شعبان عصام - سبيل السعادتين

من البَدَهيِّ أنَّ كل مَن شدَّ قوسًا، رَمَــى سهمًا، ولكنَّ القَوسَ الذي يُعرِّفُ به المفكرِون السعادةَ يأبَــى ويتمردُ على كلِ بدهيِّ، فالقوسُ واحدٌ والمفاهيمُ سِهامٌ، سهامٌ رَغم تَلُوِّنِها إلا أنّك لا تلقَـى بينها سَهمَ الماديةِ الذي قدْ يهيْمنُ على فكرِ البعض، هذا البعضُ الذي يراهَا تتراقصُ بين المتعِ الماديةِ والثراءِ والسفرِ واقتناءِ علائقِ الأشياءِ.

وللسعادةِ موضعان: دنيويّ وأخروي، وكلاهما شعورٌ بالرضا والارتياحِ والسكينةِ يصولُ ويجولُ في مدارِ القلبِ، ربما يختلفُ هذا المفهومُ بين عديدِ المفكرينَ باختلافِ مشاربِهم، ولكنّهم في هذا المَعين أخيرًا، والفرقُ في السعادتينِ تراه كمًا وكيفًا، لكنْ هلْ يستوِي ماءُ قناةٍ بماءِ محيطٍ؟ وهل تستوي حقيقة بخيال؟

إذن هي شعورٌ لا مادةٌ، قناعةٌ لا طمعٌ، تروٍ لا عجلةٌ، كيفٌ لا كمٌ، ذلك ارتكازًا على قولِ الإمامِ الغزالي:" إنَّ اللّذةَ والسعادةَ عندَ بني آدم هي معرفة الله عز وجلّ" وهذا يعْني أنّ المعرفةَ الحقةَ بصاحبِ الكونِ تجعل عِبادَه في ثقةٍ وراحةِ قلبٍ؛ لأنَّهم يعلمون أنَّ ما يُرضِيه يُسعِدُهم، وما يكونونَ سببًا فيه لإسعادِ البشرِ يُرضيهم، فهم يوقنون أنّ أعمالَهم الصالحةَ لا ممتلكاتِهم الثمينةَ تبحثُ عن أفئدتِهم؛ لتضخَ فيها سعادةً إنسانيةً نبيلةً، فنعمتْ تلك الأعمالُ الصالحةُ التي تبدأُ من سلامةِ صدرٍ تكفِيه عن مقابلة ِالإساءةِ بمثلِها، وسرورٍ يراه في عينِ مسلمٍ أعَانَه، وحبِ خيرٍ للآخرينَ، وإنجازٍ حقَّقَ لمنْ حَوْله نفعًا، ورَضا نفسٍ نصَّبَ نفسَه حائلًا لحسدٍ يحرقُ النفوسَ..، هذه بعضُ أعمالٍ دنيويةٍ صالحةٍ تسكنُ في القناةِ.

أمًا السعادةُ التي يشعرُ بها في الآخرةِ فهي مُحيطٌ لا يُحيطُ بذلكَ القدرِ مِن الغبطةِ التي لَقِيـَها في انتظارِه عندَ ملكٍ عدلٍ كريمٍ، عندَ ربِّه الذي عَرفَه، فوجدَ عندَه كلَ وعدٍ صدقًا، وكلَ مَا آمنَ بِه حقًا، لقدْ آمنَ بقولِه تَعَالى:" لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ" يونس 64 ، فكانتْ سعادةُ البُشرَى التي تقعُ علَى قلبٍ فترفلُه، وتلامسُ العقلَ فتشملُه.

أيُّها الإنسانُ، أتبحثُ عَنْ مفقودٍ وهو في قَلبِك، إيّاكَ والظنَ بحاجتِك لمالٍ وفيرٍ تشترِي به سعادةً غائبةً عَنك، وسكينةً لم تعرفْ طريقًا إليك، وانظرْ إلى ثمنِ قطراتٍ بسيطةٍ من حِبرٍ كُتب بها على لوحٍ زجاجِيّ أبهجتْ كُلَ من رآهَا، أو انظرْ كمْ يستحقُ عصفورٌ مغردٌ أوْقَـعَ النشوةَ في الأسماعِ والأصقاعِ، واقتدِ بقولِ الحُطَيئةِ:

وَلَستُ أَرى السَعادَةَ جَمعَ مالٍ وَلَكِنَّ التَقيَّ هُوَ السَعيدُ

وَتَقوى اللَهِ خَيرُ الزادِ ذُخراً وَعِندَ اللَهِ لِلأَتقى مَزيدُ​

أ.شعبان عصام

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى