صلاح هلال الحنفي - مدفع الشيخ علي.. قصة

( بعد العصاري .. الرياح لا تهدأ .. البحر الأبيض .. تغشاه شبورة مائية .. الكل يخشى من غضبه يبتلع في جوفه كيفما شاء .. ولكنه أحيانا كالرفيق والأنيس )

القاطرة في الرحيل .. اتجاه الميناء .. جنوب شرق .. تترنح .. يمينا .. شمالا .. تصدم .. تكسر .. تغوص .. تطفو .. بين الأمواج العرضية تطير في الهواء .. تنزل كالشلال .. دوار البحر لا يرحم والناس في إعياء .. يأخذون ساترا لهم في أرجائها، وآخرون في ( الباريدج ) أو الكبائن نائمون .. ومنهم من يفترشون الجرائد القديمة .. ويقرؤونها للتسلية .. تظهر بعض ( المانشتات ).. كلمات العولمة .. وأيدلوجيتها صراع بين وحشية الصرب ضد البوسنة والهرسك .. فائض الغاز الطبيعي .. ثم يتساءلون بينهم مني نصل إلى الميناء ؟ بجهدون من خمس عشرة ليلة طوال على ( البارج) في تثبيت منصة حديدية للغاز الطبيعي .. تراها في البحر كالعلم .. تمر سويعات .. اقتربت من عم ( علي ) جالس علي ( البيتة ) في مؤخرة القاطرة .. کشافها يسقط من أعلي نقطة علي وجهه تساعده أنوار شواطئ بورسعيد الساحرة .. عبر البنايات الشاهقة تبرز تجاعيد وجهه ذي الخمسة والخمسين عاما .. كأشجار الجميز العتيقة .. يقلب صفحات الجرائد .. فجأة يرميها فوق الأمواج الهادرة .. تعاند الرفاص .. تتلاعب مع النفايات .. وجهه ممكفهر .. تصطك أسنانه .. کالبحر الغاضب . سألته مسرعا : – ماذا بك يا عم علي ؟!

صمت كالعادة .. وأشار بيده نحو الرفاص .. وجدت اللون الأسود ) يتقلب مع النفايات .. الغاز الطبيعي لمن لإسرائيل !!

– هذه جرائد قديمة بالية . الحزن يخيم عليه فقلت له : – ألم تقرأ جرائد اليوم ؟ ..ربما نستخدمه في سيناء في مشاريعنا الضخمة فأعقبني بلهجة صارمة :

من السهل تغيير المفاهيم والمعايير .. إلا سلوك الإنسان مع أرضه..

بعد صمت طويل .. قلت له وعيناي تراقبان انفاعلات وجهه :

– ماذا تعني يا عم علي ؟!

خرج من ضمته بتنهيدة عميقة مع زفرة حارقة .. هذا المكان بالذات له حنين يعاودني كلما رأيته .. عشنا معه أصعب اللحظات في حياتنا .. بعد النكسة أو حرب الأيام الست كما تسميها إسرائيل .. في مياهنا الإقليمية أتت المدمرة إيلات الإسرائيلية .. تغدو .. تروح .. تتبختر .. وهدفها .. اغتصاب بور فؤاد . في نفس الوقت .. كنت ملحقا مع أفراد طاقم الشيخ علي المرابط علي الشط بجوار المسجد العتيق .. وعرفت فيما بعد أنه كني كذا الاسم لبركته .. إذا أصاب هدفا فتته إلي جزيئات .. بالرغم من أنني كنت حزينا .. عندما تركت طاقم مدمرتي في أبي قير .. ولكن مع مرور الوقت أحببته أحسست أن ذرات جزيئاته تتفاعل مع ذرات جسمي .. لم ينم القادة لحظة .. ولا جميع أفراد البحرية .. الغليان يفور في عروقنا .. يتلون وجهنا .. مر يوم .. اثنان .. أيام .. كانت أرضي القليلة وأهلي .. خطيبتي حافزا لي .. يقطع حديثنا زعيق السفن الراسية .. المتأهبة تعانق بوق القاطرة .. وتأتينا ومضات الفنار .. تلاعبنا .. تتراقص ( الشمندورات ) علي جاني الممر الملاحي .. بألوانهما .. الأحمر والأخضر .. تنفس الصعداء .. البحر يبسط أمواجه الرحبة .. تبدأ الحركة سريعة على (الكاروتة )

فقلت لعم علي بلهفة :

– ماذا حدث حينذاك ؟

تنهد بغيظ .. في لحظة توارت .. أخذت المدمرة الصهيونية لسان التمساح ساترا لها .. فيظهر الهدف لنا علي إحداثيات الرادار .. وبعد عدة محاولات تصدى لها زوارق الطوربيد ولكنها فجأة أجهضتها جميعا علي سطح الماء .. اليأس يولد من جديد .. القادة يفكرون .. ماذا يفعلون ؟ في أستار الليل المظلم .. قبل الفجر من ميناء أبو قير .. أتت ثلاثة مدمرات صواريخ .. يحتضنها البحر برفق وحنان حتى وصلت .. رست بجوارنا في الميناء الحديد .. والتفت حولهم مراكب الصيد .. أحسست أن روحي تنبعث من جديد .. منذ اللحظة عاودني الحنين أن أرجع إلى طاقم مدمرتي .. عندما لمحني الربان .. في شقشقة الصباح .. في التو عدت إلى طاقم مدمرني .. فهمت فيما بعد أن كل شيء مرتب لإعادتي .. في الساعات الأولي من الصباح كل منا يعمل بانتظام وبتوجيهات مستمرة من القائد .. والقلق لم يتركنا لحظة .. في وضح النهار .. والضابط المهندس مع زملائه في المدمرات الأخرى .. عبر الرادار ضبط الهدف بالإحداثيات أحدهما أعطي إشارة للربان بأن الهدف بالطول .. وعلى الفور قام الربان بتبليغها إلى القائد .. ولم تمر دقائق كالعادة .. رحت الأرض رجا من مدفع الشيخ علي .. بصاروخه الضخم متجها نحو إيلات .. فاستدارت .. فأطلقت صاروخها نحوه فأعقبتها المدمرات الثلاث بصواريخها تباعا .. فانقسمت إلى نصفين .. والثاني في المقدمة والآخر في المؤخرة .. فابتلعها البحر وتعانقت الأمواج فرحا كأنما تنتظرها بشغف منذ وقت بعيد .. وتناثرت الجثث الخبيثة .. تطفو .. تغرق .. الكل يهنئ بعضه نظرت إلى صديقي ورائحة جلده المحروق .. تعانق خشب ( الكاورتة ) تمتز أشلاؤه .. تتحرك كأنه يمشي .. يبتسم لي .. دموعي تحتضنه .. ونحن مرب متفرقين .. تجاه أبي قير ..

القاطرة تتهادى .. تسير ببطء .. تترك بقايا تمثال ديلسيبس المزعوم .. ونرى الأطفال والصبايا والشيوخ .. يلوحون بأيديهم .. يبتسمون من فوق ( معدية بورفؤاد ) .. بعيدا عن مرمي البصر .. الورقة السوداء .. تمتزج بالنفايات وحوت كبير .. يحتضنها ..


• القاطرة : ( اسبلاي يقوم بعمل خدمات للبارحة ).
• البارج : ورشة عائمة بما أحدث التكنولوجيا الحديثة .
الباريديج والكاورتة كلها أجزاء من حاملة صواريخ بحرية


———————————————————————-
* هامش : * فازت هذه القصة الفائزة بالمركز الثاني على مستوى الجمهورية في أدب الحرب عام 2000




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى