د. مصطفى أحمد علي - أصله غنا ولّلا ادب

ممّا استقر ّفي الذاكرة حوار قصير في تسجيل قديم للراحل خليل إسماعيل، شرع فيه، في إنشاد "رميته: (هي النفس ما حمّلتها تتحمّل) واقتناص مقدمة لحن رائعته (الأماني العذبة) من بين أوتار عوده، ثمّ إن أحد الجلساء تجرّأ فطلب بحسن نية من بعض الحاضرين الكفّ عن الكلام المباح والاستماع إلى الغناء، وكانت المفاجأة والمفارقة، أن توقّف خليل إسماعيل، رحمه الله، عن العزف والغناء مستنكراً طلب جليسه، صارخاً فيه: " أصله غنا ولّلا أدب...؟". كان الرجل يسعى صادقاً دون شكّ إلى تهيئة المكان للسماع، ولم يخطر بباله ولم يكن يتوقّع أن يكون المغني، عوض أن يشكره، أول منتقديه. استقرّ هذا المشهد في ذاكرتي، وظللت أستدعيه كلّما هممت، في مواقع ومناسبات عديدة متفرّقة في الزمان والمكان، أن أطلب من جمهور الحاضرين (السودانيين غالباً) الصمت والاستماع إلى من لديه الكلمة.

ممّا أذكره، أنّ طالباً سودانياً اصطحب إلى داره بمدينة الرباط، زميلاً له مغربياً عقب ساعات الدرس، واتّفق أن الدار كانت عامرة بالسودانيات في جلسة "ونسة"، تعلو فيها الأصوات وتصطكّ الآذان، فكان أن أجفل الفتى المغربي عند فتح باب الدار، من فرط ارتفاع الأصوات واختلاطها، ثمّ هدأ روعه شيئاً ما، حينما تبيّن له جلية الأمر، بعد أن كان ظنّ أن ثمّ معركة تدور رحاها، وسأل ببراءة: " أهكذا تديرون النقاش في أفريقيا؟" لا جرم، فالمغاربة يدرك غالبيتهم أنهم أفارقة!
بدا لي أن "نزعة المشاركة " تغلب، بما لا يدع مجالاً للمقارنة، على "أدب الاستماع" في ثقافتنا السودانية المتوارثة منذ آلاف السنين، وأجلى ما يكون ذلك في فنون القول، من غناء ورقص ومديح، فالأداء كلّه جماعي، بما في ذلك فنّ (الدوبيت)، الذي تغلب عليه "المجادعة"، والمشهد كله مسرح، لا متّسع فيه ولا صبر على القسمة بين جمهور وممثلين، بل سرعان ما يتمّ الالتحام وتنعدم الفواصل ما بين النظّارة والخشبة. وهذا هو ما لم يقو عليه ولم يصبر المغني محمد الأمين، فصرخ في "جمهوره": " يا أغني أنا...يا تغنوا إنتو !" وهذه هي الثقافة عينها التي انحاز إليها ودافع عنها على النقيض، خليل إسماعيل مستنكراً الخلط بين الأمور: " أصله غنا وللا أدب!".
الأمر لا يقتصر على الغناء فحسب على نحو ما بدا من تباين واختلاف بين محمد الأمين وخليل إسماعيل، بل هو أعمق من ذلك وأبعد أثراً. وجملة القول أنّنا ما زلنا، دولة ومجتمعاً، في منابرنا السياسية والثقافية والاجتماعية، ندير أمورنا بتغليب بيّن ل"نزعة المشاركة" التي هي أقرب ما تكون الى "الفوضى"، وغياب أدنى إلى أن يكون تامّاً ل"أدب الاستماع "، فما أحوجنا إلى الكفّ من غلواء ذي، والأخذ بأطراف من حسنات ذاك.
في كتاب (حقيبة الذكريات) للعلامة عبد الله الطيب، فصل بديع يصف فيه المؤلّف، رحمه الله، مشهد مراجعة شيخ الخلوة لما حفظه واستظهره تلاميذه على كثرة أعدادهم، واختلاف أسنانهم وأحلامهم، وتفاوت رتبهم ومستوياتهم، وتعدّد مواقع حفظهم، ويبيّن في فصاحة وبلاغة مقدرة الشيخ على "إدارة التنوّع" الذي بين يديه في حنكة وبراعة وصبر.



د. مصطفى أحمد علي،
الرباط، مارس ٢٠١٨

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى