أمل الكردفاني - إبتلاء السماء بين الماضي والحاضر

فكرة وضع الإنسان في مأزق للتعرف على حقيقة ما سيختاره، فكرة دينية، نشأت بسبب شعور الإنسان البدائي بأن ما يحدث له من كوارث سببه ذنوبه التي في الغالب لا يعلمها، وهي الذنوب التي تثير الطبيعة وتغضبها، فتتساقط عليه حمم البراكين، وتغرقه طوفانات البحار، ويعطشه جفاف الأنهار وهكذا. وليكفر الإنسان عن ذنوبه نشأت فكرة القربان، أي تقديم شيء للطبيعة ليهدأ غضبها عليه. تطورت الفكرة بتطور مآزق الإنسان، وتعقدها، وتنوعها، بتنوع وتعقد تطوره المعيشي، فبدأ سقوط اسقف المنازل، أو انهيار بئر الشرب، أو احتراق منزله بسبب سيلان زيت المصابيح..الخ، وبلغنا من التطور، حالة القلق الوجودي الذي تخلص فيه الإنسان من خوفه من الطبيعة الذي كان الغالب، ليتحول إلى الخوف من الحياة بلا معنى وبلا قيمة، بلا عمل وبلا ممتلكات عقارية، وبلا سيارة وبلا قدرة على السفر والتفسح في الأرض، وبلا عاطفة او احترام الآخرين له واهتمامهم به، وربما أن يفشل في تجارته وعمله..الخ. كل تلك مخاطر تطورت وغيرت من موضوعات الخوف التي كانت تقليدية، خاصة بعد أن طفا على السطح الفكر الطبقي والمناوئ للطبقية ونهاية العبودية وبداية أفكار التحرر، والمذاهب الفردانية والليبرالية، والأمركة وثقافة الاستهلاك التي حصلت بدورها على منهجها السيكولائي الخاص بها.
وهكذا لم يعد بالإمكان اللجوء لتقديم القرابين كحلول سريعة، وأصبح الإنسان الفرد في مواجهة مصيره وحده. وليتمكن من المقاومة يبذل الإنسان جل همه للإندراج تحت جناح مؤسسة ما؛ قانونية أو طبيعية أو خليط منهما، لتحميه، كالدولة أو الوظيفة أو القبيلة أو الطائفة، أو حتى منتديات ثقافية يشعر فيها ببعض قيمته كإنسان.
وفي خضم تعدد وتنوع المؤسسات يفقد الإنسان تلك الحرية التي أعطتها لها بدائيته الاولى، فالطبيعة لم تفرض عليه الكثير من الشروط، وما توهمه من شروط كان بسيطاً كذبح بقرة، أو إلقاء عذراء في النهر ليفيض. أما المؤسسات فهي تفرض شروطاً دقيقة وقاسية، وبدون ضمانات، إذ يمكن أن يلفظ منها المرء في أي لحظة ولو بسبب غلطة بسيطة. يمكن للدولة ان تسقط عنك الجنسية، ويمكن للشركة أن تقيلك من عملك ويمكن للطائفة أن تعتبرك جاسوساً وتقتلك..الخ. ويمكن أن تكون من الأقليات التي لا نصير لها في الدولة فتعيش كشخص بلا أي حقوق، وبدون حتى جنسية، لأسباب مختلفة سببها الأول هو ضعفك وعدم قدرتك على مقاومة الأغلبية، أو اعتبارك ارهابياً وملاحقتك بالاعتقال أو حتى القتل. فالعالم اليوم هو عالم النُّظم systems تلك التي توفر لك حماية بقدر خضوعك لاشتراطاتها.
وهكذا فإنك كبشري، لا يمكن أن تخضع لحكم الحسن أو القبيح من الأعمال، ليس لأن فكرة الحسن والقبيح مختلف حولها فلسفياً ودينياً، بل فوق هذا، لأنك خاضع لاشتراطات المؤسسات، وهكذا، فليس عليك كعشماوي مثلاً أن ترفض تنفيذ حكم الإعدام بسياسي لأنك تراه مناضلاً ومقاتلاً من أجل الحرية، وإنما عليك أن تتجاهل معاييرك الشخصية هذه تماماً وتلقي بها وراء ظهرك. فمثلاً تحدث الاتحاد الأوروبي البارحة عن مرتزقة روس يقاتلون مع حفتر، هنا عليك أن ترى أن هذا شر لو كنت تحصل على مرتبك من الاتحاد الأوروبي، ولا تتحدث عن مرتزقة البلاك ووتر او الشيلدز أو حتى بلحاج الذي أعتذرت له بريطانيا عبر رئاسة الوزراء لأنها سجنته، ثم اطلقت سراحه ليعود إلى ليبيا ويباشر القتال هناك. هنا كل مؤسسة ستفرض عليك اشتراطاتها، فمشترط عليك -لكي تحصل على الحماية والمزايا- هو أن تلفظ فكرة الحسن والقبيح الخاصة بك- وتتبنى الحسن والقبيح الخاصة بالمؤسسة.
لقد خرج الإنسان من براح البدائية والطبيعة واصطنع المؤسسات التي بدأها بالأسرة، وانتهت بالشركات العابرة للقارات والحكومات الخفية ولوبيهات الضغط، والقوى الرأسمالية الطاغية على حياتك، بل والتي تضغط حتى على حكومات الدول الضعيفة الأخرى، لتكسِّر عظامها فلا تتمكن من المقاومة. ويتم تحسين وتقبيح المؤسسات لترتبط بالأخلاق، وهكذا تصبح تلك المؤسسات -حتى التمأسسات الفكرية كالدموقراطية- ذات آيدولوجيات تبرر القمع، وتبرر برنامج النفط مقابل الغذاء (مقابل اللا تجويع)، وتجعلك تراه كحسن لا كقبيح.
فكيف بعد ذلك كله يمكن أن يبتلى الإنسان ليُعرف إن كان عمله حسن أم لا؟
فكرة الابتلاء فكرة خطية، تفترض مناخاً وظروفاً بسيطة وغير معقدة، وتتجاهل ليس فقط ذلك الطاغوت المؤسسي، بل وحتى المدخلات والمتغيرات ذات التأثير السايكولوجي، فضلاً عن التعقيدات الدماغية وتباين الأنماط، وحالات النزوع العشوائي، والصدف، وغير ذلك. لم يعد بإمكان الإنسان أن يذبح خروفاً لينال الرضى من السماء كعمل حسن، فهو مواجه بما هو أكثر تعقيداً من مخاوف الطبيعة القديمة. إننا أنفسنا؛ وحينما نراجع أنفسنا بنزاهة - على قدر المُستطاع- سنجد أننا نجد تبريرات للأعمال التي من المفترض -وفق الظروف البدائية- أنها شريرة. كالكذب، وتملق مديرك في العمل، وأخذ البقشيش الذي ينتهك كرامة الإنسان العامل، والوقوف مع قوة سياسية تمنحك منزلاً ضد قوة سياسية أخرى لم تحصل منها على شيء، واستخدام الشعارات البراقة لخداع الشعوب ثم التملص منها عندما تصل إلى السلطة، وإلى تصيد أخطاء من وصل إلى السلطة لأنك لم تصل إليها قبله، والحسد، واللجوء إلى العنصرية لتحمي نفسك عبر هويتك العرقية، أو قتال طائفة بعد تكفيرها...الخ.
لم تعد مسألة العمل الحسن والعمل القبيح مجرد كلمات، بل دخلت هي نفسها في خضم الجدل الفلسفي، من مستويات عدة، تأريخانية ولسانية، وثقافية، أزدادت تفككا وتشابكاً عن البساطة التي يمكن أن نراها في صراعات الأقدمين كالمعتزلة ومناوئيهم.
أصبح العمل الحسن، مسألة غير قابلة للحسم، إذ يمكن أن نبرر ما يمكن أن يكون قبيحاً بدوافع حسنة، كحماية الدين أو حماية الثورة، أو حماية القبيلة، أو تحرير الشعوب كما برر جورج بوش غزو أمريكا للدول الأخرى. إن التبرير الأخلاقي جاهز، نمارسه مع انفسنا، ويمارس علينا، ويمتلك تأويلاته اللا نهائية، بحيث يكون المعنى الحقيقي مؤجلاً إلى ما لا نهاية كما ذهب دريداً في تفكيكيته.
  • Like
التفاعلات: محمود جلال

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى