د. عبدالرحمن عبدالسلام - "نِطَاسيُّ المَعَالي" بين شوقي والمتنبي

لأميرالشعراء في العصر الحديث أحمد شوقي، فتوحٌ شعرية تتعالى رفعةً وإبداعاً. ومن الآكد أنه استأهل بها إمارة الشعر عن جدارة واستحقاقٍ؛ إذْ كان يملك عبقرية فذَّةً يمتاح منها؛ كأنما يغترف من بحرٍ، أو يرشف الدُّرَّ من لُجَجِ المحيط. وكيف لا يكون أمير الشعر على هذه القدرة العجيبة من صيد المعاني؟ إنَّه يرى الشعراء قاطبةً فوق الناس، أو هم – إن شئتَ – الناسُ، ومَنْ دونهم درجات أخرى يتفاوتون فيما بينهم؛ لكنهم صنفٌ، والشعراء صنفٌ آخر. انظر إلى نرجسيته الكثيفة، وتأمل أفقها العجيب في هذين البيتين من مقطوعته الماسية الفاتنة التي عَرُجَ فيها مع مردة شياطينه الشعرية إلى سماوات الشعر، وتشبث فيها بمواقع النجوم من فلك الإبداع؛ فنسجها على عينه في تؤدة تئيدةٍ، وتبنَّك في حوكها وصهرها صهر السوار مزخرفاً على معصمه؛ فجاءت مفعمةً بغواية الغزل، ومترعة بفتنة الصراع الشفيف بين الرجل والأنثى؛ إذْ يقلب فيها نسق العلاقات بينهما رأساً على عقب، على خلاف المعهود في أعراف الإنسانية، والمستقر في دنيا الرجال والنساء؛ حيث يحرف سهم الهوى عن مساره الذكوري إلى أنثاه لكي يُصوَّب من الأنثى إلى الرجل؛ فيغشاه من كل مكان، ويجاذبه ثوبه العصيَّ المتأبيَّ عليه، مقراً ومعترفاً في خشوعٍ وخضوعٍ أن الشعراء وحدهم هم الناس، وأنَّهم يملكون مغناطيسية غواية العذارى؛ فليتقوا الله فيهن:
جاذبتني ثوبي العصيَّ وقالتْ: أنتمُ النَّاسُ أيُّها الشعراءُ
فاتقوا اللهَ في قلوبِ العذارى: فالعذارى قلوبُهن هواءُ.
ولئن كانت ممالك شوقي الشعرية وفتوحاته الباهرة قمينةً باستغراق الهُيام فيها، والتفتيش عن آلائها ولآلئها، فإنَّه من الصدق الاعتراف بأن لهذه المعارج الأميرية فضاءات أخرى نرجئ الحديث عنها لحين مواتٍ ربما نعود إليه قريباً؛ وإنما مارسَ علينا الغوايةَ هنا بيتٌ آخر لهج فيه الأمير بدلالة حِكْميَّةٍ على عادته المأثورة في النظم التي تربط بين الشعر والحكمة؛ حيث يقول:
أُسَاةٌ جسمِكَ شتَّى حِيِنَ تطلبُهم: فمَنْ لرُوْحِكَ بالنُّطْسِ المُداوينا؟
فما الذي في بيت الأمير يجلب الغَوايةَ، ويبث في جوانحنا فتنة المعنى؟
من ناحية المعطى المعجمي، فأنت أمام حقلين دلاليين يتضامَّان معاً في إيهاب معنى واحد قوامه: المرض، والعلاج. الأول يتعلق بمرض الجسم، والروح، وفيه: جسمك، تطلب، روحك، والثاني يتعلق بالعالج، وفيه: أُساة، شتى، النُّطْس، المداوين. غير أننا نفضل الأناة الدلالية عند كلمات ثلاث:
الأولى: الأُساةُ: وهي جمع آسٍ: وهو الطبيب أوالمداوي الذي يداوي العلل، ويعالج الأمراض. الثانية: النُّطْسُ: وهي جمع لكلمة: نِطاسيٌّ، أو نَطْسٌ، أو نَطُسٌ، أو نَطِسٌ، أو نَطِيْسٌ، وهو العالم بالأمور، الماهر الحاذق في الطب. والأصل في المعنى آتٍ من القدرة على التدقيق، والحكمة في استقصاء الشيء، وإمعان في النظر فيه، والتأنق في الملبس، والمظهر، والمأكل. الثالثة: الرُوْحُ: وهي الحضور النوراني الشفيف الذي يلامس الأجساد فتكون به حياتها.
ومن ناحية التركيب، وهذا هو الأهم، فإن البيت مبنيٌّ على جملتين اسميتين تفيدان الثبات، وقوة الدلالة، لكن مغزاه في البيت عالقٌ بالمفارقة في الأسلوب بين الخبر والإنشاء في الشطرين الأول والثاني. هنا تتبلور قضية شوقي عبر قدرته الفذَّة على صياغة بنيات ثنائية تتكاثر وتتعاضد في تدرجها التركيبي، وفي تصاعدها الدلالي نحو الفحوى الرئيس من البيت مصوغاً في مقابلة لغوية ودلالية تكاد تتشاجر اختلافاً في الشكل، وتتلاحمُ تعاضداً في المضمون. وتتمثل هذه الثنائيات الضدية التي تهيمن على بنية التركيب في البيت، في الآتي: أساةX النُّطس المداوينا، جسمكx روحك، شتىx فمن لــ؟ وفحوى القول الشعري في بيت الأمير، أن الوجود المادي الفيزيقي لا مشكلة في اعتلاله؛ لأن أُساته كثيرون حين تبحث عنهم؛ وإنما الإشكالية الرئيسة في في اعتلال الروح؛ إذْ من يداويها؟! لذلك يمكنك أن ترصد على مستويي الاستبدال والتأليف، أن شوقي وضع كل لفظةٍ في موضعها المناسب لها؛ حيث جعل الأساة/ الأطباء المختصين بعلاج الجسد كثيرين حين طلبهم؛ بما يعني أن الأزمة محلولة، بل هو يكاد يطمس أثرها كليةً؛ فيما ذلك كله تمهيد يتكئ على تكرار خفي يمنح النص سبكه الظاهر، وعلى تسبيبٍ منطقي يُمَكِّنُ للنص حبكه على مستوى المقولات والمفهومات؛ على أن نأخذ شأن دلالة الروح هنا بالمعنى الوسيع؛ أي إن الشأن لا يتعلق بالروح التي بها يحيا الجسد؛ لأن هذه في النهاية، وإن كانت نورانيةً، فإنها عالقة بالمادة الفيزيقية للجسد، وقائمة فيها، وإنَّما روح الأمير المقصودة، هي تلك التي تتعلق بالحضور الحيوي الأعمق والأشمل لفاعلية الإنسان الثقافية، والحضارية، والدينية، والتاريخية، والجمالية...، الروح هنا فضاءٌ كبير يعتمل فيه كلُّ هاتيك العناصر التي تسمو على الجسد، وترقى فوق المادة، وتعلو على الفيزياء؛ لتعرج بك إلى سماوات المعالي، وأنجم المكارم السامقة. لهذا؛ فإن الشأن الدلالي اقتضى "النُّطس لا الأساة" أي هو أحوج ما يكون إلى قدرة إلهامية تنفذ فيما وراء الطبيعة المعاينة، وتسبر سراديب الذات فتضيء كهوفها، وتقشع عنها علاتها الكائنة في الإحباط، والتخلف، والرجعية، والقنوط، واقتراف الآثام...، إن لك أن توسع هذه الدلالة إلى حيث تشاء؛ فإن قماشة المعنى من الثراء بقدر يواتيك بوابلٍ من الطل الخصيب.
في هذا السياق، لا يمكنك أن تقرأ بيت شوقي قراءة أمينة مستنيمةً، وإنَّما عليك بإنجاز قراءةٍ خؤونٍ تكشف عن شجرة نسب البيت إلى أبي الطيب المتنبي، وهو الرمز الأسنى الذي كان يحلو لشوقي أن يقترن به، ويُقرأ في حضرته جمالاً ومنافسةً؛ فاستطاب وصف بعض النقاد له بأنه متنبي القرن العشرين. يقول أبو الطيب في قصيدته التي رثى فيها أم سيف الدولة الحمداني:
يعلِّلُها نِطاسيُ الشَّكايا: وواحدُها نِطاسيُّ المعالي.
فما الذي يصل بيت شوقي ببيت المتنبي؟ ولربما يقول قائل، وهو مُحِقٌّ فيما يقول: إنه قضية المرض والعلاج التي هي نفسها في بيت شوقي. وهذا صحيح، ولكنه ليس الصحيح كلَّه؛ إذْ ثمة موضع مفصليٌّ في البيتين يلتقيان وينفصلان فيه في آنٍ؛ وهو قولاهما: "النُّطس المداوينا/ نِطاسيُّ المعالي." والحق أن التماهي والاشتجار قائمان في هاتين الاستعارتين: "نِطاسيُّ الروح، ونطاسيُّ المعالي." فأين التلاقي؟ وأين الافتراق؟
إن الاستعارتين يلتقيان في كثافة المهارة، وفي حدة الذكاء، ومضاء المَلَكَات التي يحوزها النطاسي مقارنةً بالآسي، أو الطبيب؛ إذْ هو أكثر تدبراً، وأبعد عمقاً في استكناه الأمر، وتشخيص علله، وصياغة علاجه، وهما يلتقيان في الأفق الدلالي النوراني والمعنوي الذي يصل الروح بالمعالي والمكارم والمجد. لكن الصورتين؛ ومن ثمَّ الشاعران، يفترقان في أفق الرؤية نبعاً وتمدداً. فشوقي الذي نشأ في كنف الملكية، يضمر في طيات نصه سؤالاً خجولاً يفتش عن قائدٍ روحيٍّ لا قائدٍ سياسيٍّ أو حربيٍّ؛ وليس ذلك إلَّا لأن شوقي لم يكن مشغولاً بمطمح الملك، ولا هو ساعياً إلى حيازة السلطان، وإنَّما هو الشاعر المترف الذي أضرَّت به تخمة العيش الرغيد، وما ينجم عنها من عللٍ؛ فيما أبو الطيب يتحرك في فَلَكٍ مختلف، ويمتاح من نبعةٍ مغايرة. إنَّ نطاسي المعالي التي أبدعها المتنبي على عينه في كثير أناةٍ، وعظيم رَيْثٍ، إنما تترجم من كثبٍ طموحه إلى القيادة الأمثولة، والقائد الأنموذج كائناً في سيف الدولة الحمداني. ولئن كانت هذه الاستعارة معيارية من حيث القياس في معهود الاستعارات المكنية لدى العرب؛ إذْ يمكنك قياسها على "جناح الذل" لأبي تمام مثلاً، إلَّا أن استعارة المتنبي غريبة في شحنتها الدلالية التجسيمية التي تخلق من القائد السياسي نطاسياً شديد الذكاء والدهاء والحذق في تعليل المشكلات السياسية، وتفكيك أزمات الدولة. إنَّ استعارة المتنبي تأتي بالغة الحشد والتكثيف الدلاليين؛ من حيث هي منتهى صورة بلاغية بدأت بتشبيهٍ بليغٍ قوامُه: "واحدها نِطاسيٌّ"، ثُمَّ يمدد الصورة خارجاً بها من حرج التشبيه إلى انفتاح أفق الاستعارة المكنية في قوله" "نطاسيُّ المعالي"؛ فكأنَّ جمالية الصورة طبقاتٌ متراكمٌ بعضٌها فوق بعضٍ في سلسلة تأليفة متقنة النظْم وفق مقتضيات علم النحو، وإكسير بلاغة العرب. إن المعالي هي بيت القصيد في رؤية أبي الطيب. وهي كلمة تُفيد دلالة الجمع لكل من: العلاء، والعلا، والمعلاة، ومعناها: الرفعة، والشرف. والنِّطاسة التي يمارسها القائد هنا ليست من قبل الصيدلة والعقاقير، وإنَّما من قبل الأسنة والسيوف والرماح؛ أي من قبيل القوة، والسلطان؛ لذلك قال في البيت الذي بعده:
إذا وصفوا له داءً بثغرٍ: سقاه أسنَّةَ الأسْلِ الطوالِ.
وإني لأكاد أحسب فيما أحسب، أنَّ المتنبي وهو يحدثك عن قيادة سيف الدولة، إنَّما يحدثك من وراء حجابٍ عن القائد المستهام إلى السلطة والملك في نفسه؛ لذلك تراه يُسرف في المعنى يستنزفه حتى أقصاه؛ فكأنَّه لا سبيل لزيادةٍ عليه؛ حتى ليُخيل إليك أنَّه مندغمٌ في عالم المُثُلِ الأفلاطونية، أو مسحورٌ بها يناغيها ويحاكيها في صبر سرمدي فتون، وهذا عينه السرُّ فيما يُكسب قائدَه النسغ العجائبي، ويضعه بامتيازٍ في مضمار الملاحم والأساطير؛ ليس على منهج اليونان والإغريق، وإنَّما على طريقة العرب في خرق العادة، وكسر الناموس، وغواية السحر، وخلابة الافتتان بالمعنى المُبْدّع؛ فقائد المتنبي الذي هو نطاسيُّ المعالي، مجربٌ، مفكرٌ، إلى أن يصل به حدَّ الإلهام:
وكفتْكَ التجاربُ والفكرُ حتى: قد كفاكَ التجاربَ الإلهامُ.
وهو القائد الرمز الذي يضفر في رمزيته أمةً بكاملها حالَ انتصارها على الأمم الأخرى، أمة التوحيد في مقابل أمة الشرك:
ولستَ مليكاً هازماً لنظيرِه: ولكنَّكَ التوحيدُ للشِّركِ هازمُ.
وهو ثابتٌ شامخٌ كالطود العظيم إزاء حالات الزمان التي تنتهبه من كلِّ حدبٍ وصوبٍ:
وحالاتُ الزمانِ عليكَ شتَّى: وحالُك واحدٌ في كلِّ حالِ.
لقد كان المتنبي نِطاسيَّ الشِّعْرِ الأعظم في سيرورة الجمالية العربية بامتياز، وكان نِطاسيَّ الأحلام العروبية الكبيرة عن جدارةٍ واستحقاقٍ، وكان نِطاسيَّ المعالي والمكارم يتخلق بها، ويحدو إليها، ويطمح فيها، ويتماهى معها حتى المنتهى. ولئن كانت نِطاستُه في عالم المُلْكِ غيرَ ناجعةٍ؛ فإنَّ نِطاستَه في دنيا الشِّعر قد صنعت له مُلْكاً بقدرِ معمار العروبة، وأفق الإسلام، ورحابة الإنسانية في الناس أجمعين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى