أ. د. عادل الأسطة - إشكالية القراءة ... إشكالية النص قراءة في سطر شعري لمحمود درويش

يبدو أن بيت المتنبي الشهير الذي قاله عن إشكالات قصائده ، ونصه :

"أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر القوم جراها ويختصم"

يبدو أنه لسان حال الشاعر محمود درويش ، ولا ندري إن كان ينام ملء جفونه عن شواردها ، تماماً كما أننا لا ندري إن كان متيماً ببيت المتنبي هذا مثل إعجابه بشطر المتنبي "على قلق كأن الريح تحتي" ، وهو شطر صدر به مجموعته "هي أغنية" (1986) وقال ، في حينه ، في المقابلة التي أجرتها معه رفيف فتوح ، إن كل شعره لا يساوي نصف بيت من أشعار المتنبي ، ولعله الشطر المذكور .

محمود درويش شاعر إشكالي ، في مواقفه السياسية وفي نصوصه الشعرية ، ولا أظن أن هناك أديباً عربياً معاصراً أربكت نصوصه القراء مثلما أربكتها نصوص درويش ، وبخاصة أشعاره الأخيرة ، أعني تلك التي كتبها منذ بداية الانتفاضة ، ولا يعني هذا أن نصوصه السابقة كانت سهلة الفهم قابلة لتأويل واحد وقراءة واحدة ، وهذا ما سوف أتناوله في هذه المقالة ، وذلك من خلال الوقوف أمام سطر شعري ورد في قصيدته "وتحمل عبء الفراشة" التي ظهرت في مجموعة "أعراس" (1977) .

وأشير ، ابتداءً ، إلى أن الاختلاف حول نص شعري لدرويش ، في تجربة قراءتي له ، ومناقشة نصوصه مع آخرين ، ظهرت في ربيع عام 1988 ، يوم كنت طالب دكتوراة في جامعة (بامبرغ) الألمانية ، فقد قرأت مع المستشرقة الألمانية (إنجليكا نويفرت) قصيدة "عابرون في كلام عابر" وأنفقنا معاً ، فيها ، فصلاً كاملاً ، اختلفنا فيه مع المستشرقة في قراءتها النص وفهمه وتأويله ، وقد قمت ، فيما بعد ، بترجمة دراستها ، وذلك في عام 1992 ، وتأخر نشر الترجمة ، حتى ظهرت في مجلة "كنعان" في عددين متتابعين هما (أيار 1998 وتموز 1998) (- أي 90 و 91) . وقد أنهت (نويفرت) دراستها بالفقرة التالية :

"وبدلاً من أن ننتظر هذا علينا أن نفهم القصيدة ، كما ينبغي أن يكون : ككلمات منطوقة في شكلها الأدبي وأقوالها المعقدة ، وليس كسلاح ، ومحاولة كهذه ، تحضر من جديد إزاء الإرباك اللغوي المسيطر من خلال قراءة متأنية تحتاج بعض الوضوح الذي يعيد المفردات الشعرية ثانية لعلم سمعي أفضل ، ويجعلها مستبعدة حقاً عن خطر سوء الفهم ، وبالكاد يبقى للغوي الذي يبحث عن قيمة الحقيقة في الأدب ، خيار مفتوح آخر" (ص100،كنعان 1998).

وكانت التجربة الثانية عام 1993 يوم أنجزت بحثاً عنوانه "ظواهر سلبية في مسيرة محمود درويش الشعرية" ، فقد فَجَّزَ نصه "أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي" (1993) إشكالات سياسية نجم عنها ، فيما بعد ، اعتذار الشاعر عن نصه الأول ، واستبداله كلمات بكلمات حتى لا يزعج بعض الجهات السياسية التي انزعجت من النص .

لقد كان شاكر النابلسي في كتابه "مجنون التراب : دراسة في شعر وفكر محمود درويش" (1987) الأسبق الذي لفت الأنظار إلى ضرورة قراءة نص درويش الشعري قراءة جماعية يشارك فيها اكبر عدد ممكن من القراء حتى يضيئوا النص ويجلوا غوامضه ودلالاته الدفينة ، وهو ما فعله في كتابه المذكور . لقد أشار النابلسي إلى هذا ، في المقدمة ، بوضوح :

"كذلك حرصت على إشراك القرّاء في اللعبة النقدية ، بل هي دعت القراء إلى ذلك ، انطلاقاً من مفهومها للعبة النقدية التي يجب أن تتم بين المبدع والناقد والقارئ ، وليس بين المبدع والناقد فقط" (ص11) .

وكان النابلسي واعياً لطبيعة أشعار درويش التي تحتمل قراءات عديدة وتأويلات كثيرة، وذلك حين كتب :

"إن أحكام هذه الدراسة ليست أحكاماً نهائية ، في ظل شعر ينمو ويتطور كشعر محمود درويش ، فقد أبقينا هذه النصوص النقدية مفتوحة وقابلة للتطوير والإضافة ، ما دام الشاعر والشعر ينمو ويتطور" (ص12) .

وكان يمكن للناقد أن يضيف "ما دام الدال الواحد يحتمل تفسيرات عديدة اعتماداً على مقولة البنيويين الدال والمدلول ، - وهي مقولة ترى أن الدال الواحد له مدلولات عديدة – واعتماداً أيضاً على نظرية التلقي التي ترى أن تأويل النص يختلف من قارئ إلى قارئ ومن ناقد إلى ناقد" .

ومع ذلك فيكفي النابلسي أنه رأى أن نص درويش يحتاج إلى جهد جماعي حتى تجلى معانيه ، وهذا ما أشار إليه ، فيما بعد ، الناقد حسام الخطيب في دراسته "تقنية النص التكويني ومغامرة مع نص درويشي" .

يقول د. الخطيب :

"والحقيقة أن النص (الدرويشي ، والنسبة مقصودة) يحتاج إلى جهد نقدي جماعي، من أجل التوصل إلى استفادة قصوى من إمكانات تفجير النص" . (ص87)

ويتساءل الخطيب الذي يقدم رؤية جديدة لدراسة الشعر اعتماداً على الحاسوب وآراء (جوليا كريستيفا) ، بعد أن طبق هذا على نص درويش ، يتساءل إن كان اجتهاده وقع عند درويش الموقع الذي اشتهاه الناقد ، وهو يخشى ألا يقع ، ومن هنا يستميح درويش العذر (94) .

والطريقة التي يقترحها الخطيب لدراسة الشعر ، استعانة بالتكنولوجيا ، تبدو طريقة طريفة ، وربما لا تجد صدى لها بين دارسي الشعر التقليديين ، ولا ندري إن كانت الأجيال الجديدة واللاحقة ، في عالمنا العربي ، تقنع بها . ولا أراني ابتعدت ، في جانب واحد منها على الأقل ، حين أنجزت دراستي "ظواهر سلبية ..." (1993) ، وتحديداً حين أخذت أربط ما بين عبارات وردت في "أحد عشر كوكباً" وأخرى وردت في قصائد أخرى لدرويش نظمها في الفترة نفسها ، ولم أبتعد أيضاً كثيراً عن ذلك حين أنجزت دراستي "محمود درويش ولغة الظلال" (1999) . وأذكر أنني اختلفت في ربيع 1988 مع المستشرقة الألمانية (نويفرت) التي أصرت أن المقصود في قول درويش "اخرجوا من برنا ، من بحرنا" أرض الضفة والقطاع لا فلسطين كلها . واستشهدت في حينه بمقطع ورد في قصيدة "الأرض" يرد فيه :

"سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل
سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل
سنطردهم من هواء الجليل" (أ.ك، ض638)

وكنت ألجأ إلى تفسير شعر درويش بشعره ونثره معاً . وهي طريقة لها محاسنها ومساوئها في الوقت ذاته ؛ لها محاسنها إن كان الشاعر ، في قضايا بعينها ، ذا موقف واحد ، ولها مساوئها إن غيّر الشاعر موقفه بين فترة وأخرى .

سوف أتناول في هذه المقالة سطراً شعرياً أنفقت ، مع طلبة قسم اللغة العربية في جامعة النجاح الوطنية ، ثلاث محاضرات لإضاءته . وقد ورد السطر في قصيدة "وتحمل عبء الفراشة" من مجموعة "أعراس" . وكنت درست القصيدة قبل عام 1999 ، وكانت قراءتي لها مختلفة ، وهذا يعزز قناعتي بأن قراءة نص واحد في زمنين مختلفين يؤدي إلى قراءتين مختلفتين ، هذا إذا اختلفت قراءات المرء النقدية والمعرفية . والسطر الشعري هو :

"وتحذر الفقراء من لغة الصدى والأنبياء"

القراءات المتعددة :

لعل الإشكالية الأولى ، وعنها تبرز بقية الإشكالات ، تكمن في قراءة النص قراءة صحيحة . لقد ورد النص في غير طبعة من طبعات القصيدة خالياً من علامات التشكيل إلا في موطنين هما تحذر ولغة ، فقد وضعت الشدة على الذال ، والكسرة بعد التاء في مفردة لغة . ولا تكمن الإشكالية في هاتين المفردتين ، إنها تكمن في مفردة "الأنبياء" ، فهل حرف العطف يعطف الأنبياء على مفردة الفقراء أم أنه يعطفها على مفردة لغة أو على مفردة الصدى.

اعتماداً على ما سبق يمكن أن يقرأ السطر القراءات التالية :

1- وتحذر الفقراءَ من لغة الصدى والأنبياءَ .

2- وتحذر الفقراءَ من لغة الصدى والأنبياءِ .

- أي ومن الأنبياء -

3- وتحذر الفقراءَ من لغة الصدى والأنبياءِ

- أي ومن لغة الأنبياء -

ولربما نضيف قراءة رابعة هي :

4- وتحذر الفقراءَ من لغة الصدى والأنبياءُ

برفع "والأنبياء" من باب والأنبياءُ يحذرون أيضاً الفقراء من لغة الصدى .

وما من شك في أن عدم وضع علامات الترقيم ينفي بعض القراءات ، فهل كان درويش مدركاً لهذه الإشكالات ؟ يكتب الأستاذ إبراهيم نمو موسى في كتابه "حداثة الخطاب وحداثة السؤال" (1995) ما يلي :

"فالشاعر إذ يبدع ، ليس من خلال الفكرة وحدها ، ولكنه يبدع أيضاً من خلال اللغة ولهذا قال بعض النقاد إن الشاعر "ساحر الأصوات والكلمات" ، وأضيف بأنه مبدع تراكيب لغوية جديدة ومبهرة" (ص14)

ويتوقف الناقد أمام المقطع التالي من قصيدة درويش "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا" .

يدان تقولان شيئاً ، وتنطفئان
يدان تقولان شيئاً ... وتنطفئان
يدان تقولان شيئاً وتنطفئان

ويرى أن دلالات هذه الجمل والتراكيب تختلف باختلاف زاوية الرؤية ، ويركز على أن درويش لم يضع الفواصل والنقاط عبثاً . إنها لم تأت عبثاً . (ص15)

وحين توقفت أمام السطر الشعري المدروس ، اعترض أحد الطلاب قائلاً : با أستاذ أنا حديث عهد بالنحو ، ومع ذلك لا أخطئ في قراءة النص ، فالقراءة هي :

"وتحذر الفقراء من لغة الصدى والأنبياءَ"

والأنبياء معطوفة على الفقراء . وقد ذهب هذا المذهب بعض أساتذة النحو ، وإن اقترح أحدهم قراءات عديدة للسطر أوردت أكثرها آنفاً . وعدت فيما بعد ، وبعد استرشاد بأشعار درويش ، لأرجح قراءة واحدة هي :

"وتحذر الفقراء من لغة الصدى والأنبياءِ"

بكسر الهمزة في مفردة الأنبياء ، لأعطفها على لغة ، ولكي تكون القراءة :

"وتحذر الفقراءَ من لغةِ الصدى والأنبياءِ"

أو "وتحذر الفقراءَ من لغةِ الصدى (ومن لغةِ) الأنبياءِ"

وليس هناك من شك في أن المؤمنين سيعترضون على الشاعر ، إذا ما توقفوا أمام النص معزولاً عن مواقف درويش وأشعاره وقراءاته ، وربما يكفرونه ويقدمونه ، إذا استطاعوا ، إلى المحاكمة .

وأرى أن الإفادة من المناهج النقدية الحديثة تساعدنا كثيراً في إزالة الإرباك . هنا يمكن أن نفيد من المنهج الاجتماعي ويمكن أن نفيد أيضاً من منهج التلقي ، وكذلك من المنهج التفكيكي . سوف أقف أمام بعض المقولات التي تصدر عن هذه المناهج وأبين كيف يمكن أن يفهمها كل منهج ، لأقدم من ثم فهمي الخاص .

يقول أصحاب المنهج الاجتماعي : "ما من زمن مَنْزُوع لذاته" ويضيفون "وعلينا ألا نقرأ النص بمعزل عن الظروف التاريخية" و "علينا أيضاً ألا نعزل ذات الشاعر عن نتاجه" .

لقد كتب درويش النص عام 1976 ، ولم يكن مضى على مغادرته الأرض المحتلة وتركه الحزب الشيوعي سوى سنوات ست .

وإذا كان يرمي إلى التحذير من لغة الأنبياء جميعهم ، فهل كان هذا يعود إلى بقايا قراءاته للماركسية ؟

لقد استحضر درويش ، يوم كان ماركسياً وتحديداً عام 1966 ، يوم أصدر ديوانه "عاشق من فلسطين" ، لقد استحضر الأنبياء ليطلب مشورتهم وليأخذ برأيهم ، استحضر حبقوق وعيسى والرسول عليه السلام . وهكذا لم تدفعه ماركسيته ، في حينه ، إلى التحذير من لغة الأنبياء . وفي الفترة التي كتب فيها قصيدته "وتحمل عبء الفراشة" كتب قصيدة "الرمل" وقصيدة "الأرض" .

وقد ورد في الأولى ما يلي :

" … وسنعتاد على القرآن في تفسير ما يجري ،
سنرمي ألف نهر في مجاري الماء
والماضي هو الماضي ، سيأتي في انتخابات المرايا
سيد الأيام" (أ . ك ، ص627)

والقرآن لا يكذب الأنبياء ولا يحذر منهم ، إنه يدعو إلى تصديقهم والأخذ بما جاءوا به. وورد في قصيدة "الأرض" ما يلي :

"فيا وطن الأنبياء ... تكامل
ويا وطن الزارعين ... تكامل
ويا وطن الشهداء ... تكامل
ويا وطن الضائعين ... تكامل
فكل شعاب الجليل امتداد لهذا النشيد ،
وكل الأناشيد فيك امتداد لزيتونة زملتني"

(ص647)

وكتب هذه القصيدة عام 1976 ، بمناسبة يوم الأرض في فلسطين ، وهكذا كانت فلسطين وطن الأنبياء والشهداء والزارعين والضائعين ، وينتمي الشاعر إلى المكان الذي ينتمي إليه هؤلاء وإلى الجليل حيث ولد ، وهناك تكون كل شعاب الجليل امتداداً لنشيده ، وكل النشيد الذي يكتبه امتداداً لزيتونة زملته . من هم ، إذن ، الأنبياء الذين يحذر منهم الشاعر .

سوف نرجئ فهمنا للمعنى قليلاً ، ولنا في ذلك سند من التفكيكيين ، وربما تناقض قراءتنا قراءتنا السابقة ، ولنا في ذلك عبرة في (آندريه جيد) الذي سبق التفكيكيين يوم أطلق عدداً كبيراً من الأحكام التي كثيراً ما كان يعيد النظر فيها وينقحها لدرجة أنه يتعرض لخطر مناقضة نفسه ، ولنا أيضاً سند آخر في مقولة (ريمي دي غورمون) : "ما من يقين مطلق" .

تلقي السطر الشعري :

يعتمد تلقي السطر الشعري المدروس لا على ثقافة القارئ النحوية وحسب ، بل وعلى ثقافته الدينية ومتابعاته لما يكتبه درويش شعراً ونثراً ولمواقف درويش أيضاً النامية غير الثابتة . وليس هناك من شك في أن المؤمن التقي الذي اكتفى بقراءة النص القرآني سينظر إلى هذا السطر في قراءته الثانية والثالثة – أي بعطف الأنبياء على لغة الصدى – بعين الغضب ، إذ من هو الشاعر الذي سيحذر من الأنبياء . إنه بالتأكيد الشاعر الكافر الملحد ، أو الماركسي الذي يرى في الدين أفيون الشعوب ، وإلا فما معنى التطاول على أأأأأأأأنبياء الله الصالحين الذين لم تخل أكثر سور القرآن من الإشادة بهم ومدحهم والدعوة إلى تصديقهم . ويختلف عن هذا القارئ ذلك الذي قرأ الإنجيل ، وتحديداً إنجيل متّى والإصحاح الرابع والعشرين منه ، ففي هذا الإصحاح يرد على لسان السيد المسيح عليه السلام : (ويقوم أنبياء كذبه كثيرون ويضلون كثيراً) .

وما من شك في أن قارئ الإنجيل سيقول : هؤلاء هم الأنبياء الذين يحذر منهم الشاعر، لا الأنبياء الذين كانوا أتقياء وصالحين . وربما يذهب هذا القارئ إلى ما هو أبعد من ذلك . ويرى أن بنية النص الدرويشي في القصيدة متكئة اتكاءً كبيراً على النص الإنجيلي . ثمة تخيل لعالم قادم ؛ عالم ينبذ فيه المخلصون ، ويقوم فيه الكذبة يضلون الناس أو كثيرين منهم . الشاعر والمسيح كلاهما يحذر من لغة كذبة سيأتون ليضلوا كثيرين ، لتكون لغتهم لغة صدى وأنبياء كذبة .

ويختلف قارئ أشعار درويش ، غير المطلع على ما ينادي به المنهج الاجتماعي "ليس هناك إمكانية لعزل نتاج الشاعر عن الظروف التاريخية والاجتماعية" ، وغير المطلع على النص الإنجيلي ، يختلف عن القارئ الملم بما سبق ، ذلك أنه سيحار في أمر درويش الذي يكتب عن أنبياء كذبة تارة ، وأنبياء يعتبرهم جميعاً أهله ، ولربما يصدر حكماً سريعاً يرى فيه أن الشاعر الذي كان ذات نهار ماركسياً ، عاد وأسلم ، وأن الاختلاف في نظرته إلى الأنبياء يعود إلى اقترابه من الدين بعد ابتعاده عنه . وإن كان وصف الأنبياء وصفاً إيجابياً ووصفهم وصفاً سلبياً لم يظهر في فترات منفصلة عن بعضها البعض ، ففي الفترة الواحدة نجد الوصفين متلازمين ، ونجد هذا في مجموعة "أعراس" نفسها التي أنجزها الشاعر بين 74 و 1977 .

يبدو النبي في قصيدة "كان ما سوف يكون" كافراً : "من أي نبي كافر جاءك البعد النهائي" ، ويبدو النبي في "نشيد إلى الأخضر" ذا صفات إيجابية ، وحين يمجد الشاعر الفدائي يرى فيه نبياً : "يأتي نبياً – أي فدائياً" ، والفدائي هنا مثله مثل المسيح الذي أبرزه درويش في نصوصه ، باستمرار ، إبرازاً إيجابياً .

إن مقولة أصحاب نظرية التلقي ، هؤلاء الذين نقلوا مركز الاهتمام إلى القارئ ، حيث رأوا أن العلاقة لم تعد علاقة المؤلف بنصه ، قدر ما غدت بين طرفين هما النص والقارئ ، تجد هنا مجالاً رحباً لها .

الإرجاء :

ولعلي لا أخطئ حين أرى أن دراسة نصوص درويش التي كتبها بعد خروجه من الأرض المحتلة ، عام 1971 ، ينبغي أن تدرس ، وقد وضع دارسها أمامه مقولة التفكيكيين ، ومن قبلهم مقولة (أندريه جيد) ، والناقد (ريمي دي غورمون) . يرى الأخير أن ما من يقين مطلق ، وقد كان يقبل كل الأفكار وقتياً حتى يأتي واقع جديد ويحمله على مناقضة نفسه . وعلى النقيض من البنيوية التي تطمح إلى تقديم براهين متماسكة لحل الإشكال في عملية وصف الخطاب أو الاقتراب من معناه ، فإن التفكيك يبذر الشك في مثل هذه البراهين ويقوض أركانها، ويرسي على النقيض من ذلك دعائم الشك في كل شيء ، فليس ثمة يقين" . ويعوّم التفكيكيون المدلول المقترن بنمط ما من القراءة – أي استحضار المغيب.

سوف استحضر الآن نصوصاً أخرى لدرويش استخدم فيها هذه اللفظة ، لأبين أن استخدامه لها في نصوصه لم يكن دائماً ذا دلالة واحدة ، ويجدر هنا أن أذكر بمقولة (فرديناند دي سوسير) التي أفاد منها البنويون كثيراً . يقول هذا : "ليس الدال مرتبطاً بثبات بمدلوله ، والسياق هو الذي يحدد الثاني – أي المدلول" .

واستحضار هذه النصوص هو ما حدا بي ، وأنا أناقش الطلبة ، إلى أرجاء المعنى النهائي الذي رمى إليه الشاعر . فقد أخذت أتتبع استخدامها في شعره وفي نثره ، كما أخذت أقرأ الدراسات التي أنجزت حول النص الديني في أشعاره ، وقد أحالتني هذه إلى بعض نصوص العهد الجديد الذي قرأه درويش وتأثر به في أشعاره الأولى تأثراً كبيراً ، خلافاً لتأثره بالنص القرآني الذي وجد طريقة لأشعاره فيما بعد ، وبخاصة في أشعاره التي كتبها بعد خروجه من الأرض المحتلة .

وكما أسلفت يستحضر الشاعر في "عاشق من فلسطين" الأنبياء ليأخذ رأيهم في ما يجري معه هو الفلسطيني . وهذا الاستحضار يعني أنه يراهم أهلاً لإبداء النصح والمشورة . إن نظرته إليهم نظرة إيجابية وإلا لما هاتفهم – مجازاً – ليسألهم في أمره ، وحين يسألهم يجيبه يسوع:

"أقول لكم : أماماً أيها البشر" .
ويجيبه الرسول عليه السلام :
"تحد السجن والسجان
فإن حلاوة الإيمان
تذيب مرارة الحنظل"
فيما يجيبه حبقوق :
"كفى يا ابني
على قلبي حكايتكم
على قلبي سكاكين" (أ . ك ، مجلداً ، ص151)

ويغدو النبي في "أغنية ساذجة عن الصليب الأحمر" النقيض للشياطين . إن هذه بسلوكها المشين تحول الطفل إلى نبي ، وهكذا يكون النبي ذا ملامح وصفات إيجابية ، إنه الذي يطلب ظهراً قوياً لا عبئاً هيناً . والطفل الفقير الذي سلبت أرض آبائه وهدم منـزله وحرم طفولته هو الذي يخاطبه الشاعر قائلاً :

"نحن أدرى بالشياطين التي تجعل من طفل نبياً" (1/199)

وهذا ما يتكرر في قصيدة "نشيد إلى الأخضر" . يكون نشيد الشاعر للأخضر الذي يجدد صوت الشاعر ، هذا الذي في حنجرته عشرة آلاف قتيل يطلبون الماء من اجل الفدائي ، ويكون الفدائي نبي الخلاص . إن صورة الفدائي صورة إيجابية في الشعر الفلسطيني وبخاصة في أشعار درويش ، وهو – أي درويش – يرى فيه نبياً :

"إن في حنجرتي كفا تهز النخل
من أجل فتى يأتي نبيا
أي : فدائياً
وجدد أيها الأخضر صوتي . إن في حنجرتي خارطة
الحلم وأسماء المسيح الحي" (1/654)

هنا يقترن الشاعر بالمسيح الذي يرى فيه درويش رمزاً للفلسطيني ، وكثيراً ما وظف الشاعر هذا الرمز للكتابة عن عذاب الفلسطيني . ولنلاحظ أيضاً اتكاء درويش على النص القرآني وذلك في قوله "كفاً تهز النخل" .

سوف يتكرر الاستخدام ذو المعنى الإيجابي لهذه المفردة في كثير من قصائد الشاعر التي كتبها منذ الخروج الفلسطيني من بيروت عام 1982 ، ولنلاحظ هذا في القصائد التالية على سبيل المثال لا الحصر .

يرد في "مديح الظل العالي" ما يلي :

"أنا الحجر الذي شد البحار إلى قرون اليابسة
وأنا نبي الأنبياء
وشاعر الشعراء
منذ رسائل المصري في الوادي
إلى أشلاء طفل في شاتيلا" (2/96)

ويرد أيضاً في قصيدة "عندما يذهب الشهداء إلى النوم" :

"وناموا على سلم الكرمة الحامضة
لأحرس أحلامكم من خناجر حراسكم وانقلاب الكتاب على الأنبياء" (2/342)

ويرد أيضاً في قصيدة "حجر كنعاني في البحر الميت" :

"والأنبياء جميعهم أهلي ، ولكن السماء بعيدة
عن أرضها ، وأنا بعيد عن كلامي" (2/521)

ويتكرر هذا المقطع في القصيدة ثلاث مرات ، بل إن القصيدة تختتم به . ومن المؤكد إن المرء ليتساءل ، بعد أن يقرأ أشعار الشاعر والمقاطع التي سأوردها بعد قليل حيث تبدو صورة النبي سلبية ، عن هذا التناقض في أشعار الشاعر في كتابته عن الأنبياء : الأنبياء جميعهم أهله ، الصالحون منهم والكذبة أيضاً . إن نعت النبي بالكذب يتكرر في أشعار درويش مراراً ، ولنلاحظ :

يرد في قصيدة "كان ما سوف يكون" التي رثى فيها راشد حسين ما يلي :

"ثم ناداه السؤال الأبدي الاغتراب الحجري
قلت : من أي نبي كافر قد جاءك البعد النهائي" (1/603)
ويرد في قصيدة "اللقاء الأخير في روما" التي رثى فيها ماجد أبو شرار :
"أما كان من حقنا أن نحب ونلعنها أورشليم
إذا ما ادعى الكذب فيها نبي الظلام
فقد يكذب الأنبياء
وقد يصدق الشعراء كثيراً" (2/136)

وإذا ما استعنا بنثر درويش عرفنا من هم هؤلاء الأنبياء الذين ينعتهم بالكذب . يذكر درويش في مقالته "هكذا كتب السجين قصيدته الأولى عن القدس" التي أدرجها في كتابه "في وصف حالتنا" ما يلي :

"وأظن : لا تكتمل معاني المسيحية ، في تطابقها الراهن ، إلا في فلسطين . ولا يحق لأحد أن يكون فلسطينياً في هذه الدقة إلا للمسيح الذي جعل هذه الأرض قادرة على تقديم عطاياها للعالم بلا عبادة . إن سيرة عذاب المسيح يلخصها الآن أطفال فلسطين المسروقون من المغارة إلى الصحراء ، وتلخصها قيامة الفلسطيني من ذبح يتكرر على أيدي الأعداء وأنبياء الكذب على السواء" (ص111)

وهذه الفقرة لا تدع هناك مجالاً للشك أن درويش يقصد بأنبياء الكذب زعماء دولة إسرائيل ، وهذا ما يتضح أكثر في كتاب درويش النثري "ذاكرة للنسيان" حيث يرد المقطع التالي الذي يكتب فيه عن بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه :

"كان بيغن يستعيد تاريخ جنونه وجرائمه ، ………………………

ولكن تلك الأشباح تحاصره في بيروت وقد استعادت لحمها وعظمها وروحها استعادة بطولية . عاد الشبح من الضحية إلى البطل . وبين الشبح والبطل حصر نبي الكذب بهوس أقعده عن الاستعانة بفصول من التوراة كانت قادرة على ان تكتب ، وحدها ، تاريخ البشر" (64) .

الكتابة كلام ناقص

هنا أيضاً يمكن أن نستحضر مقولة التفكيكيين المهمة وهي إن الكتابة كلام ناقص. ترى كيف ينطق محمود درويش السطر حين يقرأه. أيقرأ كلمة الأنبياء بنغمة فيها قدرٌ من الإيحاء بالسخرية ، ويقصد بها الماركسيين الذين جعلوا من ماركس نبياً ، ومن كتاباته كتابات نبيٍ جديد . إن نعت الماركسيين بالأنبياء ورد في بعض الكتب ، ولعل درويش اطلع عليها ، ومن هذه الكتب الكتاب المهم الذي ألفه الكاتبان (رينيه وليك) و (اوستن وارن) ونقله إلى العربية محي الدين صبحي . يرد في هذا الكتاب (ط 1987) ما يلي : "إنهم ليسوا دارسين للأدب والمجتمع فقط بل هم أنبياء المستقبل والمبشرون به والمنذرون من أجله" (ص98) .

ويجدر أن يشار هنا ، مرة أخرى ، إلى خلاف درويش مع الحزب بعد خروجه من الأرض المحتلة ، فهل كان يستحضر في ذهنه ، في لحظة الكتابة ، هجاءهم له ولذلك سخر منهم .

ومع ذلك يمكن العودة إلى قراءة الطالب . فهل كان درويش يقصد بالأنبياء الفدائيين ، كما ورد في "نشيد إلى الأخضر" ، وهل كان درويش يحذر الفقراء والفدائيين معاً ، وبالتالي فإن القراءات الأخرى لا ضرورة لها . هنا يمكن أن نضع اللوم على الشاعر ، إذ لماذا لم يكتب السطر على النحو التالي :

"وتحذر الفقراء ، من لغة الصدى ، والأنبياءَ" .

قال أحد النحويين : لقد مت وفي نفسي شيء من حتى . ولعلني أقول : وسيقول دارسو درويش : سنموت وفي أنفسنا شيء من الحاجة لفهم درويش فهماً نهائياً .




المصادر والمراجع

1- إبراهيم نمر موسى ، حداثة الخطاب وحداثة السؤال ، بير زيت ، 1995 .
2- أحمد الزعبي ، الشاعر الغاضب محمود درويش : دلالة اللغة وإشاراتها وإحالاتها ، الأردن ، 1995 .
3- أنجليكا نويفرت ، حواجز لغوية بين جيران : قصيدة جديدة كما يستنطقها قارئها الإسرائيلي ، مجلة كنعان ، العددان 90و91 ، أيار وتموز 1998 .
4- حسام الخطيب ، تقنية النص التكويني ومغامرة مع نص درويشي (في كتاب الشعر في نهاية القرن ، تحرير فخري صالح) بيروت 1997.
5- عبد الله إبراهيم وآخرون ، معرفة الآخر : مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة : البنيوية ، السيميائية ، التفكيك ، المغرب ، 1996 ، ط2 .
6- العهد الجديد ، إنجيل متى ، الإصحاح 24 .
7- كارلوني وفيللو ، تطور النقد الأدبي في العصر الحديث (ترجمة جورج أسعد يونس) بيروت ، 1963 .
8- سحر سامي ، التناص في شعر محمود درويش ، مجلة الشعراء (رام الله) ، العددان 4و5 ، 1999 .
9- شاكر النابلسي ، مجنون التراب : دراسة في شعر وفكر محمود درويش ، بيروت ، 1987 .
10- شتيفان فيلد ، اليهودية والمسيحية والإسلام في الشعر الفلسطيني ، مجلة "الكاتب" المقدسية ، آب وأيلول ، 1992 . (ترجمة عادل الأسطة) .
11- محمود درويش ، الأعمال الكاملة ، المجلد الأول ، بيروت 1996 / ط14 .
12- محمود درويش ، الأعمال الكاملة ، المجلد الثاني ، بيروت 1994 .
13- محمود درويش ، ذاكرة للنسيان ، القاهرة 1989 (كتاب مجلة عبير) .
14- محمود درويش ، في وصف حالتنا ، عكا ، 1987 .


أ. د. عادل الأسطة
18-1-2008

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى