سمير الفيل - الظــل. . قصة

كل شيء في الدنيا له ظل . وللظل تحولات لا تخطئ العين رؤيتها . الظل ملازم للأجساد ، المباني ، الأشجار ، الحيوانات الأليفة والنافرة . .

لا بد من وجود شمس كي يتكون الظل ، ربما قال قائل : إن التيار الكهربائي حين يسري في أسلاك المصابيح يتولد الضوء ، ويوجد الظل . هذا ما نعرفه ، لكننا نتحدث عن الظل الأصلي ، الطبيعي ، الذي يتولد من النور الرباني ، سواء مع بزوغ شمس ، أو إطلالة قمر .

كل هذه الأشياء يعرفها عساكر الأساس ،وهم ينزوون في الأركان ، تحت ظلال الجدران البعيدة للكانتين ، أو ظلال الخيام حيث يمتنع بتاتاً على الأفراد دخول حرم الخيام إلا في أوقات الراحة ، أما فترة الطوابير الممتدة من السادسة صباحاً ، وحتى الثانية ظهراً ، فمن المستحيل الدخول إلا للمرضى ومن يحملون ” أرانيك ” عيادة ، وفيها عبارة صريحة بالقلم الأحمر ” معافاة من الخدمة والطوابير ” ، وهو أمر نادر الحدوث .

فحتى هؤلاء يتم مطاردتهم ، وأسرهم بكل معنى الكلمة ، حيث يؤخذون إلى المطبخ الميري لتقشير البطاطس ، وتقطيع البصل ، وعصر الطماطم ، وحمل ” الأروانات ” العملاقة ، وهي مسائل مهلكة للبدن والأعصاب .

الظل هو غاية كل مجند ، خاصة في أشهر الصيف العنيدة ، بالتحديد يونيو ، ويوليو ، وأغسطس . وهو الثلاثي الذي يكرهه كل عسكري من قلبه . فالشمس في صحراء المعادي تهبط لتلامس بشظاياها رؤوس الأفراد . وحتى الكلاب في عز الصهد تختفي ولا تظهر إلا في وقت معلوم– بين الثانية والنصف والثالثة ظهراً– حيث يقترب موعد توزيع التعيين . فتظفر بقطع عظام ، وبقايا جراية ، وقليل من اليمك ، إن كانت هناك وشائج صداقة قوية بينها وبين فرد في عقله خلل، بحيث يتنازل عن جزء من نصيبه ، وقوته الضروري لكلب ضال ، في الغالب أجرب ، هزيل ، ضامر الجرم ، وهذا ما كان من الأمر العسكري ” توفيق أبو شعرة ” .

الظل يخشى افتضاح أمره ، ففي الثانية عشر تماماً يقصر ويتلاشى فلا تعثر على أثر له ، قبل أن يعود ، فيمتد باتجاه ثكنات القائد ، والضباط .

هؤلاء لا يشغلهم الظل في شيء ، فلديهم أسلاك ممدودة ، تتصل بمراوح بعضها معلق في الأسقف ، وبعضها على حامل .

وأنت إن أحببت أن تجد ظلاً مناسباً فعليك بالدفع ، حيث يسمح لك عسكري الكانتين أن تجلس إلى جوار الجدار الخشبي السميك مقابل سيجارة أو سيجارتين ، وفي أوقات القحط الرهيب يكتفي بنفسين ودعوة مفادها العودة سالماً غانماً لأهلك .

وفي الظل إغواء للجسد بالراحة ، وتخليص للروح المتعبة من أوجاعها ، ونحن هنا نتحدث عن شمس الصيف تحديداً ، وهو الموعد المناسب دائماً لتجنيد دفعات جديدة من العادة والمؤهلات على السواء .

وبقدر تنازلك عن جزء من الظل يخصك يكون مقدار أصالتك ومتانة صداقتك لأي زميل ، وحين اكتشفنا بعد أسبوع كامل من البحث المضني عن ظل شجرة كافور وحيدة هائلة تقع في الركن الأيسر لمطبخ المعسكر ، رحنا نتسلل إليها ونحتلها ، دون أن نجسر لحظة على البوح بسرنا الدفين .

فإذا سألنا زميل – نحن المكتشفين لظل الكافورة الوارف ، البهيج – نتعلل بالذهاب إلى “الأدبخانة” أو ” السرية الصحية ” ولذلك بقي السر فترة طويلة حتى تم اكتشافه من الجميع ، وحدثت الجلبة أثر الازدحام ، وعلق القائد لافتة عليها بخط أسود عريض ” ممنوع الجلوس ” .

الظل قرين الهدوء ، هو في الأصل نقيض النور ، لكنه لا يدحضه ، أنه يشاركه المكان ، ولا يسعى لإزاحته ، يتداولان – عبر الزمان القصير– الكر والفر ، إلى أن يدخل الليل فيختفي هذا وذاك : الظل والنور .

واليوم حدث في الطابور ما عكر صفونا جميعاً ، إذ أن العسكري صبري الأرناؤطي تخابث أثناء توزيع تعيين الفصيلة الثالثة ، وأخفى في كيس من البلاستيك قطعتين من اللحم ، ولما تم التوزيع على الأروانات الفردية ، اكتشفنا العجز ، وراح صبري يقسم أن العجز على مستوى المعسكر كله . بينما هو يوالي قسمه المغلظ ، برز طرف الكيس من عبه ، فامتدت يد ملاك حنا الغليظة إلى صدر العسكري ، وسحب الكيس ، وبكى صبري ، رضخ لأي جزاء نوقعه عليه إلا أن نبلغ الأومباشى عويضة ، أو الصول عبد الخالق ، فقد كان يخشاهما كثيراً .

قال ملاك بغضب : هل ترضى بحكمي ؟

رد على الفور ، وكأنه غريق قد تعلق بقشة : أرضى . .

فاقترب منه ملاك ودعك أذنيه حتى احمرتا ، وكاد الدم ينبثق منهما .

قال لنا في خشونة نعرفها : غذاء هذا العسكري اليوم جراية حاف .

وافقناه ، لكنه أضاف في خبث ، وقد وقع صبري في يد من لا يرحم : بعد الغذاء سألقنه درساً لن ينساه .

جلسنا في دائرة صغيرة ، نهجم بشهية على طعام الغذاء ، كان الطبخة السوداء – أي الباذنجان الرومي – وقطعة صغيرة من اللحم بعد أن حرمنا العسكري صبري من نصيبه . وقد أحس بالذنب ، فأقعى يقرقض طرف الرغيف بأسنانه ولم يهن علينا أن نتركه على هذه الحال ، فقد تغاضينا عن خطأه ، ومد سراج يده بقطعة لحم ، وحفنة يمك .

بعد أن انتهينا ، مرت علينا قطة ، رأيناها تعدو في الساحة الخالية . هنا التفت ملاك حنا إلى العسكري صبري المغضوب عليه ، وأمره بإحضار ظل القطة ، وإلا سيشي بفعلته .

وهنا انطلق صبري كطلقة رصاص نحو الهدف ، وراح يعدو مطارداً ظل القطة ، وكلما مرقت من بين يديه ، أعاد المحاولة ، وكان يقبض على الظل المراوغ ، ويكاد ينشب أظافره في الأرض قابضاً عليه دون جدوى .

ولما عاد إلينا خائباً ، خالي الوفاض ، منكسراً ، معترفاً بالذنب صرخ فيه ملاك : أين ظل القطة ؟

علا صدر العسكري صبري وهبط ، كانت أنفاسه متقطعة : مقدرتش أمسك الظل . . يا أفندم .

خبطه ملاك حنا في ود ، ووسع له إلى جواره ، وجعله يقسم على المصحف – وكان باستمرار في جيب سترة سراج الأيمن – ألا يفعلها ثانية ، وقد أوفى الرجل بوعده طيلة فترة الأساس .

* شمال .. يمين ” ، مجموعة قصصية ، إبداعات شرق الدلتا ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، أبريل 2007 .


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى