د. أحمد مبارك الخطيب - الإمام علي في شعر المتنبي

لم يكن عبثا قولهم عن المتنبي إنه مالئ الدنيا وشاغل الناس في عصره . فما يكاد يقول قصيدة حتى تتناقلها الأوساط الأدبية في مختلف ارجاء الدولة العباسية ، ثم ينقسم الناس حولها ، بين معجب بها حتى الوله ، ونافر منها بسبب الحسد ، أو بسبب ما كان يراه بعضهم من عجرفته وتكبره ، ويروح هؤلاء يدبرون له المكائد ، ويشككون في كل شيء لديه . ضوكان نسبه الذي تحوم حوله الشكوك ، فرصة لخصومه الذين يرونه نسبا متواضعا . وهذه القضية بالذات حاول المتنبي ، لأمر ما ، طوال حياته أن يظل نسبه حبيسا في نفسه رغم تعرضه لأسئلة من معاصريه حوله . وكل مانعرفه عنه أن اباه كان سقاء في الكوفة ، وهي معلومة شك كثير من الدارسين بصحتها .
وكانت الكوفة التي بها ولد وترعرع فيها برعاية جدته ، بيئة مناصرة للإمام علي ، وهذا مادفع الدارسين إلى القول إنه شيعي . ويؤيد ذلك ما تردد لدى بعض المصادر التاريخية أنه كان قرمطيا ، وأنه سجن بهذه التهمة ، ثم خرج من السجن ، وصمم على الكفاح لإثبات ذاته ، إما بالحصول على السلطة في إقليم ما ، يرضي بها طموحه الذي لاحدود له على الإطلاق ، او ان يحقق ذاته في مجال الشعر ، ولكن ليس كأي شاعر ، وإنما كشاعر متفرد في القمة . وقد
اخفق في الاولى ، ونجح في الثانية نجاحا باهرا .
ولأنه كان شاعرا متفردا ، فقد تعرض لموجات من الحسد غطت سطوح تفرده في أحيان قليلة ، ولكنه ما ان يقول قصيدة لاحقة حتى تتراجع هذه الترهات ، فلا تؤثر على ريادته الشعرية .
ولكن قصة نسبه كانت تتفاعل مع الزمن دون توقف ، والمرة الوحيدة التي أدلى برأيه في ذلك قوله في رثاء جدته :
ولو لم تكوني بنت أكرم والد
لكان اباك الضخم كونك لي أما
ويعني بذلك أن مجرد أمومتها له كاف لأن يكون والدها أكرم الآباء وأعزهم . وكما ترون ، فإن هذا البيت يلقي هو الآخر ستارا على نسبه ويزيده غموضا .
الكاتب المصري الكبير ( محمود محمد شاكر ) الذي درس المتنبي مدة خمسين عاما ، رأى انه شيعي المولد ، وينتمي لأسرة كريمة جدا . وفيما بعد ، كتب ( عبد الغني الملاح ) كتابا بعنوان : المتنبي يسترد أباه ، هداه بحثه فيه إلى أن المتنبي هو من أحفاد الإمام علي بن ابي طالب ، وانه ابن الإمام المهدي الإمام الثاني عشر .
يضاف إلى ذلك أن وجوده في بلاط سيف الدولة في حلب الذي يقال إنه كان شيعي الهوى ، قد يلقي ضوءا آخر على اصول نشأته الشيعية ، وهناك من يرى أن اتصالا ما كان بينه وبين ( الحسين بن حمدان الخصيبي ) في حلب ، وأنه جعله من انصاره ، وإن تكن هذه الرواية غير مقنعة ، لأن المتنبي وإن كانت اصوله شيعية ، إلا أنه لم تستهوه المذاهب ، بل استبعدها من شعره ، ولم نجد في ديوانه ما يشير إلى أنه انخرط في أي تمذهب ، هذا بالإضافة إلى أن في شخصية المتنبي عظمة وكبرياء ، ومن العسير أن يتقبل غير رأيه ، ومستعد لأن يموت دونه .
ولذلك ، فإن النتائج التي توصل إليها أصحاب هذه الروايات تنقصها الدقة ، ولا سيما ما ذهب إليه الملاح ، و هي تقوم على استنتاجات غير مقنعة . وقد اتخذ المتنبي منذ بداية حياته سمتا لم يغيره طوال حياته ، فهو شاعر عربي بالدرجة الاولى ، وصاحب قيم نبيلة تمسك بها حتى الموت ، ووجد انه كفء لتخليص العرب من حكامهم الصغار ، وانه هو المؤهل لذلك ، ولعله من المفيد الإشارة إلى انه لم يتعرض للخلفاء الراشدين بكلمة واحدة ، ولا للدولة الاموية ، ولا الدولة العباسية .
* * *
وفي ديوان المتنبي لناصيف اليازجي خبر يقول ، إن المتنبي عوتب لأنه لم يذكر الإمام علي في شعره بشيء ، فرد على ذلك ببيتين هما :
وتركت مدحي للوصي تعمدا
إذ كان نورا مستطيلا شاملا
وإذا استطال الشيء قام بنفسه
وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا
وهذان البيتان لم يوجدا في بقية دواوين المتنبي ، واوردهما اليازجي بدون تعليق ، وشرحهما شرحا إجماليا دون تفصيل ، ومن المعلوم ان المتنبي كان يغربل شعره ، ولم يثبته كله . ولكن الملاحظ في البيتين استخدامه لكلمة الوصي ، وهي نظرة تتفق مع الاخبار الثابتة التي ترويها الشيعة عن الإمام علي . ومن جهة أخرى ، فإن البيتين اعدت قراءتهما مرات عديدة ، ولم اتمكن من الوصول الى معانيهما الدقيقة ، وإن تكن كلمة( نور )التي اطلقها على الإمام تستند إلى قول الرسول الكريم حين طلب ابنته فاطمة للزواج منها كل من الخليفتين ابي بكر وعمر وغيرهما ، فرفض وقال : امرت أن ازوج النور من النور ، ويقصد الإمام علي وفاطمة .
اما كلمة ( مستطيلا ) فأعاني منذ زمن من فهمها ، وللصديق الباحث هاشم عثمان محاولة لفهمها من خلال الرموز الصوفية ، ومع التقدير الكبير لثقافته الواسعة في التصوف وغيره ، فإنه يلقي ضوءا جديرا على المعنى من خلال ثقافة التصوف ، وهي الثقافة التي لم تشدني يوما ، ولم أستطع متابعتها . فهل كان بيتا المتنبي منحولين أضيفا إليه لسد ثغرة ، او لهوى في نفس قائلهما ؟ ام ان المتنبي كان يلجأ إلى الغموض في ذلك ، للتهرب من الإفصاح عن ميوله كي لايستهدف من قبل أعدائه ، ويكيلون له الأذى ؟ أم أنه اتخذ قراره بأن
يكون بعيدا عن الخلافات الدينية ؟ ولاسيما انه في عصره وجد من يتهمه برقة دينه ، وقال عنه : إنه ماصام ولا صلى ولا قرأ القرآن ، و في مقابل ذلك ، قيل عنه إنه ما لاط ولا زنى ولا كذب . ويستطيع دارس المتنبي ان يميل الى ثلاث الصفات الاخيرة ويؤكدها ، لأنه كان ملتزما جدا بالمبادئ الاخلاقية ، ولم يعرف عنه انه زنى او كذب طوال حياته ، في حين أن ثلاث الصفات الاولى لايمكن تصديقها ، فهو مثقف ثقافة عربية ، اساسها القرآن الكريم والشعرالعربي الجاهلي ، والإسلامي ، والعباسي الاول ، ويستند في كثير من أبيات قصائده على التراث الشعري ، وهو أمر بدهي لاداعي لمناقشته .
ويمكن القول إن أبا الطيب لم تكن لديه اهتمامات دينية ، ذلك أن طموحاته العليا صرفته عن خوض هذه المعارك الهامشية التي لاطائل منها ، وراح ينأى بنفسه عنها ، و قد بقي متعلقا بالمبادئ ، وعاشقا للبطولة والمجد الذي ابدع في الحديث عنه ، ومات دونه .
ونحن الذين نعيش في هذا العصر نشعر أن مبادئه واحلامه العربية العظيمة مازالت تطاردنا وتلهبنا بسياطها ، ونشعر بوطأتها .
ولعل شعر المتنبي يعد مدرسة في التعبير عن المثل العربية العليا ، وقد اهله ذلك لأن يكون عاملا من عوامل الوحدة الثقافية العربية ، تتعلق الاجيال بشعره ، وستبقى كذلك إلى أمد غير محدود ، وهو القائل :
وما الدهر الا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرا اصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمرا
وغنى به من لا يغني مغردا


د أحمد مبارك الخطيب


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى