

مائة عام تمر هذه الأيام على مولد صاحب (مصر يا امه يا بهية)، الأغنية الأيقونة التى صارت الميثاق الغنائى لعشاق هذا الوطن وثواره ..وهى مناسبة لنستعيد سيرة الشيخ وذكراه وذكريات الرفاق معه، لنرد عنه ظلما طارده فى حياته، فلم ينل ما يستحقه خلالها من تقدير ومكانة، فكان أغلب سنوات حياته مسجونا أو ممنوعا أو مطاردا.. ومحكوما عليه فى كل العصور ألا يصل صوته إلى الناس !

وكان الظلم قدرا لا فكاك منه فى الحياة والممات، فبعد رحيله فى 7 يونيو 1995بقى المنع والتعتيم على الشيخ وأغانيه، لكن صوت الرجل النحيل مازال قادرا على أن يتسرب من وراء القضبان ويهز الضمير والوجدان .

لنستعيد الشيخ وسيرته، ونوقظ الذكريات فى قلوب الرفاق، ونبدأ بشهادة واحد من أقرب رفاق الشيخ، عرفه واقترب منه طيلة نحو 35 سنة ، عاش تجربته من أولها، بل عرفه قبل أن يبدأ رحلته مع رفيقه أحمد فؤاد نجم فى العام 1962، أتحدث عن الشاعر المناضل زين العابدين فؤاد الذى جمعه بالشيخ إمام الشعر والسجن والصداقة، كتب له نحو 30 أغنية من أجمل أغانيه ربما كان أبرزها الأغنية موفورة الشهرة والذيوع (اتجمعوا العشاق فى سجن القلعة ), وفى رواية أخرى (مين يقدر ساعة يحبس مصر).

زين العابدين فؤاد يستعيد ذكرياته مع (مولانا) الاسم الحركى الذى عُرف به الشيخ إمام بين صفوة أصدقائه.. لنسمع شهادته:

(1)

عرفت الشيخ إمام من قبل أن يصير ملحنا، وعندما بدأ مشواره مع التلحين كنت أول من نظّم له حفلا جماهيريا ، قبلها كان الشيخ يغنى فى سهرات خاصة فى بيوت المثقفين والمحبين والعارفين بموهبته ووسط أعداد محدودة من الضيوف على قدر ما تتسع صالات البيوت، وكنت حينها – أكتوبر 1968- طالبا فى كلية الآداب بجامعة القاهرة، وذهبت إلى حوش قدم حيث يقيم ووجهت دعوة للشيخ ولنجم ولثالث الفريق محمد على عازف إيقاع الشيخ، وسألنى الشيخ إمام يومها: الجمهور ح يكون فى حدود كام واحد ؟ ، وكانت إجابتى جاهزة: فوق الخمسين !

ويوم الحفل انتظرت الشيخ خارج أسوار الجامعة واصطحبته إلى المدرج ، وكانت أعداد الحضور تزيد على 5 آلاف، ودخل الشيخ وهو لا يعرف بوجود كل هذا الحشد، وقدمته للطلبة: أوعدكم أنكم ستسمعون تجربة مختلفة تماما فى الغناء، ولم يصفق أحد فلم يكن الشيخ قد حقق شهرته الجماهيرية الواسعة، وغنى الشيخ أغنيته الأولى وفوجئ بعاصفة من التصفيق، فتنبه إلى وجود جماهير غفيرة ، ولكزنى فى قدمنى وهو يسألنى بغيظ: مش قلت لى إنهم خمسين ؟ ، فقلت مداعبا : فعلا قلت وما كذبتش ما هو 5 آلاف أكثر من خمسين !..وكانت هى المرة الأولى التى يغنى فيها الشيخ إمام فى حفل جماهيرى.

ومن حينها ارتبط الشيخ إمام بالحركة الطلابية التى كانت طليعة الحركة الوطنية يومها، وأصبح ضيفا على مدرجات الجامعة وحفلاتها ونشاطاتها ، واكتسب شهرة واسعة بين طلاب الجامعة، وعندما جاء ليغنى يوم يناير 1972 فى قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة كان هناك 20 ألف طالب وطالبة يرددون معه أغانيه، وبعدها بأيام جرى القبض على عدد من قيادات الحركة الطلابية وكنت منهم، ثم ما لبث أن (شرّف) الشيخ ونجم فى سجن القلعة ..

وحينها عمل مولانا ونجم أكثر من أغنية فى مديح الحركة الطلابية بينها بالطبع (رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد تانى )، ولابد من الإشارة إلى أن تلك الأغنية مستوحاة من أغنية ذاعت وقت ثورة 1919 كتبها د. الحفنى والد الناقدة الموسيقية الشهيرة د. رتيبة الحفنى وكانت كلماتها الأصلية تقول: يا عم حمزة إحنا التلامذة / ما يهمناش فى السجن ننام ولا فى المحافظة ..

كما كتب نجم قصيدته الشهيرة: أنا رحت القلعة وشفت ياسين ..التى عدّد فيها أسماء الطلبة المعتقلين: أنا شفت شباب الجامعة الزين / أحمد وبهاء والكردى وزين .. وبالطبع كان يقصدنى مع أحمد عبد الله رزة وأحمد بهاء الدين شعبان ..

(2)

كتبت للشيخ إمام حوالى 30 أغنية ، لكن كثيرين لا يعرفون أننى اشتركت معه فى عمل مسرحى غنائى كانت له ظروف غريبة وتوقف بسبب الانتفاضة الفلسطينية الأولى ..

أصل الحكاية أننى تلقيت اتصالا من فرقة (الحكواتي) الفلسطينية يخبروننى أنهم بصدد عرض جديد ويتمنون أن يقوم الشيخ إمام بتلحين أغانيه ويرجوننى أن أتوسط لهم عنده بحكم علاقتى به، كلمته فأبدى موافقة مبدئية وطلب أن يرسلوا له النص، وأرسلوه بالفعل مع المخرج الممثل إدوارد معلم وممثلة أخرى أصبحت من نجمات السينما الفرنسية ، وعندما وصلا القاهرة تعرضا لمشكلة مع شرطة السياحة وذهبت و(خلصتها) واصطحبتهما إلى بيتى فى منتصف الليل، وكنت قد أحضرت الشيخ إمام قبلها، وقرأت النص فى نفس الليلة وحكيته للشيخ فتحمس للفكرة .

كان النص عنوانه ( حكاية كُفر شما) كتبه مؤلف اسمه فرانسوا أبو سالم (وهو نصف فلسطينى ونصف فرنسي) وفكرته تدور حول مجموعة من الشباب الفلسطينى جاءوا للدراسة فى القاهرة عام 1947، ولما عادوا إلى وطنهم فوجئوا بقيام دولة جديدة اسمها إسرائيل، وبأن قراهم العربية أصبحت تحمل اسما عبريا ومن بينها قرية (كُفر شما).

لكن المفاجأة الأسخف هى أن الفرقة الفلسطينية انشغلت فى التجهيز للعرض لحد أنهم نسوا تكليف شاعر بكتابة أغانيها، ووجدت فى النص أماكن محددة للأغانى لكن الأغانى نفسها غير موجودة، والمشكلة هى أنهم بدأوا الدعاية للعرض فى رام الله وأعلنوا أن الستار سيفتح بعد أسبوع وأن المسرحية من تلحين الشيخ إمام ..وكان الشيخ يتمتع بشعبية واسعة بين الشعب الفلسطينى بحكم انحيازه للقضية وأغانيه الداعمة للنضال الفلسطينى على طول الخط ..

وتكاتفوا جميعا فى إقناعى بكتابة أغانى المسرحية، وكانت أكبر مشكلة بالنسبة لى أنه مطلوب منى كتابة أغنيات بلهجة غير مصرية وهو مبدأ رفضته طويلا، وحتى عندما عشت طويلا ببيروت لم أكتب أغنية باللهجة اللبنانية ، فأنا شاعر مصرى وأعتز بلهجتنا ولا أكتب إلا بها ..

واستسلمت لضغط الشيخ، وعملنا ورشة عمل، وكتبت ست أغنيات فى يوم واحد لحنها الشيخ فى نفس اليوم، كنت أكتب وهو يلحن على الهواء فى تجربة إبداعية مثيرة وملهمة ، ولم يخرج الشيخ من بيتى إلا بعد أن أنهينا هذه العملية وخرج الضيوف ومعهم الأغانى كاملة وجاهزة ..وبالفعل نجحنا فى إنقاذ العرض.

وبعد أسبوع من العرض اشتعلت الأحداث فى الأراضى المحتلة واندلعت الانتفاضة الأولى وفرضت قوات الاحتلال حظر التجوال وتوقف العرض ..والطريف أننى عندما سافرت إلى باريس فى العام الماضى – 2017- قابلت الفرقة الفلسطينية وكانت تقدم أحد عروضها فى العاصمة الفرنسية واستعدنا ذكريات (كُفر شما) وسيرة الشيخ إمام وألحانه ..

وما زلت أحتفظ بنص تلك المسرحية النادرة للشيخ إمام وألحانها وأهديت ثلاثة منها لصديقنا أحمد المناويشى ليستخدمها فى فيلمه الوثائقى (عندما قام الشيخ إمام).

لا توجد تلك المسرحية ضمن تراث الشيخ مثلما سقط منه أغنية للأطفال كنت قد كتبتها بعد عودتى من بيروت عام 1982، أغنية عن طفلة فلسطينية فى مخيم (عين الحلوة) أفسدت عليها الحرب طفولتها فوجدت نفسها تلعب حافية فوق ظهر دبابة وليس بعرائس القطن ككل صغيرات الدنيا ..ولم يغن الشيخ الأغنية بنفسه وغنتها طفلة فلسطينية .

(3)

ربما فى تجربتى مع الشيخ إمام الطويلة لم أحضر تلحينه لشغلى إلا فى هذه المسرحية وفى أول أغنية يلحنها من كلماتى وكان عنوانها (يا شمس ياللى هله) وكنت وقتها خارجا لتوى من السجن ولما قابلته راح يسمع منى ما كتبته من قصائد فى السجن ، وفجأة عندما سمع منى كلمات هذه الأغنية طلب أن أعيد عليه الكلمات: تاني، ثم مرة ثالثة، وبعدها أمسك العود ولحنها وإحنا قاعدين !

وكنت مجندا فى الجيش عندما اشتعلت حرب أكتوبر وحدث العبور العظيم ، وانفعالا بالنصر كتبت أغنية (الفلاحين) يوم 7 أكتوبر ونشرتها جريدة (الجمهورية) فى اليوم التالي، وكان عند الشيخ صديق مشترك لنا قرأ عليه القصيدة فأعجبته ولحنها ولم أكن أعرف بما حدث .. ولما نزلت أجازة بعد شهرين من بداية الحرب عدى عليّ صديقنا عدلى فخرى وأسمعنى لحنه للقصيدة. أعجبنى اللحن ، ولما كانت الأجازة لساعات معدودة فقد قررت أن أذهب فى آخر ساعتين لزيارة الشيخ إمام، وعلى السلم سمعته يغنى قصيدتى بلحن جديد ومختلف عما فعله عدلى ولم يكن الشيخ يعرف أنه لحنها ولم أكن أنا أعرف كذلك أن الشيخ لحنها ..وفى يوم واحد سمعت لحنين مختلفين لقصيدتى ..

وفى فترة تجنيدى كنت كلما مررت على الشيخ لزيارته يشكو لى مر الشكوى من كسل رفيقه أحمد فؤاد نجم، وحتى يستفز موهبته فإنه عمل مزيكا فيها طعم (المارش) وطلب من نجم أن يكتب عليها كلاما، وبالفعل كتب نجم سطرا واحدا: أنا الشعب ماشى وعارف طريقى ، وألح عليه أن يكملها ولكن نجم كان يوعد ولا ينفذ، وفى كل زيارة يشكو لى نفس الشكوى: صاحبك ما كملش الأغنية، وفى مرة انفجرت فى نجم: بص بقى ..الإجازة الجاية لو ما كملتهاش ح أكتبها أنا .. قال بثقة: الإجازة الجاية ح تلاقيها متلحنة !

وفى الإجازة التالية وأول ما دخلت على الشيخ قال بغضب قبل أن أسلم عليه: شفت .. ما كتبهاش! ، قلت لنجم: تعالى نعمل تجربة جديدة تتفق مع المزيكا الجديدة اللى عاملها الشيخ، أنا ح أكتب مقطع من الأغنية وأنت تكتب مقطع ؟ ، قال لي: موافق ..ابتدى أنت !

أخذت ورقة وقلما وانتحيت فى ركن وكتبت المقطع الأول: أنا الشعب والشمس وردة فى كمى / ونور النهار خيل بترمح فى دمى / وتقضى ولادى على كل عادى / ومين اللى يقدر يقف فى طريقي/ ده أنا الشعب ماشى وعارف طريقي.

الشيخ سمع الكلام وبدأ يلحن، وأعطيت نجم الورقة والقلم: يا للا أكتب مقطع ، قال لى بحسم : أكتب إيه ما أنت أخدت القصيدة فى سكتك خلاص ..مش ح أعرف أدخل عليها ..كملها أنت !

وكملتها ولحنها الشيخ ..لكن ما حدث من نجم بعدها كان مدهشا !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى