د. صبري محمد خليل خيري - فلسفه الخير والشر فى المنظور القيمى المقارن

تعريف مفهومي الخير والشر :

اولا: الشر:ا/ لغه : قال ابن فارس" الشين والراء أصل واحد يدل على الانتشار والتطاير" ، ومنه الشرر: وهو ما تطاير من النار. والشر خلاف الخير، وهو السوء والفساد.ب/اصطلاحا:لايختلف المعنى الاصطلاحي للشر عن المعنى اللغوي ، فقد عبر العلماء عن اصطلاح الشر بقولهم" هو عدم ملائمة الشيء الطبع"، وهو اسمٌ جامع للرذائل والخطايا والسوء والفساد، وكذلك المصائب والبلايا.

ثانيا: الخير :ا/ لغة: هو اسم تفضيل على غير قياس ، وهو ضد الشر. والخير الحسن لذاته ، ولما يحققه من لذة أو نفع أو سعادة .ب/ اصطلاحًا: ما يرغب فيه كل الناس من أصحاب الفطر السليمة، كالعقل والفضل والعدل والأشياء النافعة كالمال.

فلسفه الخير والشر فى الفلسفة الشرقية القديمة:

البوذية: الإحساس بالألم والشر من أسس البوذية . اذ اعتبرت ان الحياة كلها إما ألم يتقلب فيه الإنسان طيلة حياته، وإما سرور ولذة سريعة وخاطئة ولابد ان تنقلب إلى الألم ، وسبب هذا الشر هو الجهل الذي يجب التخلص منه ، وهو ما لا يكون إلا بالقضاء على الشهوة، لانها السبب الرئيسي في الالم والشر، وذلك بالخلاص الذاتى بالتحررمن علائق الشهوة "عقيدة الكارما" ، وبهذا يتحرر الانسان ايضا من تناسخ الارواح الذى قررته الديانه الهندوسيه، لان سببه ارتكاب الانسان لافعال شريره فى حياته السابقه . ولا تقرر البوذية جزاء أخروي على فعل الخير او الشر، لانها لا تقرر خلود النفس. أما أوجه النقد الموجهة لها فهو انها تطرف فى التاكيد على وجود الشر ، لدرجه انكار– او التقليل من نسبه– وجود الخير فى الحياة- فهى تقوم على التشاؤم المطلق - كما ان هناك تناقض فيها بين نفيها لخلود النفس ، وإثباتها التناسخ بشكل سلبى - الذى مضمونه محاوله التحرر منه بعدم فعل الشر كما اشرنا اعلاه - لانه شكل من اشكال الإقرار بخلود النفس.

الزرادشتيه: تقوم على الثنائية اى القول بوجود الهين ، اله للخير"النور" وإله للشر"الظلام"، وبينهما صراع مستمر لا ينتهى الا اخر الزمان ، بانتصار اله الخير. اما أوجه النقد الموجه لها فهو انها قالت بوجود خير مطلق وشر مطلق- كمحصله لقولها بالثنائية ، التى هى شكل من أشكال القول بتعدد الآلهة "الشرك" ، وهو ممتنع عقلا- قبل ان يمتنع نصا ونقلا – لان المطلق ما يحده وجود غيره فلا يمكن تعدده.

المانوية :تقول ايضا بالثنائيه ، الا انها ترى ان الخير والشر فى حالة امتزاج " لان الانسان مكون من بعد روحى يمثل الخير وبعد مادي يمثل الشر.وبالتالى لا خلاص من الشر الا بموت الإنسان ، لذا فرضت الصيام المتواصل وعدم الزواج وغيره من أساليب تؤدي الى انقراض الجنس البشري. (أمل مبروك عبد الحليم / دراسة عن مفهومي الخير والشر). أما أوجه النقد الموجه لها فهى انها ايضا تقوم على التشاؤم المطلق ، اى التطرف فى اثبات وجود الشر لدرجه إلغاء وجود الخير فى الحياة. ومرجع هذا انها افترضت ان البعد الروحي يمثل الشر مطلقا- وهو غير صحيح- كما ان البعد المادى للانسان يمثل الشر مطلقا – وهو غير صحيح ايضا – فضلا أنها افترضت ان ارتباط الوجود الانسانى بالشر – غير المنكور- غايه فى ذاته ، وبالتالي فإن الغاية من هذا الوجود هو الشر، وبالتالى فهو ارتباط جوهرى من جهة الوظيفة. بينهما هو فى الحقيقة مجرد وسيلة لغاية اخرى ، بمعنى انه من لوازم الوجود "الانسانى"، الذى الغاية منه الخير، لكن طبقا لشرطي العقل"الوعي" والاراده "الحرية" (شروط التكليف)، وبالتالي فهو ارتباط عرضى من جهة الوظيفة.

فلسفه الخير والشر فى الفلسفه الغربيه

:ا/ فى الفلسفه اليونانيه:

سقراط : انطلق من مبدأ "اعرف نفسك بنفسك"، فمعرفة النفس هي معرفة الخير وتحقيق الفضيلة؛ لأن من يعرف نفسه يعرف الخير الخاص بها. ولما كان الخير الأسمى أو الغاية القصوى هي السعادة؛ فعلى الحكيم " الفيلسوف" أن يسعى إلى بلوغها بالعقل والتخطيط السليم. والسعادة التي يتحقق بها الخير الأسمى هي قناعة النفس وطهارتها، لذلك رتب على هذا المبدأ قاعدة مضمونها ان "الفضيلة معرفة والرذيلة جهل"، فمن عرف الخير فعله، ولا يأتي الشر الا بالجهل بالخير. وأهم أوجه النقد لمذهبه انه اعتبر ان هناك معيار وحيد للفعل الاخلاقى - وبالتالي فعل الخير – وهو العقل او المعرفه، بينما هناك معايير اخلاقية متعدده. والدليل على هذا ان الإنسان يمكن ان يعرف ان الفعل المعين الشر ويفعله ، كما فى ظاهرة الإدمان مثلا ، حيث لا يتوافر عامل الارادة وليس عامل المعرفة .

أفلاطون: قرر انه بالاضافة الى كون الخير قيمه، فانه ايضا مبدأ وجودى، ولكنه يعنى بالوجود عالم المثل ، الذى اعتبر انه وحده ذو الوجود الحقيقى،اما الوجود المحسوس فليس له وجود حقيقى عنده ، ومصدر اعتقادنا ان له وجود حقيقى خداع الحواس. وأهم أوجه النقد لمذهبه انه باستناده الى مفهوم وحده الوجود ربط الخير بالوجود الروحى بدرجاته المختلفة ، يلزم منه منطقيا ربط الشر بالوجود المادي بدرجاته المختلفة ، وان تقرير ان للخير وحده وجود حقيقى ، أما الشر فليس له وجود حقيقى .

ارسطو: انكر وجود عالم مفارق للعالم المحسوس، حتى ان الاله حسب تصوره كامن فى الطبيعة كمون النفس فى الجسد،وبالتالى فان القيم - بما فيها قيمه الخير- كامنة فى هذا العالم المحسوس وليس فى عالم مفارق .وقرر ان كل انسان لابد أن يهدف إلى تحقيق خير ما، ولكن لما كانت الخيرات كثيرة ومتنوعة؛ أصبح من الضروري البحث عن "الخير الأسمى" الذي هو غاية في ذاته، دون أن يكون وسيلة لغاية أبعد؛ هذا "الخير" الذي تستهدفه جميع الأشياء هو "السعادة", ثم ربط بين السعادة والفضيلة. واهم اوجه النقد لمذهبه انه يلزم منه – منطقيا - نفى وجود خير مطلق،لان العالم المحسوس –وهو العالم الوحيد الذى يقر بوجوده- محدود.

الأبيقورية: قررت ان اللذة هى الخير الأسمى، والألم هو الشر الأقصى، وليست الفضيلة قيمة في ذاتها، ولكن قيمتها تستمد من اللذات التي تقترن بها. لكنها عادت وقررت نوع من حساب اللذات، ودعت الى الاكتفاء باللذات الطبيعية الضرورية ... وأهم أوجه النقد لها هو التناقض بين تقريرها ان اللذه هى الخير الاسمى ، تقريرها ضرورة الاكتفاء باللذات الطبيعيه الضروريه.
ب/ فى الفلسفه الحديثه:

جان جاك روسو: رأى أن الطبيعة خيرة , وليس لنا أن نقاومها أو نعارضها في تقدمها الفطري. معنى ذلك أن الإنسان يولد خَيّراً خالصاً من الشرور، ولا يحوله عن خيرة إلا الإنسان الذي يعيش معه والبيئة التي تحتضنه؛ أي المجتمع والحضارة والنظم الاجتماعية. وأهم أوجه النقد لمذهبه هو انه يلزم منه منطقيا اعتبار ان الخير هو الحالة الطبيعية- التى افترض انها وجدت فى الماضي -وأن الشر هو التنظيم الاجتماعي للمجتمع.وبالتالى فان الخير غير قابل للتحقق الا بالعودة الى هذه الحاله الطبيعيه.غير ما اسماه " الحالة الطبيعية" هى مجرد افتراض لم يثبت وجوده، كما ان وجود تنظيم اجتماعى للمجتمع هو ضرورة اجتماعية لا يمكن ان يوجد اى مجتمع بدونه.

شوبنهاور: يرى ان محرك الحياة الأول هو الإرادة العمياء، أو بمعنى آخر رغباتنا الميتافيزقية التي توجه أفعالنا والتي نُساق إليها لا إراديًا، وهي محور الألم و الشر في الحياة؛ فعندما يرغب المرء ويريد، تزداد معاناته ذلك أن إشباع الرغبات عملية تسلسلية مستمرة لا تنتهي إلا بموت صاحبها. فشوبنهاور يرى أن مأساة الحياة تختزل في إرادتها ، وأن الخلاص من الشقاء والعناء إنما يكمن في التخلي عن هذه الإرادة. و هذا التخلي ممكن الحدوث وإن كان لحظيًا أو مؤقتًا، وهو يتجلى في الفن والدين؛ فالفنان حين يمارس الفن يتجرد من غرائزه النفسية، وموروثاته الفكرية والمجتمعية ويصور لنا الأشياء على هيئتها الحقيقية، أما الدين فإنه يؤدب الإرادة ويضعها تحت سيطرة العقل؛ فهو يأمر الإنسان بكبح شهواته وأهوائه النفسية. . . وأهم أوجه النقد لمذهبه انه بلزم منه منطقيا ان للشر وحده وجوده حقيقى،اما الخير فليس له وجود حقيقى. وهو ذو وجود مطلق.وكما ان هناك تناقض فيه بين تقريره ان الارادة مطلقه ، ووصفها بانها عمياء تتخبط يمينا وشمالا( فيحدث فى الحالة الاولى خير- مؤقت - ويحدث فى الحاله الثانيه شر)،فالعمى والتخبط قصور ، والمطلق كامل.

مذهب المنفعة:" يرى ان الخير هو المنفعة والشر هو الضرر. ولكن اختلف فلاسفة المذهب فى طبيعه المنفعة فيركز بنتام على المنفعة الخاصه، بينما ركز مل على المنفعة العامة . وأهم أوجه النقد لهذا المذهب ان المنفعه معيار" ذاتي" للحركه – فالحقيقه"الموضوعيه" تبرر المنفعة ،ولكن المنفعة لا تبرر الحقيقة- وبالتالى لا يصلح ان ان يكون معيار لما هو موضوعى" كالخير". (د. سمية الطيب/الخير والشر عند بعض الفلاسفة/ مجلة كلية الآداب /العدد التاسع والعشرون/ يونيو 2020م)

فلسفه الخير والشر فى المنظور القيمى الاسلامى:

اولا: تعريف مفهومي الخير والشر وانماطهما :

التمييز بين المستويين المطلق والمحدود : ينطلق تعريف المنظور القيمى الإسلامي للمفهومين من التمييز بين مستويين :

اولا: مستوى مطلق: الخير هو الوجود المطلق، ويترتب على هذا التعريف ان الله تعالى ينفرد بكونه الخير المطلق ، لانه ينفرد بالوجود المطلق غايه وفعلا " فينفرد بكونه الغاية المطلقة - وهو ما عبر عنه القران بمصطلح الألوهية - ، وكونه الفاعل المطلق - وهو ما عبر عنه القران بمصطلح الربوبية - ". ونسبة الخير المطلق لاى وجود سواه هو شرك "اعتقادي يتصل بالعقيدة عند المشركين، او عملي يتصل بالسلوك عند المسلمين " . ويترتب على هذا التعريف الآتي:

  • ان الخير طبقا لمستواه المطلق واحد لا يتعدد.​
  • ان مبداْ الوجود – طبقا لهذا المستوى اى الوجود المطلق كعله لوجود كل وجود محدود- هو الخير​
  • انه لا وجود لشر مطلق ، لان الوجود المطلق لا يتعدد – عقلا ونقلا- والمنظور القيمى الاسلامى يرفض القول بوجود شر مطلق كما فى الفلسفات التشاؤميه " كفلسفه شوبنهاور فى الفلسفه الغربيه".​
ثانيا: مستوى محدود" مقيد": الخير هو اتساق – عدم تناقض - الوجود المحدود مع الوجود المطلق،اما الشر فهو تناقض الوجود المحدود مع الوجود المطلق. ويترتب على هذا التعريف الآتي:

* ان الشر طاري فى الوجود – وطبقا لهذا المستوى – وهو محدود ومتعدد ومن أمثلته :

-1 الشر الغيبي" الميتافيزيقي" : ومصدره وجود غيبي محدود هو الشيطان وفعله فى الوسوسة.

- 2- الشر الشهادى : ويتضمن:

ا/ الشر الطبيعي" على المستوى التسخيرى " : ومصدره وجود شهادى محدود هو الطبيعة لا فى ذاتها ، ولكن فى حاله تأثيرها السلبى على الوجود الانسانى" . فلا يمكن نسبه الشر للطبيعه فى ذاتها، لأنه لا تتوافر لها شرطى الوعي وحرية الاراده،وظواهرها تؤدي وظائف معينة ولا يمكن وصفها بالشر الا فى تأثيرها السلبى على الوجود الانسانى.

ب/ الشر الانسانى"على المستوى الاستخلافي": ومصدره الوجود الانسانى لا فى ذاته، ولكن فى حالة تناقضه مع الوجود المطلق الذى ينفرد به الله تعالى ، اى مخالفة الإرادة الإنسانية للاراده الالهيه التكوينيه "السنن الالهيه "والتكليفية "مفاهيم وقيم وقواعد الوحى الكليه ". فارتباط الوجود الانسانى بالشر فى المنظور القيمى الإسلامى ليس غايه فى ذاته، بمعنى ان الغاية من هذا الوجود هو الشر- كما تفترض خطأ بعض المذاهب فى الطبيعه الانسانيه التى ترى ان الإنسان شرير بطبعه- بل هو مجرد وسيلة لغايه اخرى ، بمعنى انه من لوازم الوجود "الانسانى"، الذى الغاية منه الخير، لكن طبقا لشرطي العقل"الوعي" والاراده "الحرية" (شروط التكليف)، وبالتالي فهو ارتباط عرضى من جهة الوظيفة.

خصائص الشر الانسانى: ويترتب على هذا التعريف للشر الانسانى


- 1 ان الشر هو كل ما فيه ضرر الإنسان فى الدنيا والاخره،لان ضرر الوجود المحدود يحدث فى حالة تناقضه مع الوجود المطلق.

- 2 ولما كان ضرر الإنسان على نوعين : ما فيه ضرره فى كل زمان ومكان ، وما فيه ضرره- فى مكان وزمان معينين، فان للشر مستويين :مستوى مطلق مضمونه النوع الاول من الضرر- ومعيار تحديده الوحى ممثلا فى مفاهيمه وقيمه وقواعده الكليه، ومستوى مقيد "نسبى"، مضمونه النوع الثانى من الضرر معيار تحديده العقل الانسانى مقيدا بهذه المفاهيم والقيم والقواعد "الاجتهاد".

3- ان الوجود الانسانى - الذى يرتبط الشر بضرره-ابعاد متعددة "ماديه،عقليه ،عاطفيه، سلوكيه،روحيه ... ، وبالتالى فان الشر الانسانى ابعاد متعدده - وغير محصور فى بعد واحد- كما يلزم من بعض المذاهب ذات النظرة الأحادية الشر.

ان الخير المحدود يتصف بالتعدد ومن أنماطه

الخير الغيبى: ومصدره هو وجود غيبى محدود هو الملائكه،وعلته انها لا تخالف الاراده الالهيه مطلقا(لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) ، وعلمها وهبى- وليس كسبى- اى محصلة التعليم الالهى المباشر (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا).

الخير الشهادى:

الخير الانسانى:

مصدره الوجود الانسانى فى حالة اتساقه " عدم تناقضه" مع الوجود المطلق.

الغايه من الوجود الانسانى الخير، لكن طبقا لشرطى العقل"الوعى" والاراده "الحريه" (شروط التكليف)،اى الاختيار الواعى الحر بين الخير والشر ، قال تعالى( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) قال ابن كثير (الطريقين : طريق الخير وطريق )، تعالى(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)، قال ابن عباس( أي بين لها الخير والشر)

خصائص الخير الانسانى: ويترتب على هذا التعريف للخبر الانسانى :

-1 ان الخير هو كل ما فيه صلاح الإنسان فى الدنيا والاخره. لان صلاح الوجود المحدود يتحقق باتساقه مع الوجود المطلق

-2 ولما كان صلاح الانسان على نوعين : ما فيه صلاحه فى كل زمان ومكان ، وما فيه صلاحه فى مكان وزمان معينين، فان للخير مستويين :مستوى مطلق مضمونه النوع الاول من الصلاح- ومعيار تحديده الوحى ممثلا فى مفاهيمه وقيمه وقواعده الكليه، ومستوى مقيد "نسبى"، مضمونه النوع الثانى من الصلاح معيار تحديده العقل الانسانى مقيدا بهذه المفاهيم والقيم والقواعد "الاجتهاد".

3- للوجود الانسانى - الذى يرتبط الخير بصلاحه - ابعاد متعددة "ماديه،عقليه ،عاطفيه، سلوكيه،روحيه ... ، وبالتالى فان للخير الانسانى ابعاد متعدده – وغير محصور فى بعد واحد- كما يلزم من بعض المذاهب ذات النظرة الأحادية للخير الانسانى.

ثانيا: فلسفه مفهومي الخير والشر:

مفهوم التوحيد وانفراد لله تعالى بالخير المطلق: مضمون مفهوم التوحيد ان الله تعالى ينفرد بالوجود المطلق غايه وفعلا " فينفرد بكونه الغاية المطلقه - وهو ما عبر عنه القران بمصطلح الألوهية - ، وكونه الفاعل المطلق - وهو ما عبر عنه القران بمصطلح الربوبيه - . وبالتالى فانه يترتب على مفهوم التوحيد ان الله تعالى ينفرد بكونه الخير المطلق. ونسبة الخير المطلق لاى وجود سواه هو شرك "اعتقادي يتصل بالعقيدة عند المشركين، او عملى يتصل بالسلوك عند المسلمين " .

رفض مذاهب نسبه الخير المطلق لسواه تعالى : فالمنظور القيمى الإسلامي يرفض نسبه الخير المطلق لاى وجود سواه "سواء كان وجود مادى- كما فى مذاهب الفلسفات المادية الغربيه ومثالها اعتبار الطبيعه او المنفعه الماديه خير مطلق "، او معنوى"كما فى مذاهب الفلسفات المثاليه الغربيه ومثالها اعتبار العقل هو الخير المطلق" ، او انساني "كما فى النزعه الانسانيه الغربية -التى تتطرف فى اثبات الوجود الانسانى لدرجه الغاء الوجود الالهى-والتى تجعل الوجود الانسانى خير مطلق.

رفض مذهب وحدده الوجود وما يلزم منه من انكار وجود الشر: كما ان المنظور القيمى الإسلامي يرفض تعريف الخير بانه الوجود ، كما يلزم من المناظير القيميه التى تستند الى مذهب وحده الوجود،والذى يترتب عليه انكار وجود الشر"اى القول بانه ليس للشر وجود حقيقي ".بينما المنظور القيمى الإسلامي يرى ان للشر وجود حقيقى –ولكنه محدود.

اقرار الوجود الحقيقى المحدود للشر:فالمنظور القيمى الاسلامى يقر بالوجود الحقيقي للشر حيث يقرر القران حتى اقرب الاقربين كمصدر للشر ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِين) ) يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدًا ) ،ولكنه يقرر فى ذات الوقت انه محدود ولا يملك خاصية الاستمرارية مالانهايه ( قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقا(.

ظهور الخير الالهى المطلق : ولهذا الخير الالهى المطلق - شكلين من أشكال الظهور:


ظهور صفاتي: في عالم الشهادة " الحياة الدنيا" وله شكلين :

شكل تكويني " الخير التكويني ": يتمثل في الوجود الشهادى ، الشامل للكون المسخر والإنسان المستخلف ، والسنن الالهيه " الكليه او النوعيه " التى تضبط حركته ، والتى معرفتها والتزمها شرط لتحقيق الانسان ما فيه صلاحه فى زمان ومكان معينين.

شكل التكليفي "الخير التكليفى" : ويتمثل في الوحى ومفاهيمه وقيمه وقواعده الكلية ، والتى تهدى الإنسان لما فيه صلاحه فى كل مكان وزمان .لذا كان من معاني الخير فى القران الكريم القران ذاته قال تعالى(وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا) ، قال القرطبي(المراد: القرآن(.

مفهوم التسخير: مضمونه ان الظواهر والأشياء والكائنات التي لها درجة التسخير تظهر الخير المطلق الذى ينفرد به الله تعالى على وجه الإجبار، فهي دائماً آيات دالة على الخير المطلق الذى ينفرد به الله تعالى . ومن مظاهر هذا الاظهار- والتى اشرنا الي بعضها سابقا – الاتى

* تسخير الله تعالى لها للانسان ، اى ان تحقيق منفعته ومصلحته من غايات خلقها، قال تعالى ) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ . (ورد فى تفسير الطبرى( أَلَمْ تَرَوْا" أيها الناس" ، أنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ"من شمس وقمر ونجم وسحاب" ، وَما فِي الأرْضِ" من دابة وشجر وماء وبحر وفلك، وغير ذلك من المنافع، يجري ذلك كله لمنافعكم ومصالحكم، لغذائكم وأقواتكم وأرزاقكم وملاذّكم، تتمتعون ببعض ذلك كله، وتنتفعون بجميعه" ( .

*ان معرفه والتزم السنن الالهيه التى تضبط حركتها ، شرط لتحقيق الانسان ما فيه صلاحه فى زمان ومكان معينين

*فالطبيعه فى المنظور القيمى الاسلامى ليست شر فى ذاتها ، ولكن فى حالة تأثيرها السلبى على الوجود الانسانى" وفى الحاله الاخيره هو جزء من الابتلاء الالهى للإنسان"

مفهوم الاستخلاف: مضمونه إظهار الإنسان للخير الالهى المطلق في الأرض ، بتحديد- وليس الغاء- وجوده بالوجود الالهى المطلق تكوينيا وتكليفيا،وطبقا لشرطى الوعى والحريه ، وهو ما يتضمن اتساق – عدم تناقض- الارادة الانسانيه المحدودة مع اراده الالهيه المطلقه تكوينيا "بالالتزام بالسنن الالهيه"، وتكليفيا "بالالتزام بمفاهيم وقيم وقواعد الوحى الكليه" . لذا كان من معانى الخير فى القران الطاعة كما فى قوله تعالى (وأوحينا إليهم فعل الخيرات) ، قال القرطبي(أي: أن يفعلوا الطاعات(

وجود ابتلائى: فالوجود الانسانى "المستخلف " وجود ابتلائى، "اختبارى " ، اى مضمونه اختيار الانسان المستمر بين الخير والشر (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً )، لأنه هو الوجود المخلوق الوحيد " المكلف " طبقا لشرطي الوعي والحرية.

رفض التفسير السلبى للابتلاء :وهنا يتضح لنا خطا التفسير السلبى للابتلاء باعتباره مقصور على الابتلاء بالشر،لانه كما اشرنا اعلاه يتضمن الابتلاء بالخير والشر، بهدف فرزالانسان الخير- الذى يصبر فى الخير ويشكر فى الشر- من الانسان الشرير-الذى ىسخط فى الشر و يحجحد فى الخير- قالَ (صلى الله عليه وسلم)( عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ(. (رواه مسلم(..بل ان النصوص بقرر ان الابتلاء لا يكون بالضروره نتيجه عقاب الالهى بل قد يكون نتيجه محبه الهيه قال تعالى(الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (قال ( صلى الله عليه وسلم)( إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.)( رواه الترمذي).

شمول مفهوم الابتلاء: وهذا الابتلاء الالهى يشمل كافة مجالات الحياة ومستوياتها وعلاقاتها، قال تعالى (اواعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة )، ورد فى تفسير ابن كثير ( أي : اختبار وامتحان منه لكم ؛ إذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها وتطيعونه فيها ، أو تشتغلون بها عنه ، وتعتاضون بها منه)

.من غايات الابتلاء الرجوع من الشر الى الخير:والغايه من الابتلاء بالشر ليس عقاب المذنبين بل رجوع الناس من الشر الى الخير( وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، نقل ابن كثير عن ابن عباس ( يعني بالعذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها ، وما يحل بأهلها مما يبتلي الله به عباده ليتوبوا إليه(

سنه الكدح الى الله والجدل القيمى " الصراع المستمر بين الخير والشر" : من السنن الالهيه النوعيه التى تضبط حركه الوجود الانسانى المستخلف سنه "الكدح الى الله" التى اشارت اليها النصوص ، كما فى قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) ومضمونها ان تاخذ حركه الانسان شكل فعل غائى محود بفعل مطلق "الربوبيه بالمصطلح الفرانى "وغايه مطلقه "الالوهيه بالمصطلح القرانى"،وهذه السنه لها مستويات متعدده تكوينيه"تتصل بالسنن الالهيه " وتكليفيه"تتصل بالوحى"، ويلزم منها على المستوى القيمى ان حركه الوجود الانسانى المستخلف عباره عن صراع مستمر - لا يتوقف الا بتوقف هذه الحركه بانتهاء هذا الوجود بالموت – بين الخير والشر ، على المستويات المتعدده لهذا الوجود" الذاتيه والموضوعيه/الفرديه الجماعيه / ماديه والروحيه "المعنويه ، ورد فى تفسير الطبرى( يقول تعالى ذكره: يأيُّها الإنسان إنك عامل إلى ربك عملا فملاقيه به خيرًا كان عملك ذلك أو شرًا). وهذا الصراع فى المنظور القيمى الاسلامى هوصراع له بعد غيبى "ميتافيزيقى"تشارك فيه – بدون اجبار - كائنات غيبيه ( الشيطان بالوسوسه اى تزيين فعل الشر ، والملائكه بالاعانه على فعل الخير( .

شمول الجدل القيمى للوجود الجماعى والفردى:فالوجود الانسانى يجمع بين الاشتراك والتفرد ،لذا فان هذا الجدل القيمى والصراع بين الخير والشر يشمل الوجود الجماعى - بمعنى خضوع النوع الانسانى ككل له - والوجود الفردى- بمعنى خضوع كل افراد النوع الانسانى له- فاستمرار هذا الصراع تاكيد الشمول ، وليس دليل على ان التاريخ تكرارى كما فى مذهب التفسير الدائرى التكرارى للتاريخ ، وانصار مقولة " التاريخ يعيد نفسه ".

الامكانيه المفتوحة للتردى والترقى القيمى: فالمنظور القيمى الاسلامى يقرر ان الوجود الانسانى " المستخلف"، ذو امكانيه مفتوحه للترقى والتردى القيمى قال تعالى ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِيَ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ). فله امكانيه للترقى القيمى حتى يتجاوز درجه الملائكه ، كما فى حال الانبياء والمرسلين ( وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ)(الصافات:164).كماان له امكانيه للتردى والانحطاط القيمى حتى ينحط عن درجه الانعام ( انْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) ( الفرقان( 44.

معيار الوجود الانسانى كمى وكيفى:فارتباط الوجود الانسانى بالشر لا يقلل من قيمته - ككل - والدرجة العاليه التى وهبها الله تعالى له - ككل - فى سلم الوجود " وهى درجه الاستخلاف" (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ * قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ).وذلك لاسباب اهمها ان معيار هذا الوجود ليس كمى"عددي" فقط كيفي ايضا ، بالتالى فان مجرد فعل جزء منه –وليس كله – للخير كافى لاثبات هذه القيمة حتى لو فعل أغلبه الشر- لان فعل الخير هنا جاء محصلة اختبار حر واعى وهو غير متحقق فى درجات الوجود الاخرى غير درجه الوجود الانسانى . فالكثره والقله ليستا معيار مطلق ووحيد فى المنظور القيمى الاسلامىب ، بمعنى ان هناك كثره محموده تلتزم بالخيركما فى قوله (صلى الله عليه وسلم) (علَيكُم بالجماعةِ وإيَّاكم والفُرقةَ فإنَّ الشَّيطانَ معَ الواحدِ وَهوَ منَ الاثنَينِ أبعدُ )(الراوي : عمر بن الخطاب - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترمذي) . كما ان هناك وكثره مذمومة تلتزم بالشر، كما فى قوله تعالى : (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ )(سبأ: 13)،و( فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين )(الذاريات : 36)،و(ُقل لَّا يَسْتَوِي الْـخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْـخَبِيثِ )( المائدة: 100(

التفسير الصحيح لمقوله الانسان خير بطبعه: فالتفسير الصحيح لمقوله الانسان" خير بطبعه " هو انه تتوافر للإنسان – عمليا - إمكانية فعل الخير- وقد عبر القران عن هذه الامكانيه بمصطلح الفطرة ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ (

مقارنه بين مفهومى الفطرة والطبيعة الإنسانية: فمفهوم الفطرة في المنظور القيمى الاسلامى ،هو المفهوم المقابل لمفهوم الطبيعة الإنسانية في المنظور القيمى الغربى- خاصة المستند الى الفلسفات المثاليه والليبراليه- ، والذي يتجاوز في ذات الوقت سلبياته. حيث ان مفهوم الطبيعة الإنسانية في المنظور القيمى الغربي ، يتضمن دلالة أن الوجود الإنساني هو وجود مطلق،وبالتالى فان له طبيعه ثابته ، قد تكون خيره- كما فى مذاهبها القائمه على التفاؤل المطلق - او شريره - كما فى مذاهبها القائمه على التشاؤم المطلق - . بينما مفهوم الفطرة فى المنظور القيمى الاسلامى يتضمن دلاله أن الوجود الانسانى وجود محدود بالوجود المطلق - الذى ينفرد به الله تعالى - فالفطرة مشتقه من الخلق وهو صفة ربوبية ينفرد بها الله تعالى- ومضمونها الفعل المطلق فى الايجاد- (فاطر السماوات والأرض) (الأنعام: 14 ) (ومالي لا أعبد الذي فطرني) (يس: 22) فالفطرة تتعلق بظهور الفعل المطلق في الإيجاد- اى الخلق كصفه ربوبيه-- في شكله الأخير،المرتبط بالوجود الشهادى المحدود الزمان والمكان، أي ظهوره كهداية "تكوينية"، فهي بالتالي إمكانية انضباط حركة الإنسان بالسنن إلالهية الكلية والنوعية، التى تضبط حركه الوجود الانسانى "المستخلف"، وهى لا تتبدل، لذا نجد أن القرآن يعتبر أن "عدم التبدل" هو سمة مشتركة بين الفطرة والسنن الإلهية: قال تعالى (ولن تجد لسنة الله تبديلا) (الأحزاب: 62، الفتح: 23)، وقال تعالى (فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا تبديل لخلق الله))الروم: 30(

نقد لمذهب: وإذا كان هناك مذهب فى تفسير الكشف او الحدس او الالهام يستند الى تصور للفطره باعتبارها قائمة على مبادئ قبلية سابقة على تجربة الإدراك الحسي ، ومنفصلة عن الواقع الموضوعي- فهو يقارب التصور الغربى لمفهوم الطبيعة الإنسانية- استدلالاً بالعديد من النصوص واهمها حديث الفطرة (كل مولود يولد على الفطرة)، غير أن هذا المذهب ترجع جذوره الى مصادر اجنبيه "الفلسفه الافلاطونيه" ، ويتناقض مع منهج المعرفه الاسلامى، الذى يجعل للواقع وجود موضوعي مستقل عن وعي الإنسان، ويقرر ان وسائل معرفته هي الحواس والعقل، (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة). لذا رفضه الكثير من العلماء يقول الامام ابن تيمية (ومعلوم أن كل مولود يولد على الفطرة، ليس المراد به أنه يوم ولدته أمه يكون عارفاً بالله موحداً بحيث يعقل، فان الله يقول والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً (" ، ويقول الرازي (إن هذه العلوم البديهية ما كانت حاصلة في نفوسنا ثم حدثت وحصلت .... إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها بواسطة إعانة الحواس التي هي السمع والبصر (..فمنهج المعرفه الاسلامى اذا يتفق مع التيار التجريبي فى الفلسفه الغربيه الحواس كوسيلة لمعرفة الواقع المادي ، لكنه يختلف عنه فى:

اولا: كونه لا يحصر وسائل المعرفه فى الحواس - فهناك العقل والوحي أيضا – ولا مصادر المعرفه فى الوجود المحسوس- فهناك الوجود العقلي والوجود الغيبي ايضا –

ثانيا:كما انه يرى ان وسائل ومصادر المعرفة السابقة تمثل المعرفة المكتسبة ، والتى جزء من المعرفة الانسانية وليست كلها ، فهناك ايضا المعرفه الفطريه ولكنها امكانيه وليست تحقق ..

ثالثا: ان المعرفه ليست مجرد عكس الوعى للواقع ، بل محصلة التأثير المتبادل بين العقل والواقع .

التمييز بين الإرادة والرضا الالهيين: ان هذه الامكانية مطلوبه - قيميا – لذا ميز النص القرآني بين الارادة والرضا الالهيين ،فالله تعالى أودع فى الإنسان القدرة على التزام إرادة الله التكوينية والتكليفية فينال بذلك رضا الله ( رضي الله عنهم ورضوا عنه )، كما أودع فيه القدرة على مخالفة إرادته فيوجب ذلك غضب الله (.. وغضب الله عليهم )ـ يقول ابن تيميه (وجمهور أهل السنة مع جميع الطوائف وكثيرون من أصحاب الاشعرى يفرقون بين الإرادة والمحبة والرضا ، فيقولون انه وان كان يريد المعاصي لا يحبها ولا يرضاها بل يبغضها ويسخطها وينهى عنها، وهؤلاء يفرقون بين مشيئة الله ومحبته ) (رسالة التوحيد، ص50).

الشر محصله الكسب البشري: فطبقا للمنظور القيمى الاسلامى فان الشر الحادث فى العالم هو محصلة الكسب البشرى ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون). (إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى الله ما لا تعلمون (

الشر ينسب الى مخلوقات الله ولا ينسب : وطبقا لهذا المنظور لا يجوز نسبه الشر الى الله تعالى ، فهو الخير المطلق على وجه الانفراد كما اشرنا سابقا ، ثبت عن الرسول (صلى الله عايه وسلم ) أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح ) لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشرّ ليس إليك ) ( رواه مسلم في صحيحه). ولكن يجوز نسبة الشر الى مخلوقاته (من شر ما خلق) (الفلق: 2(.

مفهوم الحكمة الالهيه المطلقه: وقد قضت إرادة الله بحدوث هذا الشر المنسوب الى مخلوقاته – واهمها الانسان فى حال مخالفته لها – ليس لانها محل رضا الله - ولكن على مقتضى الحكمة الالهيه المطلقه والتى تنقسم الى قسمين:

حكمه معلومه: يعلمها الإنسان . ومن أمثلتها التى اشرنا اليها سابقا ان حدوث الشر المحدود جزء من الابتلاء الالهى للإنسان .وان الابتلاء بالشر الغايه منه رجوع الناس من الشر الى الخير.

حكمه خفيه: لا يعملها الانسان, ومن امثلتها ان حدوث شر جزئي ظاهر ، قد يكون وراءه خير كلى خفى لايعلمه الا الله تعالى . ومن ادلتها قوله تعالى ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) . وكذلك قصه موسى (عليه السلام ) وعبد من عباد الله اتاه رحمه من عنده وعلمه من لدنه علما ، الوارده فى الايات 60-82 من سوره الكهف ، فهذه الايات تدل على ان هذا العبد من عباد الله فعل افعال ظاهرها الشر" جزئى " ولكن باطنها خير"كلى "، تنفيذا لاراده الله، ولكن على وجه الاختصاص باعتبار انه موحى اليه سواء كان هذا العبد نبى غير مرسل - وهو مذهب الجمهور- او عبد صالح من اولياء الله – ومذهب بعض العلماء- وفى كل الاحوال فان ذلك قبل ختم النبوه وانقطاع الوحى. يقول ابن حزم) والخضر "عليه السلام " نبي قد مات ، ومحمد "صلى الله عليه وسلم " لا نبي بعده)( المحلى:ج1/ص71( ، وورد في فتاوى الرملي ( أما السيد الخضر فالصحيح كما قاله جمهور العلماء أنه نبي ..)( ج4/ص222 ) ، وورد فى فتح الباري لابن حجر) وينبغي اعتقاد كونه نبيا لئلا يتذرع بذلك أهل الباطل في دعواهم أن الولي أفضل من النبي) (ج1/ ص 219 (

مفهوم اللطف الالهى: كما ان المنظور القيمى الاسلامى يقرر ان الشر الحادث فى العالم مع كونه محدود ومصدره مخلوقاته وليس ذاته ، وكون الله قد اذن به على مقتضى الحكمة الالهيه المعلومه او الخفيه - لغايات خيره، فإنه خاضع للطف الالهى المطلق والذى يدل عليه كون اللطيف من أسمائه الحسنى (وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ ) (الملك:14) وله مظاهر متعددة ومنها:

· ان الفعل الالهى المطلق- الذى عبر عنه القران بمصطلح الربوبيه - ييسر للإنسان سلوك الطرق التى تقربه الى الخير وتبعده عن الشر بطرق خفيه لا يعلمها ، على مقتضى الأسباب وبدون اجبار . يقول ابن القيم ( واسمه اللطيف يتضمن : علمه بالأشياء الدقيقة ، وإيصاله الرحمة بالطرق الخفية )( شفاء العليل :ص 34). ومن نماذجها فى القران الكريم قصة يوسف (عليه السلام )، وتنقل أحواله من رؤياه و حسد إخوته له، وسعيهم في إبعاده ومحنته بالنسوة ثم بالسجن .ثم بالخروج منه بسبب رؤيا الملك العظيمة ، وانفراده بتعبيرها ، وتبوئه من الأرض حيث يشاء، ثم ما حصل بعد ذلك من من لقاء بابوه واخوته ، واعتراف اخوته له بخطائهم واقرارهم بمكانته، وكل ذلك تمت الاشاره اليه فى قول يوسف (عليه السلام) (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ( السعدى / تفسير أسماء الله الحسنى/ ص227) .

· ان الفعل الالهى المطلق- الذى عبر عنه القران بمصطلح الربوبية - يخفف من الشر قبل حدوثه فى الوجود الشهادى المحدود زمانا ومكانا لطفا بالإنسان. وهذا التخفيف الالهى لا يتعارض مع مفهومى القضاء والقدر الواجب الإيمان بهما ، لانه لا يتعلق بالقدر المطلق ، اى الذى يعلمه الله تعالى ذو العلم المطلق على وجه الانفراد ، وتحققه غير مشروط ، فهو غير القابل للتغيير، بل يرتبط بالقضاء النسبى"اى الذى يعلمه سواه تعالى ممن علمهم محدود "كالملائكة مثلا" ، وتحققه مشروط "اى متوقف على شروط معينة"، فهو قابل للتغيير بالالتزام بشروطه ومثاله الزيادة فى اجل ورزق الإنسان ورد الشر ، المعلوم لدى ملائكه الموكل لها كتابه الاجال وقبض الارواح والأرزاق ، فى حالات البر والدعاء وصله الرحم ، كما في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال( لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وإن الرجل ليحرم الرزق بخطيئة يعملها ) ، وقال( صلى الله عليه وسلم (( من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره، فليصل رحمه).( رواه البخاري) ُ. قال النووي( ... وأما التأخير في الأجل ؛ ففيه سؤال مشهور، ولا وهو أن الآجال والأرزاق مقدرة، لا تزيد تنقص...وأجاب العلماء بأجوبة :الصحيح منها: ... والثاني : أنه بالنسبة لما يظهر للملائكة ... فيظهر لهم في اللوح أن عمره ستون سنة إلا أن يصل رحمه، فإن وصلها زيد له أربعون، وقد علم الله سبحانه وتعالى ما سيقع له من ذلك، وهو من معنى قوله تعالى" يمحو الله ما يشاء ويثبت" (.

مفهوم العوض الالهى: كما ان المنظور القيمى الالهى يقرر ان كل من أصابه هذا الشر المحدود ، المنسوب الى مخلوقات الله ، والذي أذن تعالى بحدوثه بحكمه الهيه معلومه او خفيه، فان الله تعالى يعوضه بدلا منه خير، سواء فى الدنيا او الاخره ، قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) ( ما أصاب العبد من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)( أخرجه مسلم في صحيحه(

مفهوم العدل الالهى: كما ان المنظور القيمى الاسلامى يقرر ان الفعل الالهى المطلق يتصف بالعدل. فكل فعل خير يثاب سواء فى الدنيا او الاخره ،وكل فعل شرير يعاقب فى الدنيا او الاخره .والعدل الالهى لازم التحقق فى المنتهى اذا لم يكن فى المبتدأ "كالجزاء الأخروى مثلا " ، وعلى وجه الاجمال ان لم يكن على وجه التفصيل " فمجموع ما يناله كل إنسان من نعم الهيه مساوي لنصيب غيره ، لكن تختلف انواعها ومجالاتها وازمنه تحققها: (مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) ، ( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(

الظهور الذاتي " التجلي" للخير الالهى المطلق: وله شكلين:

مقيد: فى عالم الشهادة " المتضمن الحياة الدنيا ". وله – ايضا- شكلين : تكويني يتمثل فى المعجزه، وتكليفي يتمثل فى الوحى، وكلاهما مقصور على الرسل والانبياء.وبالتالى فان غايتهما- كجزء من مفهومى النبوة والرسالة - هداية الإنسان لما فيه صلاحه فى الدنيا والاخره.

مطلق: في عالم الغيب " المتضمن للحياة الآخرة" . ويتضمن:


· الجزاء الأخروى على أفعال الإنسان الخيرة والشريرة فى الدنيا.( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، تحقيقا للعدالة الالهيه( جَزَاء وِفَاقاً)( النبأ [26:.

· الجنه كثواب اخروى على العمل الصالح للمؤمنين فى الدنيا قال تعالى(وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)، وقال تعالى (وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا).

· التجلي الذاتي – الخاص- المقصور على مقصور على الصالحين من المؤمنين- وهو ما عبر عنه أهل السنة برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة- والذي اشارت اليه النصوص كقوله تعالى(وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ). وبعبارة اخرى فان الخير المطلق الذى ينفرد بالله تعالى- يتجلى فى الحياه الاخره لمن أظهره فى ارض فى الحياه الدنيا (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ(


د.صبري محمد خليل/ أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه في جامعه الخرطوم
[email protected]




.....................................................................

الموقع الرسمي للدكتور/ صبري محمد خليل خيري | دراسات ومقالات الموقع الرسمي للدكتور صبري محمد خليل خيري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى