عبد الرحيم التدلاوي - مشاهد الانكسار في مجموعة "طرق لا تعرف وجهتها" لعبد الله فراجي.

يتناول العمل القصصي قضايا وثيمات ومشكلات اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، ونفسية، تعاني منها شخصياتها، وتؤثر فيها.
فهو يقدم على مستوى الفاعلين، مجموعة من المرضى والمعاقين، والمحبطين، والفاشلين، وكأن العمل مستشفى للأمراض النفسية والعقلية، ومكانا لإعادة التأهيل وصنع التوازن المفقود، جمع فيه كل مريض جسديا ونفسيا وكل محبط أو عاجز. وما هذه الأعطاب إلا وليدة مجابهتها لواقع مر غلبها، وأثر فيها سلبا؛ مجابهة غير متوازنة ولدت لا توازنها النفسي بالأساس.
واقع الجموعة:
الواقع الذي ترسمه القصص واقع مرير لا مكان فيه إلا للقوي يفعل فيه ما يشاء، وويل لمن سولت له نفسه القيام بتحديه؛ فمصيره السجن، والإذلال.
وقصة "وحش المدينة" ص39، نموذج لمثل هذه المعاناة جراء تسلط وقمع تعرضت لهما شخصية هذه القصة، الأمر الذي حرمها من النوم، لتجد نفسها نهب أسئلة حارقة، أفضت بها إلى الشعور بالقرف من نفسها ومن وحش المدينة.
هو وحش يقوم بوظيفة حماية المدينة من أي فكر تنويري، ولا يقبل أية معارضة له، وليس غريبا أن تكون مظاهر التفاهة، والميل إلى السطحية هي السائدة بدل الفكر المتنور، والأدب الرفيع، كما في قصة "حمق جميل" ص36، التي ترصد قلة المتابعة الجادة للقاءات الأدبية من طرف جمهور يفضل الشيخات وأردافهن بحمية تنطفئ في اللقاءات الأدبية التي تشعره بالملل والميل إلى النعاس.
ويختم السارد قصته بتحوير ساخر لبيت أبي تمام، حيث يقول:
الردف أصدق إنباء من الكتب....في رقصه الحد بين الجد واللعب.
وإذا كانت السخرية واضحة في هذه القصة، كما هي بينة في البيت الشعري المحور، فإن قصة "سؤال" ص47، تلبس هذا الرداء بشكل لطيف يوحي ولا يفضح، من خلال الحوار الدائر بين الجدة وطفلها ذي الأسئلة المحرجة، لتنهي الجدة الكلام بوصم الجد بالجنون، جنون محبة النساء.
بعض شخصيات المجموعة المعطوبة:
فإذا كانت قصة "ثالث اثنتين" ترصد العجز الجسدي لشخصيتها المحورية وما ينجم عنها من معاناة نفسية ووجودية، فإن قصة "رقصة الحمار" تقدم لنا شخصية هشة من الداخل، تسعى بكل الوسائل إلى إخفاء ضعفها بالتسلط على الآخرين، والظهور بمظهر القوي. لقد سعى السارد إلى فضح هشاشة شخصيته من خلال العلاقة المتوترة بينها وبين حمارها الذي بفضل ركلتين، جعلت "راس العود" يسقط لتظهر عورته/فضيحته.
عن التضاعف السردي أو تناسله:
تقدم لنا قصة" ثالث اثنتين" مثالا حيا عن هذا البعد؛ ففي الشاطئ وهو فضاء مفتوح ويعج بالحركة. نجد مشاهد متنوعة لا تساهم في تطور الحدث وتناميه بل هي مشاهد جامدة تنغل بحركة داخلية تركب بعضها كطبقات متعددة تهدف إلى إبراز ما ينقص الذات؛ وما هي محرومة منه. فكل مشهد يتضمن جزء مما ينقص السارد ويرغب في امتلاكه.
وهي قصة ذات شقين؛ شق الحديث عما يجول بداخل نفس السارد من أفكار ومشاعر متصارعة، وشق العكازتين. الشق الأول لم يكن سوى توطئة للشق الثاني الذي يعد لب القصة وجوهرها، حيث يعمد السارد إلى مخاتلة القارئ بإيهامه أن العكازتين لا علاقة لهما بالمتكلم، بيد أن القارئ سيفطن بعد توالي خيبات التوقع إلى أنهما للسارد الذي بدا أنه ينفيهما من وعيه، ويرفضهما عقلا وذهنا ونفسا: الحلم بريشة دافنتشي ترسمه بعضلات مفتولة ودون عكازتين، وفي الأخير يتقبل وضعه، ويتحامل على نفسه ليتكئ عليهما. ص28.
يعمد السارد وبخاصة في الشق الثاني من القصة إلى خلق مجموعة من الشخصيات والدفع بها لتحقيق تنام سردي، وهو ما يجعل تلك الشخصيات ترسم مشاهد متنوعة بتنوعها وبعدها النفسي والجسدي. ويكون ذلك بخيط البحث عن صاحب العكازتين؛ لأنه هو الخيط الناظم لهذه المشاهد المؤثثة لمشهد البحر قبل وأثناء الغروب.
والمثير في هذه القصة أن إيقاعها جاء بطيئا للغاية وهو ما يتناسب وحركة السارد ذي الاحتياجات الخاصة.
وكان ذلك، بحسب الكاتب، لإثارة التساؤل والغرابة والانتباه لظاهرة الإعاقة بكل تداعياتها النفسية والاجتماعية.. وكيف يرى المعوق العالم والناس والأشياء..
وفي المنحى نفسه تسير قصة "في انتظار الصباح" ذات الإيقاع البطيئ وخاصة في صفحاتها الأولى إلى أن تظهر الشاحنة الكبيرة فتتسارع الأحداث ويرتفع الإيقاع. القصة ترصد مشاهد متنوعة ومتراكبة لما يشهده المكان من حركة وسكون آناء الليل والصباح. وذلك لخلق التشويق والمتابعة وكأننا في فيلم سينمائي. والأمر نفسه في قصة "هروب" ص65، وغيرها ذات النفس الطويل.
وككل شخصيات المجموعة المهزومة تنتهي قصة الشاب الذي ظل ينتظر ظهور الشاحنة للعبور إلى الضفة الأخرى نهاية صادمة حيث سيعانق خيبته في مشهد مؤلم.
يحمل السارد سواء وظف ضمير المتكلم أم ضمير الغائب مصباحه كديوجين بحثا عن قيم إيجابية في عالم منحط. يعمل على تعرية هذا الواقع مبرزا قبحه وشدة وطأته علي الشخصيات وطحنه لها. ديجوين أو البطل الإشكالي غير المتأقلم مع واقعه المتردي. وهو في تعريته يظهر أسباب وجع الشخصيات ومعاناتها جراء غياب الحرية، إضافة إلى تداعيات الحياة وعلاقاتها المعقدة التي تخلق الإحباط والألم والخوف والانهزام والغضب..
غياب الحرية هي التيمة المبحوث عنها في كل الإبداعات العربية. فالظلم والرغبة في الهروب إلي الضفة الأخرى ووو كلها من ثر غياب الحرية والمساواة.
وإن كانت أغلب القصص لا ترصد الظاهرة مباشرة وقد تكون هناك ملامح وإشارات على القارئ والناقد استبيانها..
لقد وظف السارد/القاص لغة سهلة ومنسابة تناسب أوضاع الشخصيات وحالاتها النفسية، مع جعل بعض قصصة تطول باعتماد الوصف الداخلي والخارجي، وتعديد المشاهد، والتركيز على التفاصيل، ورصد أدقها، كما لو أنه يقوم بتدريب سردي يخبرنا من خلاله أنه بصدد كتابة عمل روائي سيفاجئنا به في القادم من الأيام.
**
طرق لا تعرف وجهتها، قصص قصيرة لعبد الله فراجي، مطبعة بلال. الطبعة الاولى سنة 2021 من الحجم المتوسط. وبتقديم للمرحوم الدكتور محمد البغوري.


1643968543731.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى