محمد بشكار - أحمد الطريبق.. ينْكسِر الظَّهْر وينْتصِبُ الشِّعْر!

ينْكسر الظَّهْر ولا تنْكسر قامة الشِّعر، قد تبدو هذه التَّضْحية خُرافية في زمن وجبتَيْ الطّاكوس والهامبرغر، بل قد يعتبرها البعض خَرُوفية وهي تضع عُنُق الشّاعر قرباناً على حدِّ الكلمة، والحقيقة أنّ ثمّة شاعراً غير مُسْتهلكٍ في مواقع التَّكاسل الاجتماعي، قدِ انْكسر ظَهْرَه دون أنْ تنْثني قصيدته المتينة أو تُصَاب بأبسط خدش، ألم يسمع أحدٌ أن الشاعر أحمد الطريبق.. الهائم عشقاً مع الريح الشتوية لمدينة طنجة، ذاك الذي جعل اسم (طنجة لعاليا) يتبوّأ بأحد الدواوين مرتبة الأسماء الحسنى، كما جعل البحر يُكلِّمه في ديوان آخر أجمل، ألا أحد سمع بسقْطتِهِ المُدوِّية التي هشَّمتِ الأضْلاع، ولكن يَهُون على الشَّاعر خِذْلان العُكّاز، فما أكثر زَلّاته على الطريق وهو يُراوغ أعطاب الشيخوخة، يَهُون على الشّاعر أن يُكْمل الأسْطُر المُتبقِّية في قصيدة تُرَاوِده ويُروِّضها على كرسي متحرِّكٍ، ولكن أبداً لا يُهُون تغاضي الخِلّان !
قد يُؤجِّل البريد أجمل القصيد ولكنّه لا يقفُ حائلاً دون الْتقاء الأرواح، بل قد يَضِيع البريد الورقي وتصل الرسالة بوسيلة تواصل أخرى مع بعض الحسْرة، لذلك اسْتَنْجد الشاعر الكبير أحمد الطريبق بالهاتف وكلَّمني كما كلَّمَه البحْرُ ذات هبوب طنْجي، أتاني صوتُه هادئاً دافئاً كما لو في لحظة إنْشادٍ شِعْري، أو كما لو كان الصوتُ قادماً من بعيد، يُقاوم صدى غامضاً تُصْدِره خلجات النَّفس، سألني إذا ما توصلتُ ببطاقة شعرية تمدُّ ذراعيها بالعناق، ويَقْصد بالبطاقة مُقْترح غلافٍ آخر أجمل وأبلغ لديوانه المعروف "هكذا كلَّمني البحر"، قلت بأسفٍ أنت تعلم شاعرنا أنّ عجلة التنمية في البلد بطيئة، لذلك تأخرتْ كل أحلامنا.. وما زالتْ تغُطُّ تحت الوسادة في كهف سحيق، فكيف لبريدٍ يزحف على إيقاع وتيرة السُّلحْفاة أن يصل سريعاً، ولم أكد أُومِىء للشاعر أنْ يسْتعين بعد الله بالواتساب، حتى تفتَّقتْ تحت ناظريَّ مع شقائق النعمان، بطاقةٌ تَحَالف في تدبُّر رونقها الطريبق بالقصيد الصوفي، ومحمد الطوبي الشاعر الراحل رحمه الله، بخطوطٍ تنسابُ عبر شقوقِ الروح كالنبيذ !
الشّاعر بِطبْعِه غير القابل للتَّطبُّع كائنٌ بسيطٌ، يكفي أنْ نُشاطره فرحاً بفرح لِيسْتَنْبِت تحت الأرجل أنْضَر الحدائق، يكفي أن نَفْتح صفحةً فِي أحد دواوينه التي تَنْتظر من يُحَرِّرها من الخَرَس، لِيفْتح لنَا قلْبَه ومعهُ صَفْحة جديدة في الحياة، الشَّاعر كائنٌ غايةً في البساطة إذا كان فعلا شاعراً وليس زوراً، قد تَخْذله أحياناً الكلماتُ وعِوَض أنْ تُعبِّر عن مشاعره تُعقِّدها، وليس من عادته أن يُسابِق أحداً مهما اشْتدَّت المُنافسة على الحَلَبة، لأنّه يخْتار الدَّرْب الذي يُناسب نفَسَه القصير، ولا يتجاوز في الطُّول والعرْض القصيدة الأرحب من السماء، ولا أعْجَبُ إلا مِمَّن يسْتَخْسِر على الشاعر بعض الفرح والدهشة، لا أعْجَبُ إلا مِمَّن يُحاول عبثاً أنْ يُوقِفَ عجلة التَّفْكير ليمحو الذاكرة، ربّما لذلك الْتمس الشاعر أحمد الطريبق لنفْسِه ولادةً جديدة في حياة أخرى، فكتبَ سيرته الوجودية على امتداد 915 صفحة، ومن يتساءل لِمَ كل هذا الطول، نقُول إن السَّطْر الواحد يجعل كاتبه سرْمديّاً لا يتحدَّدُ بعُمْر، وربما شدة إحساس الشاعر بالغربة التي تًطوِّقنا جميعا بجدار بارد، دفعته ليسمي هذه السيرة "مخاض حياة على جليد وتحت الرماد"، ألم يقُل المعري وهو البصير ونحن العميان: أُلو الفَضْلِ في أَوطانِهِم غُرَباءُ/ تَشِذُّ وَتَنأى عَنهُمُ القُرَباءُ.. لكن هيهات أن يستسلم شاعر من عيار ثقيل كالطريبق، فهو بقصائده التي تنسج الفراشات من صُوفيَّتها أشْسع الأجنحة، يُحلِّق دائماً باتِّجاه القلب وعينُه على قصيدة جديدة تلوح في الأفق !
كيف لِمنْ آثَر الحُلول الصُّوفيَّ طقْساً شِعرياً يجعل للعالم أكثر من نشأة، أنْ لا يعيش للأبد مُتجدِّداً مع الفُصول، أليْسَ هو من قال ذات "انْعتاق": وإذا الغيْبةُ كأسي، والخمرة رأسي، وإذا العالم لفظٌ نِسبيُّ المعنى.. يا لَجُموح هذه العبارة الشِّعْرية وعبْقرِيتها، جعلتني مُمزَّقاً بين الحيرة واليقين، كأنِّي بالشّاعر الكبير أحمد الطريبق يهْمِس في أذني، لا تَغْتَرَّ بالرَّأس التي اشْتعل في أنْحائها الشَّيْب، فما أكثر ما ألْقَتْ بمثل هذه الشُّهب، لا تَغْتَرَّ بِجلْستي المُؤقَّتة على كُرْسي مُتحرِّكٍ، لوْ أمْعَنْتَ التَّأمل أبْعَد من الظَّاهر، لأبْصَرتني بما أوتيتُ من تخييل محمولا على أكفِّ السُّحب، ألمْ أقُلْ ينْكسر الظَّهْر ولا تنْكسِر قامةُ الشِّعْر !



..................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 17 مارس 2022.





1647679481334.png






تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى