وارد بدر السالم - إيديولوجيا الإبرة.. الثياب الجريحة!

الحجوم هي التي تقرر المساحات وليس العكس .


(1)
الإبرة كائن هامشي صغير . بل هو اصغر عنصر في الموجودات البيتية . نسق اجتماعي غير منظور في تراتبيته بين العناصر المنزلية التي تكوّن وحدة البيت في منظوره الفني المتكامل .
نسق يكاد يكون مهملاً ومنسياً ليس ذا شأن في وجوده المقصي المتروك في الأدراج المعتمة كأية حاجة لا تقع العينُ عليها ، لكنه يصبح ذا أهمية قصوى ولن نتخلى عن وجوده في حالات مهمة وعاجلة ترتبط في إصلاح ما أفسده الدهر.
اجتماعية الإبرة تربطها بالبيت الفقير أكثر من ارتباطها ببيت الغني . ارتباط له ما يبرره على المستوى الحياتي المتقشف المضغوط تحت وطأة الفاقة والعوز . إبرة البيت ليست هي ابرة الخيّاط في محال الخياطة . ثمة تفصيل لابد أن نقف عنده في المقبل من الكلام . الفقير يرتّق ثوبه بإبرته الوحيدة. والغني لا يملك إبرة لأن أصابعه لم تعتد الحياة العملية في أشيائها البسيطة ، ولأنه يستغني عن ثيابه القديمة . نعتقد أنه لا يملك ثياباً قديمة أو مشققة او حائلة أو مقطوعة الأزرار أو مفتوقة المؤخرة . السوق هو الجاهز والبديل ، فإبرة خياط السوق ميكانيكية وكهربائية سريعة الحركة جداً . تنجز ثوب الغني بأقل الوقت حتى لو كان السعر باهظاً .فيما تدرج ابرة الفقير على الفتق كسلحفاة عمياء وتترك أثراً لا يُخفى ، لذا فالثياب المرتقة تئن من وجع إبرها ويمكن ان اسميها : الثياب الجريحة !
هذا الكائن المتروك هو أغرب ما في البيت من كائنات وعناصر متكافلة في ارتباطها العام ، فهو أنثى وذكر في آن واحد وإن اتخذ تسمية أنثوية كشأن التسميات الأخرى التي تقدّس تسمية الأنثى وتأنس لها وتفخر بها ، فالعناصر الجامدة اناث في معظم التسميات ؛ السجادة – الستارة – الثلاجة – القنفة – الوسادة – المخدة – المرآة – المزهرية – الصورة – المكتبة – المجمدة – المدفأة ...الخ وتدخل الإبرة في هذا السياق وتكتسب تاء تأنيثها بجدارة وتنضم الى هذه الأسرة السعيدة بشبابها الفضي اللامع !
لكنها ذكر أيضاً !
(2)
الإبرة أنثى رشيقة القوام . ملساء . فضية . إطلالتها أنيقة وفاخرة ومغرية الى حد ما لو تمت مقارنتها بعمتها السجادة الهرمة أو خالتها القنفة الأنيقة أو ابنة حماها الثلاجة الواقفة . اللهم الا ابنة أخيها المرآة اللعوب التي تتجمل في الوجوه طيلة النهار فتكسب علامات الرضا دائماً ؛ وبسبب واجباتها التجميلية فإنّ لها حظوة خاصة لدى الجنسين لاسيما لدى المرأة التي لا تفارقها أينما حلّت .
الإبرة كائن أعزل بالرغم من أنها مدببة وسلاحها الدفاعي يتقدمها كواخزة تؤلم وتجرح وتسبب حرجاً . غير أنها تبقى عزلاء في مهماتها اليومية ، ودفاعاتها الصغيرة هي اقتحاماتها الكبيرة في عالم الثياب والأزرار على نحو يدعو الى الإعجاب والإثارة فعلاً بنظام دقيق ذي مسافات تكاد تكون متساوية كونها معقودة على خبرة الأصابع ومهارتها .
الإبرة قارضة المسافات بشهوانية لا نظير لها.
(3)
عنصر ناعم يكاد لا يرى كثيراً إلا في مناسبات معينة معروفة . ويُعد العطار الوحيد في البيت الذي يصلح ما أفسده الدهر ، هي شباب لا يشيخ . يمر بها الزمن وتنقلب الأحوال . وتتغير الأمكنة ، لكنها تبقى تحتفظ بكينونتها وكيانها من دون ان يمر بها الزمن ويشرخ من عودها أو هيبتها . انمسخت تفاصيلها الى حد كبير لكنها أبقت عيناً واحدة لها ، هي عينان في الوقت ذاته من اليمين واليسار ترى بها العالم الداخل والخارج لتكون على بيّنة من الحياة. ومن الواضح وبلا اسرار فإن الخيط هو عشيقها الأزلي الذي لا يفارقها لحظة ، وهو الكائن الصامت الوحيد الذي يمنحها حياة كاملة فتثمر ومنه وتتهيأ في كل وقت وهو الحالة الوحيدة التي تفهم أنوثتها بشكل صحيح !
الإبرة ذكر وإن اتخذت مسمىً أنثوياً في بيولوجية الدخول والخروج ، فتتفرد من أنها العنصر البيتي الوحيد الذي يحمل جنسين بذاته كبزاقة البحر، استراحة المرأة ومراجعة كمالها في جسدها وروحها بغياب الزوج ، والإرتماء بحاضنته في حال الغرام المتوقع في أية لحظة حاضرة تزدهر بلقاء ، ولن يكون الخيط إلا هو سرّة الإبرة في تجليات هذه العلاقة الحميمة المكشوفة التي لا تلفت الأنظار اليها كفعل حميمي ، كونها ممارسة ظريفة ومنتجة وفيها من الخيال العملي الشيء الكثير .لهذا فالإبرة ممارسة شعبية قبل أن تكون ممارسة تجارية . بيتية – سرية على وجه التحديد قبل أن تكون دكاكينية معرضة للمساومة . لهذا فهي ذات حظ في المخيال الشعبي والاجتماعي ، ولها منال في مآل الأحلام فهي ، كما يقول مفسرو الأحلام ، دالّة على المرأة والأَمَة لثقبها وإدخال الخيط فيها بشارة بالوطء وإدخال غير الخيط فيها تحذير لقوله تعالى: " وَلَا يَدْخُلُونَ الجَنّة حَتّى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخَيّاطِ " فإن كانت هكذا لأول تفسير حلمي فإنها في تفاسير مختلفة هي الأعزب والفقير ولم يحدث أن دلّت على الغنى . لذلك يبقى ارتباطها اجتماعياً مها دخلت عليها حداثات الحياة وتكنولوجيا الصناعة وطورت من حالها .
(4)
تتخذ الإبرة ، وهي أنثى ، فعلا ذكوريا في دخولها المتسارع الى الثوب غير ان المفارقة انها لا تفتح بكارة الثوب بل تغلقه وتحرص على اغلاقه ، وتتخذ فعلا أنثوياً ، وهي الذكر ، في استقبالها لشهوة الخيط الذي يلجها فيحرّك فيها فعل الذكورة بطريقة متعاكسة . شعور الأنثى المهيجة لتصبح ذكرا تمارس فعلها على نحو مستريح في الحالتين وفي لحظة واحدة ، وهذا من أسرارها الغريبة أن تكون خنثى اكتسبت لقب الأنثى فهي الأقرب اليه وإن كانت ذكراً يمارس ذكورته على نحو شهواني فيرتّق بكارات الثياب ولا يفتحها !
ابرة حمزاتوف
ينسب الى حمزاتوف شاعر داغستان قوله : الإبرة الواحدة تخيّط ثوب العرس والكفن . وحمزاتوف يجمع الحياة والموت في الإبرة ، فهي التي تخيط بدلة العرس وتخيط الكفن . ثنائية الحياة والموت تجمعها الإبرة النحيفة في رحلة أرضية وسماوية معقدة . وليس للإبرة دور في صياغة الحالتين ؛ الحياة والموت ؛ سوى صياغة الشكل الأول والأخير منها في عُقدة ثنائية تربطها ثياب ستبدو فيها متشابهة جداً في اللون الأبيض الذي يقود الحالتين من ولادة وموت في سنوات غير متكافئة من الوجود المرتبك في الحالات كلها.
إبرة العرس هي ابرة الموت عقدت تاريخيتها على لون أبيض تعاقدت الشعوب والوراثة والطقوس والتاريخ البشري وربما الأديان في تجلياتها الخفية أن يكون هذا اللون هو البداية والنهاية .
إبرة العروس
تستنجد العروس القروية بزينتها بالوشم ، وهو (خشل ) الفقيرة كما يسمى بالعامية العراقية ، وتلك التي لا تملك مصوغات ذهبية تتزين بإبرة الوشم ، وما تزال أمهاتنا حتى اليوم موشومات بتلك الخرائط البدائية في طوطمية القرية وسحر التجميل الأول وفقر الحياة وعفويتها وطيبتها وبراءتها ، ولأن للإبرة مقامها في هكذا مناسبات ، فتتخلى عن دورها مؤقتاً وتمارس دوراً منظماً في الغرز على خرائط شفافة من الرماد البارد على لحم أنثوي مترف وبض لتخرج بأشكال قد لا يكون لها معنى سوى التجميل ، وهذه أول مرة تكون الإبرة فيها حاملاً لشهقات صغيرة من أنثى حقيقة وتفتح بكارة جسدها عبر نقاط من الدم تظهر بطيئة ثم يمتصها الرماد البارد ليخلف بعد فترة أشكالاً خضراء .
هذا الدور المؤقت الذي تلجأ اليه الإبرة في الحالة التزيينية القروية وتكون في حالة ذكورية صريحة سيتكرر ثانية لكن بتحويرها أكثر من مرة ، عندما تفقد دورها الأساسي من مرتّقة ثياب الى مرتّقة لحوم بشرية في صالات العمليات ،لكن ليست هي ابرة الخياطة البيتية إنما تم استلاب اسمها التاريخي ولتشابه دورها الترتيقي التخييطي في هذه الحالة فقد يلجأ الأطباء الجراحون الى فتح مواضع مختارة من جسم الإنسان تكمن خلفها أمراض مستعصية ومن ثم غلقها بإبرة لها خصوصية سرانية في ممارسة دور صعب لتزرير وصلات لحمية وإعادتها الى أشكالها السابقة ، وهذا الدور الطاريء في حياة الإبرة يتكرر من جديد في إبرة الحقن المحوّرة كلياً وهي إبرة الشفاء التي لا غنى لنا عنها في حياتنا اليومية ، ولأول مرة نرى إبرة مجوفة يدخلها سائل ويخرج منها سائل في عملية تبادلية سريعة في الحبل والقذف والولادة تمهيداً لإعطاء جرعة شفاء محتملة.
(5)
تشاء الأقدار أن تخرج الإبرة من وقارها القروي الى عالم آخر أكثر سطوعاً بأضوائه الباهرة وتجلياتها الثرية ، وهو خروج تاريخي ليس وليد لحظته ، فبالقدر الذي استوطنتْ فيه الإبرةُ القريةَ ، فإنها نتاج مديني قديم ، وإذا تقصينا الأثر بصبر فإنها أبعد من ذلك أيضا ، حيث بدائية القرية وعفويتها وحاجتها لتوضيب اشتغالاتها اليومية عبر إبرة العظام الأولى التي كانت الحاجة فعلية لها مع الخيط الأول المعمول من عصب الحيوان ، وهو اكتشاف لا يقل أهمية عن اكتشاف الملح في القرن السابع عشر. وهو القرن الذي حظيت به الإبرة بصناعة حاضنة يدوية لها من قبل "توماس سنت" قبل أن يطوّرها السيد "اسحاق سنجر" في منتصف القرن الذي تلاه وينجح في إجلاس الإبرة على قاعدة متحركة غاية في الدقة.
ويسحبنا التاريخ الى هذا المخلوق المتحول فنجده في قبور المصريين الفراعنة مصنوعاً من عظام السمك والعاج وبعضها مزود بالخطاطيف ، كما تم العثور على الإبرة في مقابر الهنود الحمر وهي العظام الرفيعة في أجنحة الطيور، وفي قبور سكان البيرو في العصر البرونزي وفي الصين والهند واليونان والرومان في العصر الحديدي في حقبته المسيحية ، وفي كل أمكنة الحضارات الإنسانية التي مر بها الإنسان وأقام وابدع واستبدل حياته أكثر من مرة ، كما لو كانت الأزياء نتاج فكرته المطوّرة ، ومع أن الثياب حاجة سبقت الإبرة غير أن الأخيرة تمكنت من أن تكون لصيقة بالثياب كتوأم لا يمكن التفريط بأهميتها في تثبيت قطع القماش المقصوصة أو مقطعة الأوصال ، لتكون صناعتها فيما بعد فناً متحضراَ قيل أن العرب احتكروها في القرن السادس عشر حتى ظهرت في انكلترا في القرن ذاته.
لاشك ان تحولات الإبرة كانت مثيرة وقد فتحت عالم الخياطة من أوسع أبوابه ، فمنذ العصر المصري القديم الذي واجه أفراده مشكلة ثقب الإبرة حتى العصور اليونانية والرومانية كان هذا الكان الصغير أكثر من مدلل برؤوسه الذهبية وأشكاله المنتقاة من الأفاعي والأحصنة ، ومنذ اختراع ماكنة الخياطة على يد توماس سينت أواخر القرن السابع عشر وحتى الربع الأول من القرن الثامن عشر باختراع اول ماكينة آلية على يد الخياط الفرنسي بارثيليمي ثيمونييه ومن ثم محاولات الهاوي الأميركي إلياس هاو الذي ابتكر عملية للخياطة باستخدام خيط من مصدرين مختلفين وحتى نجاح إسحاق سنجر باختراع آلية الحركة صعوداً ونزولاً التي تستعمل الى يومنا هذا ، ظلت الإبرة تتسامى بروعتها ورقتها كونها شهدت تحولاتها الجنسية منذ العصر المصري القديم الذي نسخ منها جنساً ثانياً بعدما كانت ذكراً فأحدث بها ثقبا أنثوياً لحاجة ذكورية مررت الخيط عبرها ، وكان عصباً حيوانياً ، لتشهد هذه الآلة الصغيرة ولادتها لاحقاً من أنها مزودة بجهازين جنسيين افتراضيين يعملان بدأب لتثبيت مفاصل الأقمشة على الجسد البشري ، لاسيما الأنثوي منه الذي شهد موضات وصرعات مبالغاً بها منذ ستينيات القرن الماضي وحتى اليوم كانت الإبرة فيه علامة من علامات التحولات الفخمة التي شهدتها أزياء القرن العشرين والحادي والعشرين ، ففستان الأميرة ديانا ليس هو فستان السيدة ماريا المجهولة التي حفرت فيه إبرة العظام حفائرها ، والثياب الإمبراطورية ليست هي ثياب مهرّجات الحانات وميني جوب بريجيت باردو ليس هو الديكولتيه الذي يكشف صدر ورقبة وأكتاف صوفيا لورين ، والثياب الإمبراطورية للدوقات الإنكليزيات لا يشبه ثياب ملكات بابل ومصر.وبدلات جنرالات الحروب غيرها عن بدلات الساسة من ذوي القبعات المستديرة .
وهكذا تمضي الإبرة الناعمة تروي سيرة الحياة بطريقتها الناعمة.....
فصل من كتابي ( أصابع السرد) وارد بدر السالم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى