السيد نجم - أكتوبر ذروة التجربة الحربية المصرية

تعد جملة الأحداث في القرن التاسع عشر مخاضا لمولد متغيرات اقتصادية وسياسية فضلا عن كونها مخاضا اجتماعيا وثقافيا.

منذ أن اعتلى “محمد على” كرسى الحكم عن نزعات ديمقراطية شعبية , وقد زلزلت الحملة الفرنسية قبله رو اسخ بالية متكاسلة .. والمتغيرات في تتابع. وقد بدت العلاقة بالآخر(العثماني ثم الأوروبي) في تتابع ما بين الشد والجذب.

بدا فك رموز حجر رشيد والبعثات العلمية إلى أوروبا, ثم التوسع في التعليم المدني , وإنشاء المدارس العليا التخصصية (للطب والهندسة والطب البيطري وغيرها) .. إلى جانب دخول المطابع إلى مصر وإصدار الصحف, كلها تضافرت معا لتخلق مناخا ثقافيا جديدا وضحت ملامحه خلال الربع الأول من القرن العشرين.

لنا أن نشير إلى تجربتين حربيتين مرت بهما مصر خلال تلك الفترة..الأولى: أحداث الثورة العرابية ومعاركها مع القوات الإنجليزية التي سيطرت على مصر لمدة اثنين وسبعين سنة ,كما جرت أحداث الحرب العالمية الأولى ونالت مصر بسببها ما نالت .

وقد عبرت رواية : “فتاة الثورة العرابية/ يوسف أفندي حسن صبري”, و”عذراء دنشوى/محمود طاهر حقي” عن تلك الفترة المبكرة . الأولى تتناول أحداث الثورة العرابية, والثانية تتناول أحداث الاحتلال ومظاهر الصراع بين المحتل والفلاح المصري.

لعل جملة الأحداث التي مرت بمصر خلال النصف الأول من القرن العشرين هي ما مرت بالمنطقة العربية, وتتسم بالآتي: المعاناة من استعمار أجنبي, والاتصال بالغرب (الحضارة والآخر الجديد) . وان بدا الصراع والتأثر متفاوتا من قطر عربي إلى آخر.

حتى بدايات الحرب العالمية الثانية, كانت “الرواية” كجنس أدبي وليد (لسنا بصدد مناقشة تأصيل فن الرواية العربية ..بأن الرواية وجدت في التراث النثري العربي, أم انتقلت للعربية بعد الاتصال المباشر بين الشرق والغرب. حيث بدأت الترجمات على يد الرواد “رفاعة رافع الطهطاوى وترجمته لرواية فنلون: “مغامرات تليماك”. وأيضا ترجمة “سليم البستاني” للإلياذة (هوميروس).. وغيرها من محاولات التعريب أو التمصير ثم التأليف).

لن يدهش الراصد للرواية العربية في مصر في النصف الآخر من القرن العشرين , أنها رصدت وعبرت عن مجمل التجارب الحربية التي مرت بها مصر, والدول العربية (ربما باستثناء الحرب العراقية / الإيرانية). وأعنى هنا تناول الصراع أو التجربة بقلم مصري مشارك/ معايش التجربة. ويمكن الإشارة اليها من الناحية الكمية.

تقدر كتب الرواية العربية في مصر , تفوق مثيلتها في الأقطار العربية, سواء تلك التي تتناول الموضوعات المختلفة أو التجربة الحربية تحديدا. تلاحظ أن الرواية بمصر تناول أغلب التجارب الحربية منذ بداية القرن العشرين حتى حرب الخليج في 1990م. كما تلاحظ أنها لم تقتصر على التجارب الحربية المصرية, بل تخطتها إلى التجارب الحربية في البلدان العربية الأخرى مثل التجربة الجزائرية و الفلسطينية وغيرهما.

إجمالا يمكن إبراز ملامح وخصائص التجربة الحربية في الرواية المصرية بالتالي:

كنت النشأة الأولى والمخاض للرواية المصرية (العربية) بالمعنى أو الشكل الحديث , مرتبطا بالموضوعات الرومانسية . كما غلفتها مسوح الوعظ والإرشاد , عن نزعات عاطفية ودينية وتعليمية, وهو ما يتوافق مع النزعات الاجتماعية العامة.
لم تؤكد “الرواية” تواجدها الفاعل بين العامة إلا بعد رواية “عذراء دنشواى” التي تعتبر عرضا للمحاكمة العسكرية الإنجليزية لسكان قرية “دنشواى”, بعد الحادثة الشهيرة. وقد أعيد طبع الرواية عدة مرات في حينه نظر لشغف الجميع للاطلاع على الواقعة التي هي من أهم أحداث تلك الفترة سياسيا.
ليس أدل على أهمية الجنس الأدبي الجديد “الرواية”, وقدرتها على اقتحام باب “المقاومة, فتصبح صاحبة أكثر تعبيرا عما يموج في النفوس من وهج المقاومة للمحتل.. أن دخل محرابها الشاعر أحمد شوقي وكتب فيها , وأيضا “على مبارك وكتب روايته الوحيدة “علم الدين”. الأول لتعضيد البعد المقاومى المباشر بالاستعداد على مواجهة العدوان على أرض مصر (فى زمن الفراعنة), والثانية من خلال باب ابراز “الهوية” خيث أوضح العلاقة بين الشرق والغرب , أو الأنا والآخر.
كما لا يمكن إغفال تجربة رواية “فتاة الثورة العرابية” التي كتبها “يوسف أفندي حسن صبري” حول أحداث الثورة العرابية.
قد تلزمنا الموضوعية الإشارة إلى أن قراءة تلك الأعمال الآن بعين خبيرة, يلحظ القارئ قدر المباشرة وإقحام الأحداث والتكرار ..وغيرها من المآخذ الفنية التي تعد من أوليات كتابة الرواية الآن ضرورة تلاشيها.
مع الحرب العالمية الأولى تحديدا نضجت تقنيات الرواية نسبيا, كما أضافت أحداثها معينا هاما للرواية..يكفى الإشارة إلى أحداث ثورة 1919م التي باتت من أهم الأحداث في العديد من الروايات فيما بعد.

وقد برزت الأسماء الهامة في سماء الأدب والرواية, منها: طه حسين, توفيق الحكيم, سعيد العريان, يحيى حقي..وغيرهم.

كما برز مؤسس الرواية العربية المعاصرة ورائدها الفنى “نجيب محفوظ” إلا بعد أحداث الحرب العالمية الثانية.

أما جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية, فهم هؤلاء الذين رسخوا لفن الرواية, وأصبح

إنتاجهم فيها هو البناء الفنى للرواية.

ومنهم:” يوسف الشار ونى- يوسف السباعي- يوسف أدريس- فتحي غانم- أمين

ريان- محمد صدقي – عبد الحليم عبد الله…وغيرهم.

ثم كانت نكبة 1948 في فلسطين, والتي بدأت ولم تنته, وأصبحت معينا للكثير من

الأعمال الروائية.(نشير سريعا إلى رواية فديتك ليلى/أو دماء على الرمال ليوسف

السباعي)

أما معارك العدوان الثلاثي على بورسعيد في 1956م, وقد كانت سببا فى مولد أول روائية مصرية وربما عربية بالمعنى الفنى “لطيفة الزيات” وروايتها “الباب المفتوح.
بعد تلك الحرب في 56, شهدت الرواية المصرية/ العربية طفرة لم تشهدها من قبل ..فنيا وكميا..وربما يرجع هذا إلى جملة المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها مصر.

نشير إلى بعض أسماء الروائيين:”ادوار الخراط, حسن محسب, ثم جيل الستينيات علاء الديب, يوسف القعيد, عبدالحكيم قاسم, جمال الغيطانى. محمد البساطى, مجيد طوبيا, بهاء طاهر…وغيرهم.

كما كانت تجربة حرب اليمن ذات بصمات على الرواية , من خلال: “رواية “رجال

وجبال ورصاص” لفؤاد حجازي, ورواية “حرب اليمن” لصبري موسى, التي نشرت

في مجلة “روزاليوسف” ولم تنشر في كتاب.

أما وقد حدثت النكسة في عام 1967م, ثم كانت حرب الاستنزاف بعد تهجير سكان

مدن قناة السويس, ثم معارك أكتوبر 1973م..وكلها تكفلت بجيل كامل بدأ معها ومازال يعطى على الساحة الأدبية وقد رسخت أقدامه. منهم:” فؤاد حجازي- إبراهيم عبد المجيد- السيد نجم- علاء مصطفى- محمد الراوي- فتحي امبابى- سمير عبدالفتاح- مصطفى نصر- فؤاد قنديل – سعيد بكر- أحمد حميدة – قاسم مسعد عليوه-محمد عبدالله عيسى- سيد الوكيل- ربيع الصبروت ..وغيرهم.

كما رصدت الرواية في مصر الحرب العراقية الإيرانية, حرب الكويت, والحرب

الأهلية اللبنانية …وغيرها.

مما سبق يمكن التأكيد على عدد من الحقائق:

: إن التجربة الحربية لها تأثيرها الفاعل والدائم على جنس الرواية في مصر.

: أن الروائي المصري لا يرى انفصالا بين أحداث الجسام مثل “التجربة الحربية” سواء كانت في مصر أو غيرها من البلدان العربية.

: لم تكن زاوية الرصد للروائي المصري مكتفية بالجانب المباشر من أدب الحرب, بل هناك العديد من الروايات التي تتسم بالفنية والتقنية العالية.

: لعبت التجربة الحربية دورها الأكيد في إثراء فن “الرواية المصرية / العربية. وهناك من الأسماء من أخلص للتجربة ومازال يعطى في مجالها باعتبارها تجربة “جيله”.

: بروز تقنية جديدة لم تستخدم من قبل في الرواية العربية ..وهى التوثيق والتسجيل. الطريف أن نشأة هذه التقنية على الروس بعد الحرب العالمية الأولى كان وليد التجربة الحربية (الحرب العالمية الأولى).

وقد مارسها الروائي “إبراهيم أصلان” في رواية “بيروت..بيروت” حول الحرب الأهلية في لبنان .

: لم يبرز للمرأة دورا رئيسيا في الرواية الحربية المصرية ككاتبة روائية الا من قليل..سواء مع الروائيات أو كشخصية روائية. على العكس من الرواية العربية الحربية ببعض البلدان العربية مثل الجزائر وفلسطين والعراق وأخيرا الكويت.

ولا يبقى إلا التأكيد على أن التجربة الحربية ارتبطت بالحياة على الأرض المصرية (مثلما هي على الأرض العربية) وأضافت إلى تراثها وخبراتها ..بل وحضارتها التي لم تهدأ الحروب على أراضيها طوال تاريخها !

………………….




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى