أدب السجون جمال الغيطاني - استراحة البيان ،ساعات في سجن مونبلييه الفرنسي..

نزلنا مدينة مونبلييه ليلا، المحطة الأولى في برنامج استغرق عشرة ايام في الجنوب الفرنسي، نظمته بلديات عدة مدن، ومزرعة (أوليفيه دي سريه) التابعة لوزارة الزراعة، بدعم من وزارة الثقافة الفرنسية. رفيق الرحلة محمد البساطي، هو ليس مجايلا لي فقط إنما صاحب حميم تمتد علاقتي به الى عمق يقارب الأربعين عاما، وما زلت أذكر لقاءنا الأول ذات صباح بعيد في ندوة نجيب محفوظ الاسبوعية بمقهى الأوبرا، عام واحد وستين، كان قادما من تأدية الخدمة العسكرية، أنهى فترة التجنيد منذ ساعات، لم تتغير ملامحه كثيرا خلال السنوات التالية، فيما عدا شعره الذي أصبح المشيب غالبا عليه. القول العربي المأثور يؤكد على اختيار الرفيق قبل الطريق، والبساطي خير رفيق للطريق بهدوئه، وطول تأمله، وتواضعه، جئنا الى فرنسا معا مرتين من قبل، الأولى عام أربعة وستين، عندما خصص العام للأدباء المصريين. والمرة الثانية الى مدينة صغيرة في الجنوب اسمها (خوفو) دعت الى معرض الكتاب الذي يقام بها سنويا، أربعة كتاب مصريين، كان الآخران، الشاعرة ايمان مرسال والروائية مي التلمساني. وقد دونت وقائع تلك الرحلة في «أخبار الأدب» في حينه. لا أنزل مدينة مونبلييه إلا وأتذكر العميد، الدكتور طه حسين الذي أقام بها ودرس بجامعاتها، ومنذ سنوات صحبني الصديق طلعت السنجابي المقيم منذ ربع قرن بها لأرى المنزل المتواضع القريب من الجامعة والذي كان العميد يقيم به مع شقيقه الذي رافقه في رحلته الدراسية. طبقا للبرنامج، كان علينا أن نفترق مؤقتا في مونبلييه بعد أن نمضي الليلة هنا، حيث يتجه محمد البساطي الى مزرعة (أوليفيه دي سريه) وألحقه بعد يومين، أشارك خلالهما في نشاط ثقافي تنظمه بلدية المدينة، مخصص كله لموضوع الحب، خلال أربع وعشرين ساعة، أشارك في ثلاث ندوات عن الحب، أولها وأغربها في سجن مونبلييه، بعد ذلك ألحق بصديقي البساطي في المزرعة التي تقيم معرضا للكتاب يتخلله ندوات يحضرها أدباء عرب وأجانب أوربيون. ندوة ثقافية في السجن؟ أمر غريب وجديد بالنسبة لي ومحير أيضا. أما الغرابة فلأنني لم أسمع بمثل ذلك من قبل. أن تدخل السجون ضمن نشاط ثقافي عام تنظمه بلدية المدينة، أما جديده فلأنها المرة الأولى التي أدخل فيها السجن ضيفا مؤقتا ولسويعات معدودة، ويرتبط هذا بالحيرة، إذ عرفت الاقامة في السجن، شهورا عدة كمعتقل سياسي، وأعرف نظرة السجين، محدد الاقامة، المعزول، الى الأشخاص الذين يراهم قادمين من العالم الخارجي لفترة محددة، ثم يعود كل منهم الى الخارج، الى بيته، الى حياته العادية، الى الواقع اليومي، يبدو هذا الشعور مكثفا بالنسبة للمعتقل، وهذا ما عرفته، المعتقل بخلاف السجين، السجين محكوم عليه بمدة معينة يقضيها كعقوبة، يعرف أنه في الساعة كذا، يوم كذا سوف يخرج الى الحياة العادية، وكنت أسأل المساجين الجنائيين الذين كانوا يجيئون الى معتقل طرة السياسي للخدمة، إذ كنا محرومين من العمل، والحرمان من العمل جزء من العقوبة، فالعمل يلتهم الوقت ويخفف من تأثيره، كنت أسأل كل منهم عن المدة المتبقية له، ولاحظت أنهم جميعا يحددون لحظة خروجهم بالساعة واليوم والسنة، بدقة شديدة، فيما عدا ذلك المسجون الذي يقضي عقوبة ممددة بسبب ارتكابه عدة جرائم قتل، ذكر السنة فقط، كان محكوما عليه بعقوبات مجموعها 86 سنة، كان يتطلع الى نقطة ما في الفراغ عندما ينطق محددا سنة خروجه، كان يقارب الأربعين، ولكنه يبدو واثقا أنه سيبلغ تلك النقطة من الزمن البعيد! أكره رؤية إنسان في ضيق مجبر عليه، مضطر اليه، خاصة إذا كنت في وضع أفضل نسبيا، من هنا مصدر حيرتي، فلم أكن أدري كيف سأتصرف بالضبط في مواجهة المساجين. لاحظت أن المسئولة الثقافية للمدينة أبدت ملاحظات عديدة، معظمها توجيهات خاصة بالزيارة، هي صديقة عزيزة، عرفتها منذ سنوات عندما كانت مسئولة ثقافية عن مدينة (أجد) الصغيرة القريبة من (مونبلييه).. تعداد سكانها سبعة آلاف نسمة فقط، ومع ذلك أقامت أنيت اليفيه عدة معارض للحضارة المصرية واسبوعا لنجيب محفوظ، الآن تمارس نشاطها في مدينة مونبلييه الأضخم مساحة، والتي يبلغ عدد سكانها حوالي مئتي ألف نسمة. قالت إن البرنامج الثقافي أدرج السجون في الأنشطة باعتبار المساجين جزءا من المجتمع، ويجب أن تشملهم الرعاية، كما أن مثل هذه البرامج تشعرهم بالمشاركة في أنشطة الحياة، قالت إنه يوجد في فرنسا نوعان من السجون، الأول للمدد الطويلة، والثاني للمدد القصيرة التي تتراوح بين ستة شهور وخمس سنوات والسجن الذي سيتم اللقاء فيه غدا صباحا ينتمي الى النوع الثاني. أكدت ضرورة التواجد في تمام الثامنة صباحا أمام بوابة السجن، كل شيء تم تحديده بدقة، المواعيد، اللقاء، سنكون ثلاثة، هدى بركات الروائية اللبنانية المقيمة في باريس، والروائي الايطالي أنطونيو بريتي، تم الاعلان عن اللقاء في السجن وتسجيل الراغبين في حضوره منذ أسبوعين، تم تسجيل خمسة وعشرين، سيحضر اللقاء صحفي من جريدة (ميدي ليبر) إنها أكبر صحيفة في جنوب فرنسا، والصحافة المحلية لها نفوذ قوي ويفوق توزيعها صحف كبرى تصدر في باريس، وبالملاحظة رأيت معظم الناس يقرأون (ميدي ليبر) خاصة في الصباح، ويقع مقر الجريدة على الطريق السريع المؤدي الى مونبلييه، وسبق أن زرته منذ عامين بصحبة الصديق محمد سلماوي، وتصدر الصحيفة طبعة خاصة بكل مدينة في الجنوب. قالت أنيت إنها ترجوني ألا أشير من قريب أو بعيد الى الفترة التي أمضيتها في الاعتقال، وأن يقتصر الحوار على موضوع الحب فقط، وعندما استفسرت منها عن السبب قالت إنها تعليمات ادارة السجن، وعندما أبديت لها رغبتي في اهداء مكتبة السجن بعض مؤلفاتي باللغة العربية والمترجمة الى الفرنسية قالت إن ذلك يتم وفقا لاجراءات خاصة، وليس خلال انعقاد الندوة، الكتب يجب أن تسلم الى ادارة السجن التي تقرر ضمها الى المكتبة أم لا؟ في السابعة والربع صباحا تحركنا من الفندق، البرد قارس، الرياح تهب باردة من ناحية البحر الأبيض، على الشاطئ الآخر تبلغ الحرارة أشدها في نهاية ابريل، خرجنا من المدينة الى طريق واسع، يؤدي الى مرتفع يمكن من فوقه رؤية البحر، مكان معزول رغم أنه لا يقع بعيدا عن المدينة، إلا أن الفراغ يحيطه من جميع الجهات، أسوار عالية، تنتهي بقضبان حديدية تنثني الى الداخل حيث تشكل ما يشبه السقف أثناء اقترابنا منه وفيما بعد عند ابتعادنا عنه رحت أتأمل المباني المتصلة، المتلاصقة رغم اختلاف التكوينات، إلا أنها تبدو كتلة واحدة، يجسدها السور المحيط أنابيب معدنية غليظة تصل بعض المباني ببعضها، إنه فراغ مصادر، محاط، محدد، فراغ مؤطر بالسور، وداخل السور فراغات أخرى، كل منها مرتبط بالآخر، إنه السجن حيث مصادرة وقت الانسان، وتطويعه للنظام، ومراقبته. بالطبع منذ وقوفي مع زملائي عند الباب الخارجي، كنت أبحث عن الفروق بين السجن في بلادنا، والسجن هنا، أول قاسم مشترك عزلة الفراغ المؤطر، المحدد للسجن، أثناء سفري الى الصعيد بالقطار في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، عند مروري بالمدن التي تتوالى على ضفة النيل، أو ترعة الابراهيمية حتى أسيوط، كنت ألحظ موقع السجن المحاط بالفراغ، القائم بعيدا عن البيوت، الآن أصبحت معظم السجون داخل المدن بعد تمددها واتساعها، ولكن تظل السجون الكبرى معزولة، حتى لو أحاطت بها المباني، مثال ذلك ليمان طرة، وليمان أبو زعبل، أما المعتقلات الخاصة بالسياسيين فتقع داخل مناطق منضبطة مثل معسكرات الأمن المركزي أو المناطق المحظور الاقتراب منها. عزلة المكان قاسم مشترك، لكن السجون المصرية تحدث تأثيرا مغايرا، ربما مصدره اختلاف مواد البناء فمعظمها من الحجارة والحديد، أما هذا السجن الفرنسي فجدرانه، ونوافذه من المعدن، حتى لو كانت مبنية بالحجارة فهي مغطاة بطلاء معدني أو معدن حقيقي. وقفنا خارج الباب الرئيسي وقتا ليس بالقصير، باب رمادي اختفت خلفه آنيت ليفيه المشرفة الثقافية، فتح مرة أخرى لتظهر وبصحبتها سيدة من الادارة، رحبت بنا، ودعتنا الى الدخول، هكذا بخطوة واحدة انتقلنا من الخارج الى الداخل، لكنه ليس الداخل تماما، لقد انتقلنا من الفراغ المطلق الى بداية الفراغات المتتابعة، القسمة، المفيدة، المؤطرة، ممر طويل وقفنا فيه متتابعين، مغلق في نهايته، جداره قضبان حديدية رفيعة، جدران قفص حقيقي تؤدي الى فراغ مجاور محدد بالقضبان النحيلة، السقف أيضا مغطى بتلك القضبان، نحن في مواجهة المكتب الأمامي للسجن، المكتب الخاص بالمدخل، أول ما يواجه الزائر، الاتصال برجل الشرطة الجالس بالداخل، يتم عبر نافذة صغيرة من زجاج بها مكبر صوت صغير ينقل الحوار من خارج الى داخل وبالعكس، درج صغير متحرك ، يتم تسليم الهاتف النقال، آلة التصوير، المفاتيح، أي آلة معدنية، جواز السفر أو ما يثبت الشخصية، اجراءات شديدة، دقيقة، صارمة، لا مجاملة فيها، بالطبع يعرف رجل الشرطة أننا أدباء، وأننا جئنا لنلتقي بالمساجين في ندوة ثقافية، وبالتأكيد ثمة اجراءات خاصة اتخذتها ادارة السجن لا نشعر بها. ولا ندري عنها شيئا، لكن رغم المعرفة المسبقة يتم كل شيء بدقة بالغة. أخيرا، تكة صغيرة لكنها مسموعة في الصمت. رأينا الباب الذي يغلق الممر المؤدي الى داخل السجن يفتح على مهل، جميع الأبواب التي عبرناها تفتح من مركز، بعد ضغط زر في غرفة تحكم مصلحة، داخلها مجموعة كبيرة من الشاشات الصغيرة التي تكشف الأماكن المعزول بعضها عن بعض، كل مجموعة تغطي مساحة معينة وحيزا محددا، هكذا يمكن القول ان السجن بأكمله يقع في دائرة الرؤية، رؤية الادارة والحراسة، المراقبة تشمل كل شبر، الأبواب مفاتيحها كهربائية، الكترونية، لا يوجد سجان يتجول داخل العنابر مثل سجوننا، السجان هنا موجود في فراغات السجن مع المساجين، بداخل مكاتب محددة، أو يتجول في الحيز المخصص له بدون سلاح، لم ألمح مع شرطة السجن أي سلاح من أي نوع، ما يميزهم ملابسهم الرسمية الزرقاء، وبالنسبة لي كان مثيرا للدهشة أن أرى نساء شرطيات أو مشرفات ثقافيات أو اجتماعيات، العنصر النسائي موجود من خلال الادارة يتحركن بثقة. لا أدري عدد الأبواب التي اجتزناها، المكان كله مقسم، حتى السلالم، إذا فتح باب لننتقل من فراغ الى فراغ، يجب الانتظار بعض الوقت، حتى يتم فتح الباب المؤدي الى الحيز التالي، لابد أن تجيء الاشارة من المكتب الذي يحوي شاشات المراقبة والذي يرى المتحكم منه ما لا نراه نحن. أخيرا، وصلنا الى الطابق الذي ستعقد فيه الندوة، لمحت أجهزة تكييف، في شهور الصيف يكون الحر شديدا، صالة فسيحة، لوحات معلقة الى الجدران، معظمها عن مصر القديمة لوحات للآثار المصرية القديمة رسمها فنانون فرنسيون في القرن التاسع عشر، دينون، بريس دافن، بسكال كوست، فوق مناضد مستطيلة صفت تماثيل للأهرام، لأبي الهول، لجمال راحلة عبر الصحراء، لمئذنة على الطراز المغربي. عبرنا بابا عاديا، أول باب عادي نعبره، الى داخل صالة فسيحة حيث سيجري اللقاء، الجدران كلها مرسومة، لوحات متصلة لمدينة متخيلة، أشجار شديدة الخضرة، سيدة تقترب من مدخل بيت، طفلة تلهو، صيدلية، سيارة، مطعم، كلمة مطعم كتبت باللغة العربية، وجود مطعم عربي جزء أساسي من المدينة الفرنسية، خاصة في الجنوب، اللوحات ألوانها مبهجة، لكن الفراغات فيها شاسعة والشخصيات قليلة، لوحات تستحضر الفراغ المطلق في الفراغ المؤطر، تجسد الحلم بالسير في خط واحد بدون حائط يحول، أو بوابة الكترونية تفتح من مكان بعيد، تحلم بالخلاء. بعد دخولنا تناولنا مقاعد من البلاستيك، خفيفة جدا، دخل شرطي، قالت لي الصديقة هدى بركات إنه يحذرنا من القادمين، لو كان أحدنا يحمل شيئا ثمينا فيجب أن ينتبه، بعد خروجه بدأ دخول المساجين، تبادلنا التحية، كل منهم سحب مقعدا وجلس، أصبحوا يشكلون دائرة ناقصة، نحن في مواجهتهم، وأثناء حديث المشرفة الثقافية اليهم كنت أمر بنظري مسرعا محاولا استيعاب ملامحهم، كان معظمهم في مرحلة ما بين العشرين والثلاثين، عدا خمسة جلسوا الى الجهة اليمنى، تخطى كل منهم الأربعين أو الخمسين، لزموا الصمت طوال اللقاء، وكان أحدهم معتم الحدقتين، كأنه خارج من إحدى روايات دستوفيسكي.

جمال الغيطاني
التاريخ: 08 مايو 2001

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى