أمل الكردفاني- سايكولوجيا النهارات والمرض

ففي فوهة النور
يُدخل الخوف وجهه..
ذاك الكون المتقزم في الوعي..
في الذات..
عاريا في الألم..
مشنوقاً في أمنياته الفارغة..
سايكولوجيا النهارات..
والمرض..
يُدخل الخوف وجهه
متفحصاً هروباً منسحقاً
إلى اللا شيء وفجاجة اللسان..
وهنا أستذكر نصية صغيرة للصديق -النصف مالي- أحمدو أغ أبو اليسري، وهو الذي يدعو إلى أن تصبح جوازات السفر نهوداً أنثوية طرية، لتكتمل عولمته كعابر في إحداثيات التضاريس الأرضية. إذ يلفظ -كما أنا- الهويات، ومن هذه النقطة -على وجه التحديد- سأحاول تطوير رؤيتي تجاه سايكولوجيا النهارات والمرض، كمأزق وحل في نفس الوقت، مازق لأنها تستبعد -بطبيعانية واضحة- الهويات، وحل لأنها هكذا يجب أن تكون كما أرى. يبدو التنازع واضحاً بين سايكولوجيا النهارات، وسايكولوجيا المرض. فالأولى تجذبنا إلى الهوية والثانية تجذبنا إلى الذات بتجريدية طاغية. الأولى تسورنا بالسياجات الموضوعاتوية والثانية تسورنا بالسياجات الذاتوية. إنني أفكر دائماً بكل تشاؤم حينما أحاول تفكيك الحقيقتين، الحقيقة المواجهة للعالم، والحقيقة الكامنة فيه. كالهوية والنهارات التي تحمل رائحة كل رقعة ارضية. نهارات خاصة جداً Very special days، تدخل في حيازة الأرض بين إحداثية طول وعرض، كأنما الشمس مومس تمزق لحمها بحسب كل زبون. وأحمدو يبئر الجسد في النهد كما أبئر الهوية في النهارات والمرض. والمرض كألم، والجسد كساحة حرب خفية، والذاكرة هي المتحكم في كل شيء، ذاكرة المناخ وذاكرة الجنس وذاكرة الألم. لقد تجاهل إيمانويل ليفيناس الذاكرة عندما جعل الألم مركزياً، رغم أنها غرفة التحكم المركزية، التي تخلق الهوية والثورات والهمجية، والإبادات الجماعية، والحب، والرغبة والنزوع المستمر. وأحمدو أيضاً وأنا وغيرنا، نفعل ذات الأمر، لأننا نتصور -على نحو غامض- أن التحليل الذي يقوم به العقل مفارق للذاكرة، نحن في الواقع نفصل الذاكرة، ونضعها في رف بعيد منزوٍ، ثم نعود لمنهج التقسيم الأرسطي بتلهف وبنصف وعي لنحاول فهم هذا الشذوذ الذي ينتظمنا، فنجعل المجاز أساساً بدلاً عن الحقيقة (النهد، النهارات، المرض)، وكأنما الحقيقة نفسها غير متصورة، بل ربما هي مجرد وهم، كما تتصور عبثية مسرح آدموف وبيكيت، ووجودية سارتر وكامو، وشعرية هايدجر وكابوسية كافكا والتشاؤميات العدمية الأخرى، ويبدو الفن والفلسفة والأدب وحتى شعورنا الشخصي مجرد محاولات للنظر إلى الأشياء من زوايا أخرى، ليس لنصل إلى الحقيقة -لأنه لا أحد يعرف ما الحقيقة- وإنما لنكتشف ممرات جديدة بين الجبال.
وحين سأل العابر الشرطي عن الحب -في نصية أحمدو- كان -كما أتصور- يتلاعب بذاكرته، ذاكرة شمولية، ذاكرة القلب (الألم اللذيذ)، وذاكرة الذات بما هي ذات، وبكل أنانية الشوق للرغبة، وبكل تسلط النزوع إلى المعنى. هنا يختلط الأمر على الشرطي، حينما تتفكك هويته التقليدية فتتعولم ذاكرته أو تتمزق.. يصلح النهد جواز سفر عالمي.
هناك حد ما لكل شيء، حتى الفوضى، وهي الأساس الكوني، لها حدها الأقصى، وخصوصاً المعرفة، وقدرات العقل، والعاطفة، وعند أقصى ذلك الحد هناك أجهزة إنذار تدق بازعاج في لحظة الخطر، فالنهارات والمرض تمسان حدود الهوية، فتدقان الجرس، وتطلبان فصل كل العلائق عن بعضها البعض، لتنعم بقليل من الراحة. والإنذار هو السايكولوجيا، أي الرابط العصبي بالوعي الكلي. وبالتالي انكشاف وتموضع حقيقة ما أمام البصر. "أنت ستسقط"، "أنت يجب أن تغادر" ، "أنت هو أنت" و"أنت لا شيء"، و"حان الوقت"..الخ. تطلق الحقيقة المتموضعة رسائلها لتعيد صياغة الحقائق القديمة فتفرغها من حكمتها، ثم تستبدلها بها (كما حدث للشرطي)، ومثل ما يفعل سقراط ما محاوريه. المسألة برمتها زوايا أخرى للنظر، زوايا مختلفة لنكتشف ممرات جديدة بين الجبال. وهذا هو طريقنا الوعر..طريقنا الذي ننسبه إلى إنسانيتنا بكثير من الكبرياء وكثير من الجراح.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى