أمل الكردفاني- من الصوابية للمنطقية لدعه يمر

"الإجابات غير المنطقية تقود للإجابة المنطقية، لذلك عليك أن تتقبل جميع الإجابات كي تصل."
إن الجدل الفلسفي امتد إلى المسلمات السابقة، كالصواب والخطأ والحقيقة والوطنية..الخ. العالم أصبح نسبياً برمته وتهالكت فيه المطلقات..
حتى العلوم قصفتها ميكانيكا الكم وخلخلت مسلماتها الكلاسيكية.
أضحى علينا أن ننتقل من تلك التساؤلات، كالخير والشر والجمال والقبح والنفس والعقل، إلى العقل الأداتي، الذي يهتم بالنتيجة المستهدفة عبر الإجابات المشتغلة لا الإجابات الميتة.
وانحسرت الإجابات القديمة في الخصوصية العميقة للذات بحسب التجربة الخاصة، فالصواب هو ما تراه انت صواباً، الشر كذلك، الخير والقبح والجمال، أنت من يحدده أو لا يحدده، أي يمكنك ان تكتفي بالتعامل معه كما هو أو حتى تجنب إنزلاقاته الديالكتيكية. من هنا، حذفت ما كتبته من أن الإجابات الخاطئة تقودك إلى الإجابة الصحيحة، واستبدلت الإجابات المنطقية بالإجابات الصحيحة، إذ أن المنطق ذاته نسبي، وإن رجحت فيه إصابة الحقيقة. فليس من المهم أن نحسم مسألة الصواب والخطأ بل الأهم أن نهتم بالمنطق. رغم أن المنطق نفسه لم يسلم من النقد والخلخلة والتحطيم عندما طرح دريدا تفكيكيته.
نحن ننظر للأشياء بعقل أداتي، بحيث نقتحم المشكلات بحلول مباشرة لا تخضع لتقييم أخلاقي. كان هذا ديدن الإنسان في حالات الازمات أو ما نطلق عليها (تجربة حياة أو موت) أو غريزة البقاء. أما اليوم فنحن علينا أن نستخدم المفهوم الرأسمالي (دعه يعمل دعه يمر) أو بالفرنسية Laissez-faire؛
مبدأ عدم التدخل أو دعه يمر، لا يعترف بفكرة الصواب والخطأ والخير والشر، بل يعترف بالنتيجة؛ أي تحقيق الهدف المنشود بكل ليبرالية. هنا يمتلك المنطق شيئاً من الفحوى الأخلاقي moral thrust. وهنا يجب -حتماً- أن يتم ضرب المنطق نفسه. فحتى الإجابات غير المنطقية ستكون صالحة للإستخدام؛ ألا تكون تلك الإجابات (غير المنطقية) منطقية إذا حققت لنا الهدف أكثر من الإجابات المنطقية؟
إننا نعود للمنطق في حالات الضعف، ولكننا لا نأبه للمنطق في حالات القوة، فالمنطق هو موطن الحِجاج الذي لا ينهض إلا عندما تنعدم قوة القهر المادي. قبل الدخول إلى قاعة المحكمة هناك كلام، وبعد الدخول إلى قاعتها هناك كلام آخر. عندما يتمثل العقاب أمام أعيننا فإننا سنفكر بمنطق، وإلا أسأنا الأدب.
ألا نبتعد رويداً رويداً عن الصوابية والخطأية؟.. هذا ما حدث بالفعل. وما سيتسمر في الحدوث باستمرار، كل المسألة أننا نتعرى وننكشف، وهذا ما تدعوا إليه الليبرالية، التخلص من التزييف. الوقوع في الذات، العودة إلى (الطبيعانية) كمذهب كلي وبراغماتي (آيدولوجيا)، والذي يبدو في هذه الحالة عشوائياً لكنه يتبع نظاماً دقيقاً وخفياً هو النظام الكوني. وهو بالتالي ضد ما سواه، من صدقية وصوابية وخير وشر وحقيقة. يمكننا أن نصوره بحالتنا الشعورية حينما نشاهد النمر يلاحق غزالاً ويفترسه، ثم تتجمع الوحوش حول الفريسة وتمزع لحمها قطعة قطعة. إننا نقع بين شعورين، شعور بالحزن كقيمة إنسانية، وفي نفس الوقت شعور بأن علينا أن لا نتدخل لحفظ توازن الطبيعة. مع ذلك فالإنسان يتجاوز حدوده الحيوانية باستمرار، إنه لا يأكل ليشبع، لأنه لا يكتفي فقط بالشبع، لذلك فهو يختلف عن النمر الذي يفترس لإشباع غريزة الجوع. هنا يحدث التجاوز لفكرة (دعه يعمل دعه يمر)، لأنها هنا تتجاوز النظام الكوني وقوانين الطبيعة إذ أن المخاطب بها والقائم على تنفيذها هو الإنسان..والإنسان لا حدود له..فعندما ننتقل من الصوابية والخطأية إلى المنطقية ثم إلى دعه يعمل دعه يمر، فنحن حينئذٍ إنما نفتح الباب للمحارق، نفتح الباب لهلوكوست ضد الضعفاء، العجزة، المرضى، الفقراء،..الخ. وإذا كان الضعف نسبي بدوره، فنحن إما أن نعيش داخل حروب لا تهدأ نيرانها أو استسلام شامل يقسم العالم إلى عبيد وأسياد، وهو ما يحدث اليوم. إن كل الأجندة تقود العالم إلى تلطيف الإنسان، أي جعله أكثر ميلاً إلى الدعة والتسليم وعدم المقاومة وتقديس العمل، وإطاعة المؤسسات المالية الكبرى بدون نقد، أن تتقبل التحرير الاقتصادي، أن تتقبل عدم تدخل الدولة في قانون السوق، أن تتقبل هرب الدولة من التزاماتها الإنسانية الأخلاقية، أي أن تترك الضعفاء للهولوكوست.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى