ميمون حِرش - أيادينا

نحات شهير، يعرض منحوتاته الأنيقة، بألق فنان مسؤول، ومؤمن بأن الفن بما هو صنو الحرية، وانعتاق الإنسان من قيد الإنسان، فقد لا يفتح باب سجن، لكن قد يقوى -غداً ربما- على فتح العيون، لترى بشكل جيد فظائع هذه السجون. يفعل ذلك، دون أن يستعجل الأمور، يؤمن بمقولة الفرنسيين: "الوقت لا يزال مبكراً لفعل أشياء كثيرة، وطيبة".
هو فنان يشبه كثيراً منحوتاته المعروضة، الفارق أن روحاً إلهية نفخت فيه، في حين هذه المنحوتات، هي جميلة حقاً، لكنها بلا روح، ومع ذلك يرفض أن يقتنع بهذا الفارق بينه وبين منحوتاته، بالمقابل يرى أن الأعمال الفنية، إذا كانت بلا روح، فهي "ترد هذه الروح" عبر خلق الجمال، وإشاعة المتعة، وحسبها هذا.

حين يعرض منحوتاته، تغص القاعة بعدد لا يستهان به من الزوار، منهم الفنانون، والكتاب، والشعراء، والرسامون، وحتى الناس العاديون.
حين ينظرُ إليهم، ويستقبلهم لا يفرق بينهم، يعتبرهم مثل منحوتاته، أو جزءاً منها على الأقل، كما لو كانوا يتقمصونها.

معرض الفنان، ذات نزوة ،وفي يوم مختلف تماماً، شهد حدثاً لافتاً، يتمثل في أن مجوعة من الزوار، حين كانوا يتأملون تمثالا، بدون ذراعين، تـبَـدَّى كواسطة العقد بين المنحوتات جميلا، بديعاً، أبدوا اعتراضهم، بل تبرمهم، وقالوا، بلغات مختلفة، لكن بإجماع:
"التمثال حتماً سيكون أجمل لو جعلت ذراعيْه تَفْرعان."

أضافوا:
"لقد قسوت عليه، جعلته يعاني بدون ذراعين، لذلك فكر في اقتراحنا."
وحين صارت القاعة فارغة خلا الفنان بنفسه، تأمل التمثال ملياً، وبدأ حوله يدور ويدور، مرة وجهاً لوجه، ومرة ظهراً لظهر، إلى أن انتهى به الأمر إلى "إضافة ذراعين" للتمثال.
وفي الغد حين عاد الزوار عثروا على فنانهم ميْتاً، مسجى وسط المنحوتات، لعلكم تتساءلون ما الذي حصل:
" خنقه التمثال" !!
حالنا، في هذه الحياة، أشبه بتمثال الفنان الذي حكيت لكم حكايته، ما أكثر ما نكون سبباً في سنوح فرص، يتفرع بنا و بها أيدِ طويلة، عوض أن تنتشلنا من الوحل، تعمل على إغراقنا ، لأننا نجعل أيدي الخونة طويلة أكثر من اللازم.

أمرنا مضحك حين ننتظر المناسبات حتى نرفع علامة النصر. سهل جداً أن نرفع اليد لنشكل علامة نصرٍ لا نستحقه أصلا.
وما أكثر الأيادي التي لوحت بالنصر !، لأن فلاناً فاز في الانتخابات، ولأن علاناً نال مفتاح عمودية مدينة معينة، ولأن تلك الحسناء فازت بلقب ملكة الجمال... لا نعرف سوى أن نرفع أيادينا من تخلف، وجهل تضحك منهما بقية الأمم، يد هنا ترفع، وفم هناك يفتح من أجل "التنديد". نستمرئ الأقوال، ونتحاشى الأفعال، نحن "ماركة" مسجلة في هذا بين الأقوام، ليس منا نسختان، نحن فقط لا غير.
لا تستهينوا، إخوتي، بأيديكم، تستطيعون بها أن تفعلوا المستحيل، لكن لا تنتظروا المناسبة (حسبنا ما انتظرنا)، ولعل أهم شيء يمكن أن نفعله بها هو أن نشير بها إلى لصوص مُدننا ، من الماء إلى الماء، بها نفضحهم؛ هم فوق، ونحن تحت، هذا ما فتحنا عليه أعيننا، ولكن أليس هذا دافعاً هو من القوة بحيث يبرر لنا ترجمة القولة المأثورة، التي تنص على أن الثمار العالية هي التي تغري بالرشق، ومع ذلك هم (اللصوص)، ليسوا مثل هذه الثمار في هذا المثل، لا أحد يرشقهم، نحن نفلح ليس في خصام هؤلاء الأعداء الذين استنزفونا، بل في خصام أنفسنا وإخواننا.
اليوم، الذي نقتنع فيه بأن أيدينا قد تجعل الكبير الخسيس ينزل من برجه العاجي إلى الحضيض، نفهم حين ذاك ماذا يقصدون بقولهم: "يد واحدة لا تصفق". نستطيع بأيدينا أن نحارب الخسة حيثما كانت فوق أو تحت، لا يهم، الأساس هو أن ندع الأيدي تقوم بوظيفتها، أما تركها - كأن فالجاً أصابها- لا تصلح سوى لهش الذباب ونشه فبترها أفضل والله.
ومن "زوربا" الشخصية الأسطورية اليونانية، نتعلم كيف لا نصبر على الخلل، شامخاً بدا حين بتر أصبعه؛ لأنه كان يعيقه في صناعة الخزف، لم يتردد في ذلك حين أحس بأن هذا الإبهام إنما يحول دون ما يريد، وإذا كان "زوربا" بتر أصبعه لأنه يعيقه، فما تكون حاله مع أصابع الآخرين إذا كانت معيقة لما يطمح إليه؟!

دعونا نحسب كم يداً ، في دول عربية، محسوبة على خير أمة أخرجت للناس نهبت خيرات الفقراء، وبدل أن تبتر، خضبت بالحناء، لنتعلم الدرس: كيف نصنع المستحيل بأيدينا، شرط أن نتركها تقوم بوظيفتها في الغرس، والبناء، والعطاء، والبذل، وحتى في استخدامها كسياط لجلد كل سارق، ولعل أهم شيء نفعله هو أن نمتنع عن أن نضع أيدينا في أيدي من يكرس الرشوة دون حسيب ولا رقيب. ونضع في جيوب المرتشين، بدلا من الورقة الخضراء، عقرباً.
أطفال الحجارة، كالقناديل، جاؤوا بالبشارة بمجرد حجارة، فضحوا سياسة إسرائيل بأيديهم الصغيرة، كانت عزلاء، لكن حين وضعوا فيها الحجارة، صارت كبيرة، وطويلة، فصفعوا بها وجوه الصهاينة الأنذال (لست أدري من قال: لو كنت أملك يداً طويلة لصفعت بها وجه العالم)؟ نحن لا نريد أن نصفع العالم، نريد فقط أن نغير المنكر باليد هنا والآن، وفي مدننا: "من رأى منكم منكراً، فليغيره بيده، ومن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
لندق ناقوس الخطر، بأيدينا نفعل ذلك، وبها نضرب على أيدي اللصوص عندنا.
الطفل "حنظلة" (في رسومات الفنان الكاريكاتوري "ناجي العلي") يتبدى أشعث الشعر، بأسمال بالية مرقعة، يدير ظهره للواقع العربي الذي خذله، ولم ينصفه، ولعلكم انتبهتم إلى يديه (الأساس هنا عندي هما اليدان)، يشبكهما وراء ظهره، وكان ممكناً أن يحتج ويداه ممدودتان، ولعل الرسالة هي: "إلى من يهمه الأمر، لقد شبكتم يدي من أجل أن تظل أياديكم أنتم ممدودة"، في مدننا العربية لدينا أيضاً "حناظلة"،ما أكثرهم !، كلهم بنفس ملامح "حنظلة العلي"، لكن لا أحد يهتم بهم في القرى، والجبال، والسواحل، ووسط المدن، وفي كل مكان!
وحتى لا نخذل هؤلاء في مدننا، وحتى نجعلهم يرون إلينا وجها لوجه، وليس ظهراً لظهر كما فعل "حنظلة ناجي العلي" من كره، واحتجاج، حري بنا نحن- الكبار- أن نفكر في مستقبلهم، علينا أن نفكر معهم لا عنهم حتى نهيئهم لغد أفضل، وقبل هذا الغد، دعونا ننخرط في الواقع لفعل الواجب، لنترك أيادينا تتشابك من اتحاد، لندعها تندى من تماس حتى ينبت في أطرافها الورق الخضر من أجل صغارنا، لأن كل مجتمع يُخذل فيه أطفاله، ولا يفكر في مستقبلهم، فهو إلى دمار. لنرفع علامة النصر من أجلهم، ولكن قبل ذلك لنقطع دابر المحتالين، واللصوص، نبدأ بأيديهم الآثمة .
الكاتبة "أحلام مستغانمي" رأت أنَّ الإنسان عليه أن يصاب بالعمى لبعض الوقت، لأن الأشياء من حوله، من كثرة رؤيته لها، لم يعد يراها. وأنا أميل، عن إعجاب، لهذا الرأي، وأضيف لو أن الإنسان يجرب العمى لمدة 24 ساعة فقط، ويستيقظ في أول يومه، لكن دون ذراعين، حينئذ سيتحسر على أشياء كثيرة.. أكثر من ذلك سيكتشف قيمة يديه وسط العتمة.
وأختم مقالي بأن أدعو الله أن يبارك لكم في جوارحكم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى