صلاح هلال الحنفي - صورتان للشهيد

اخيرا .. عاد إليها بريق الأمل .. بعد أن سمعت الجدة من المذياع .. فك الحصار عن الثغرة .. نزول الراحات .. لم تنس قط .. ضعف نظرها في السنوات الخمس العجاف وتورم أقدامها .. عندما صالت وجالت جميع المستشفيات .. وتتدلى من عنقها صورته المكبرة وهي تقف شامخة علي صدرها بزيه الميرى بألوانه الأصفر والأخضر وبين قبضة يديه سلاحه شاهرا بعزة وكبرياء .. باسقا كالنخيل .. تفارقها لحظة لم تنم قط منذ رجوع الأبطال من الجبهة إلى قريتها .. وهي تجلس معهم وهم يتسامرون ..

يتحاورون .. مع الأهل والأصحاب فرحين بما فعلوه عندما كانوا يفتكون .. يهرسون .. يرکلون بأقدامهم العدو .. تمنت أن تسمعه من حفيدها فلذة كبدها .. بين عشية وضحاها .. كانت علي شاطئ القناة .. وقفت .. تسمرت .. تعانقت طرحتها وملاعقهما

السوداء جلبابا .. فيظهر وجهها في لون النخالة .. حزينة .. كئيبة انا .. الجو بارد .. قارس من لم تيأس .. تنتظر بلهفة .. بشغف .. مجيء حفيدها جهاد .. “

بدأ الأمل يعيش داخلها من جديد .. والجنود تأتي فرحين . مهللين بالنصر الكبير بعد فك الحصار فتميل بإحدى أذنيها .. لكي تسترق السمع نحوهم .. تسأل بصوتهما المبحوح : – يا أبطال .. مافيش حد يعرف صاحب الصورة .. يبتسمون طما – جاي ورانا يا جدتنا .

ينظرون إليها بلهفة الأم .. يقبلن يديها .. عيناها تذرف الدموع فرحة .. الجو يزداد برودة .. ترمق من بين دموعها المنهمرة شجرة تجردت من ملابسها في فصل الخريف تميل إحدى فروعها نحوها .. تواسيها .. فابيضت عيناها وهي كظيم .. ظلت تتحسس براحة كفيها الطيبتين كل القادمين إليها .. وهم يقبلون يدها .. والكل يتفوه ..” جاي ورانا يا جدة الغالية “

آخر جندي قادم ينظر بنظراته الثاقبة .. فجأة وقف غير بعيد .. يتأمل الصورة .. الوجه الكاسر والعينين الصائبتين .. قوى البنيان : إنه هو .. شخصيته راسخة كرسوخ الجبال .. كانت صفاتنا وملامحنا واحدة حيث كان القائد وجميع الزملاء لا يقدرون أن يميزوا بيننا و كانت سعادتنا لم توصف .. حيث وجدنا أرواحنا في جسد واحد .. ولم أنس ذلك، اليوم .. أصدر القائد تعليماته لنا فأسرعنا إليه فربت بيديه على كتف ” جهاد ” قائلا : لقد جاء دورك الآن فقد ظهر لنا سرب من دبابات العدو في نفس اللحظة .. كان متأهبا بعزة وكبرياء وجسده محاط بالألغام ، وفي لحظات كان خلف خطوط العدو قذف بنفسه بين الدبابات فسمعنا دويا في السماء ..

من ذلك اليوم أحسست أنني أعيش وحيدا كلما خطوت خطوة كانت روحه معي لم تفارقني أبدا .. أصبحت كأسد جريج يلتهم العدو التهامة في أي وقت وزمان .. فوقعت عيناي على الجدة بقوامها الصلب إنما كما وصفها لي .. حيث تربي في كنفها .. هي كانت الأم والحنان .. كنت يتيما مثله منذ الصغر .. بلا شعور هرعت إليها فاحتضنتني في صدرها فأحسست أنني متكور في بطنها .. ها هي لحظات الحنان لم أشعر بما منذ وفاة أمي .. فأطلقت “زغرودة ” وهي تتحسس بيدها .. ثم توقفت فجأة بشجن وقلبها يخرج كجمرة:

– مين إنت ……… ؟!

– أنا محروم من أمي وأنا صغير ……..

دار بينهما أحر الكلام .. وذابت دموعهما سويا .. احتضنته الجدة بشغف ملهوف .. فارتدت بصيرة وهو يقبل يديها ورأسها فيظهر قرص الشمس الدافئ يذيب الجليد ..


* هامش :
هذه القصة الفائزة في أدب الحرب ثقافة الدقهلية عام 1990




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى