السيد نجم - الحجاجي يوسف.. قصة

ربما نتقابل مع أناس لا نعرفهم, فلا ننساهم أبدا, وإن كان ذاك اللقاء للحظات قليلة. فما بالك أن أقص عليك لقاء دام سنوات مع مخلوق غريب عجيب.

قابلته في المرة الأولى وسط جموع المجندين الجدد في ساحات مركز التجنيد الرئيسي في القاهرة. كان ضمن أفواج بلا حصر تقذفها السيارات الزل في الساحة. التقطته من وشمس يوم جديد

… … … … …

لم أكن وحدي, الذى انتبه له.. هو بالذات. كيف لا ينتبه الجميع, بينما صوته الأجش الخشن يغنى النشاز بعينه؟!, يقول:

” برهوم كان حشاش

عنده جوزه نحاس

باعها وجاب رصاص

يحارب عدوه”

“أي والله”.. يرددها هكذا, يغنى الفقرة ثم يقسم بالله.

ويكررها, بلا ملل, مع تعليقاتهم الساخرة, وهم يلعنون أهله وناسه.. ثم يبتسمون!

ﺇنه هو.. أكيد. “الحجاجى يوسف” الذي أعنيه, ووجدته أمام عيني في كتبة المشاة على الجبهة. لم نحضر سويا, فقد تم توزيعي على مركز تدريب الخدمات الطبية, بينما وزع هو إلى مركز تدريب المشاة. صحيح “حجاجي” من الوجوه التي لا تنسى, ليس فقط بسبب سمرته والندب المحفورة على وجهه, ولا حتى بسبب نظرة عيناه الغامضتان.. بسبب “برهومه”, كان وما زال على حال غنائه وطربه الخاص, ثم صمته الغامض.

آثار فينا التساؤل.. من برهومة هذا؟ ولماذا؟ بل لماذا تلك الفقرة بالتحديد من إحدى أغنيات فرقة “ولاد الأرض”.. كيف عرفها الصعيدي “الأقصرى”؟ لم نعرف إجابة, ولم يسع أحد لمعرفتها, أما أنا فقد اكتفيت بنجاحي في أن تذكرته جيدا.

أدعى أنني عرفته أكثر مما عرفت زوجتي, ليس لكونه أكثر بوحا وصراحة ووضوحا منها..أبدا، لأنه هكذا يجعلك تتعلق به فور تلاقيه ولو لمرة واحدة حتى في الطريق العام.

ما بالك أنني قابلته خلال أيام تجنيدي الأولى, ثم لأكثر من ثلاث سنوات متواصلة, ليل نهار, أثناء فترة حرب الاستنزاف وحتى معارك أكتوبر عام ثلاثة وسبعين في منطقة الدفرسوار, وهى منطقة قريبة من مدينة الإسماعيلية, على جبهة قناة السويس.

كانت الفترة الأولى للقائي معه كفيلة لأن أقص على مسامع الأصدقاء النوادر التي تتكرر منه, والنكات التى لا يتفوه بها بل تتساقط عفوا من فمه إذا ما نطق, وقليلا ما يفعل.. وإذا ما هم بتنفيذ أمرا من أمور الحياة اليومية العسكرية, أو لتنفيذ أمرا من قائد الوحدة.

ماذا تقول في ذاك الجندي الذي ظل يحفر في الأرض طيلة ليلة كاملة, تنفيذا لمقولة تتردد عفوا على السنة الضباط والجنود.. يقولون لأمثالنا من الجنود الجدد:

“صفا.. انتباه

أحسن جنود.. عايز أحسن كمان.. عايز ضربة رجلك في الأرض تطلع ميه”.

ويتحمس الجميع, ينشغلون في التهيؤ لضربة واحدة مشتركة معا وقوية.. بينما ينشغل الحجاجى أكثر في موضع قدميه. فيسبه الشاويش:

“يا عسكري يا كويرك, الخنزير وحده يبص على الأرض, ويوطى رأسه…

ارفع راسك يا عسكري…”

لم نكن ندرى أن الحجاجى انشغل في موضوع تلك المياه التي لا تصعد من تحت قدميه, بينما كانت ضربته على الأرض نسمعها حتى الصف الأخير من الطابور.

يسمع السباب الساخرة بأذنه, ولا يبالى, وعن نفسي أظن يقينا أنه لا يسمع أحدا, يسمع ما رأسه هو..فقط.

والا لماذا حدث ما حدث؟

أخبروني عن يوم وصوله إلى الوحدة, وفور الانتهاء من طابور “التمام” للحصر والجمع وتلقين التعليمات الأولى للجنود الجدد. كما المتبع وقف قائد الكتيبة, وكانت كلمات القائد, ثم أوامر الصول “سالم” قائلا:

“على كل جندي تجهيز حفرة برميلية على أرض الوحدة حالا, مهمة تلك الحفرة هي حماية الأفراد ووقايتهم من ضربات الطيران أو المدفعية”

خلال تلك فترة معارك الاستنزاف تلك, كانت الغارات الجوية, وضربات المدفعية بعيدة المدى, من الأمور المعتادة يوميا.. سواء على القوات المتراصة بطول خط قناة السويس, وفى العمق على مدارس الأطفال والمصانع. ولهدفين لا ثالث لهما, إما لمنع تشييد قاعدة مصرية للصواريخ المضادة للطائرات, وإما لقتل قطة تلهو وتتقافز غير عابئة بشيء على الضفة الغربية للقناة..

التلقين والأوامر تمت في وقت قصير جدا مع تلك المجموعة الجديدة الشئوم, كما أطلقها عليهم زملائهم القدامى.. منذ اليوم السابق على وصولهم, لم يتوقف القذف العشوائي على أرض الوحدة, والمنطقة المحيطة.. ولم يتردد القدامى في استقبلهم, ساخرين:

“أهلا يا وش الخندقة والحبسة..”

ولما تابع أحدهم بالسؤال الساخر:

” نفسي أعرف النجس اللي فيكم, اللي جاب معاه الضرب المتواصل”

فانبرى “الحجاجى” وصرخ, ونادرا ما يفعل, قال:

” أنا جيت يا دفعه, لزما ولابد يعملوا حسابي”

طريقة رده وصوته الجم الجميع بالدهشة, لحظات وانفجرت الحناجر بالضحكات والتعليقات الساخرة. لم يكفوا إلا لمتابعة تنفيذ الأمر فورا, ببدء الحفر حفرة.

الحفرة بطول قامة الجندي كخندق يقلل من فرصة الإصابات المباشرة من أسلحتهم المفتوحة نحونا.

أما أن يقولها الصول “سالم”:

“أنا عايزك يا عسكري تطلع ميه من الأرض”

ثم يدير ظهره ويختفي.. فما كان منه إلا البقاء ليلة كاملة في تنفيذ المهمة طاعة للأوامر, وقد صنع هرما من الرمال, وحفرة تكفى مائة رجل, وهو ما أدهش الجميع!

فلما سألوه عما فعل, أجاب ببساطة التنفس:

” الميه بعيده “

لتصبح النكتة التي ما أن نتذكرها فرادى.. نبتسم, وما أن نرددها معا.. نضحك, حتى بعد انقضاء الأيام والسنين.

هذا بالضبط ما حدث مع الحجاجى في الساعات الأولى. لكنى ببساطة أحذرك أن تفسرها على أنه مغفل.. أقسم لك بثقة الواثق في حنكة الأيام, أنه لم يفعل ذلك إلا من فرط حماسته!

… … … … …

أوقن انك لو رأيته لمرة واحدة, قد تظن أنك أمام مخلوق بلا أسرار, ولا يسعك إلا الانتباه

لفقرة, وأؤكد لفقرة أغنية “برهومة” تلك التي يغنيها, ولا أحد يعرف من “برهومة” هذا؟!

ماذا لو انتبهت لكلماته القليلة إذا ما باح لك بما يجول بصدره وعقله. قليلا ما يفعل, ليس كرها فينا. يظن الجميع أن “الحجاجى” مشغول بأحاديث مهمة في رأسه, أهم كثيرا من أحاديثه معنا. تراه بيننا, فلا يبغض مجلسنا أثناء لحظات احتساء شاي المغربية معا, وكثيرا ما يسعى الخبثاء فينا ممن يجد اسمه في كشف الخدمة الليلية أو الحراسة, فيطلب منه أن يقوم عنه بتنفيذ الخدمة.. وينفذها الرجل على أفضل وجه.

بمناسبة الخدمة الشاقة ليلا وخصوصا خلال فترة الشتاء, لا تحمل لها هما, فالحجاجى قادر على مواصلة الليل بالنهار في القيام بالورديات الثلاث (برنجى و كنجى و شينجى) ولا يطرف له جفن كما يقولون.

لو أنك أعطيته سيجاره, وأخبرته بمرضك كذبا وبهتانا.. فهو يصدقك ويملك من الشهامة ما يجعله يومئ صامتا وينفذ المهة. أحذرك أن تفسر قبوله السيجارة التى تقدمها تفسيرا سيئا, إياك أن تقع في هذه السقطة, لأن الحجاجى ببساطة ينفذ طلبك ويقبل سيجارتك من باب الشهامة فقط, وتعبيرا عن رضائه عنك وعن كذبتك.

دعوني أقول لكم أنني لا أدعى الذكاء الى الدرجة التى تجعلني أبرر كل آرائه, أو فطن في تفسيرات علم النفس لأفسر كل سلوكه. الحقيقة أنني متحمس له, ولأمر آخر أكثر أهمية, وهو أن الحجاجى فعلا ليس أكثر من كتاب مفتوح عند الجميع, لكن انتبه.. لا تفرط في الثقة في نفسك, فلا يمكنك أن تحدد موقعك من نفسه.. هل في هذه الفئة أم من تلك, وان حاولت؟!

لو كنت كذلك من هؤلاء أو هؤلاء ورأيته لأول مره.. فلا تتردد, لا تتخابث ولا تكذب, أعترف ثم انطق الحقيقة, سوف يقدر فيك ما تفعل, وينفذ طلبك, وأن كانت إحضار “لبن العصفور”!

… … … … …

ماذا تقول أنت إذا ما تقابلت مع جندي أمضى فترة الأساس التى لا تقل عن أربعين يوما في إحدى مراكز التدريب التى تستقبل المدنيين وتؤهلهم للجندية. إنها فترة إعادة تشكيل البشر.. من المدني “البعكوك” إلى الجندي المنضبط العتره.

أقول أنني أعلم أنه أمضى فترة الأساس بمركز تدريب المشاة والمعروف عنه أنه يقترب من مراكز تدريب القوات الخاصة في الشدة والانضباط والجدة..ومع ذلك فشلت كل كوادر المركز مع “الحجاجى”.. أن تجعله جنديا مهندم الزى, عسكري المظهر.

كنت أراه داخل الوحدة هكذا.. غير مهندم, وقد اعتلت الأتربة حذائه!نعم, نعم..انه الحذاء المترب الذي تعرفه به. ذات مرة وجدته أمامي بمظهرة غير العسكري بالمرة, وقد زاد عليه تلك البقع اللونية لأصباغ دهانات الحوائط!

فسألته كيف جاء من القاهرة ولم يسحب تصريحه العسكري من نقاط تفتيش الشرطة العسكرية؟؟. لم أكن لأسأله عن دافع حبى للميرى, فلست على هذه الدرجة من العسكرية أو الشخصية المنضبطة. كل ما في الأمر أن غلبني الفضول, ذاك الذي أوصلني الى أهم ما في شخصية الحجاجى وجعلني أتعلق به, كما أتعلق بصوت أم كلثوم أو أشعار كامل الشناوى.

تقدم نحوى في تحد, وان غلفه الهدؤ وطوته السكينة:

” هو إحنا حنحارب بالجزم”

فلم أجد ما أعقب به, ولا أردت أن أتفلسف عليه بما سمعته من معلمي مركز التدريب قبل وصولنا إلى أرض الكتيبة, وقد أقسم أحدهم أن “البيادة” والخوذة سلاحان في المعارك, وأن المظهر العسكري للجندي, هو المكمل لمهاراته وتدريباته. أكيد سمعها مثلى, لكنه أكثر قناعه برأسه..لابأس.

ما شغلني ولم أقتنع به, تلك الأصباغ التي غطت على اللون الكاكى لملابسه, سألته عنها:

“ومن أين لطخت تلك الأصباغ ملابسك, من القاهرة أم الأقصر؟”

“ومن قال أنني كنت في الأقصر أو القاهرة”

“أين كنت إذن.. أين قضيت أجازتك الميدانية”

“كنت في السويس, وبكيت ياما”

“لماذا؟”

لم يجب, فضلت أن أتركه في حينها, كيف ترى “الحجاجى يوسف” بجفون مرتعشة وغلالة لامعة تكسو كرتها, فنرى قرص الشمس, وكأنها شموس الكون كله.. ترى ما رأيت وتبقى هكذا محدق نحوه. تركته إلى لقاء قريب.

فلما التقينا وحدنا في مرة تالية, ولا أعرف كم انقضى من الوقت حتى تمكنت من ملاقاته وحده, وهو يغنى “برهومه”, سألته:

“لماذا ذهبت إلى السويس خلسة يا حجاجي؟ وما سر بقع الأصباغ تلك التي علقت في بزتك العسكرية؟”

اكتشفت أنها لم تكن المرة الأولى التي يذهب فيها إلى السويس, وهى تبعد حوالي أربعين كيلومترا.. وعرفت سر اختفائه الغامض منذ فترات طويلة. قال شاردا:

“الكابتن “غزالي” صاحب فرقة “ولاد الأرض”.. بلدياتى”

“ليس من الأقصر يا دفعه”

“لكنه صعيدي”

ابتسمت, ولم أشأ أن أضحك كي أشجعه على البوح النادر.. فتابع:

“غنيت معاهم وبكيت”

انتبهت أكثر كثيرا عما قبل.. كيف يبكى “الحجاجى”.. ولماذا؟, تابع وحده:

اسمع:

“فات الكتير يا بلدنا

م بقاش إلا القليل

… … …

إحنا ولادك يا مصر

وعنيكى السهرانين

نصرك أصبح نشيدنا

واللي يعادينا مين

فات الكتير يا بلدنا

… … …

بينا ياللا بينا

نحرر أراضينا

وعضم اخواتنا

نلموا.. نلموا

نسنوا.. نسنوا

ونعمل منه

مدافع.. وندافع

ونجيب النصر.. هدية لمصر

وتحكى الدنيا علينا

فلما صمت, تابعت مبتسما:

“الأغنية ناقصة يا دفعة….

إلا قل لي يا دفعة.. هو أنت نسيت “برهومه””

لم يعقب, وفضل أن يذهب. لن تستطيع أن تعدل من قرار يتخذه “الحجاجى”, فقط صحت عليه, لعلى أذكره بأنه لم يفسر لي سر الأصباغ, وأيضا لم يرد.

… …. …. ….

دوما نصف سترته خارج البنطال, والقايش مبروم حول بطنه, كأنه حبل من الكتان لفلاح يعزق الأرض الشراقى, كما أخبرتك. أما حذائه غير المعقود برباطه, يبدو وكأنه لقرطة عساكر تشاركه فيه, ليس له وحده.

جسد “الحجاجى” بأوصاف تخصه وحده.. فلا هو بدين ولا هو رفيع, يقال عنه “ربعه” أو”مدكوك في نفسه” كما كنا نطلق عليه. إذا ما رأيته لا تملك إلا أن تقول بما يقوله هو عن نفسه:”الحجاجى شديد”.

هكذا يتحدث عن نفسه أو عن جسده بالتحديد, يتحدث عنه وكأنه يتحدث عن شئ غير متعلق به, أو أنه لا يملكه, أو فسرها أنت بمعرفتك فيما قرأت وعرفت.. إن استطعت.

قادر هو على دفع سيارات الزل المغروزة في الرمال, حتى وان كانت مغروزة في رمال كومتها الأمطار. من منكم عاشر الصحراء أثناء فترة الشتاء وشاهد ما تفعله الأمطار إذا ما هطلت, سوف يعرف تماما ما أعنيه. وان كنت ممن لا يعرفون, فلا عليك إلا أن تعرف أن السيارة “الزل” هي سيارة نقل جنود وبضائع.. الحقيقة إنها لنقل التموين والذخيرة وغيره, وكنا نستخدمها في التحركات التبادلية بين نقاط الكتيبة أو حتى في أثناء المناورات أو غيرها من المهام العسكرية الكثيرة التى ما هدأت يوما حتى بعد وقف إطلاق النيران, وبداية فترة “لاحرب ولاسلم”.

بالمناسبة, الوحيد الذي لم يعترف انه من المحذور علينا إطلاق قذيفة واحدة في الهواء, فضلا عن إطلاقها على العدو الجاثم على الضفة الشرقية للقناة..كان الحجاجى. تعمد أن يسرق بندقية الدفعة القناص “خميس”, وهو أحد أمهر قناصي الجيش الثاني الميداني, وظل يتأمل ما بها من عدسات وأجهزة, ونحن نضحك على نظراته الدهشة الغارقة في الإعجاب وكأنه يرى عروس البحر.

فاجأ الجميع وسرقها, أسقط بها أحد الجنود الإسرائيليين من فوق برج المراقبة هناك.. وقفت الدنيا ولم تقعد, انقلب كيان الوحدة كلها.. مهما كانت الدوافع, هذا السلوك مخالف للأوامر العسكرية الصريحة الذي اعتمدها “عبد الناصر” و”روجرز” في اتفاقية “روجز” قبل وقف إطلاق النيران لمدة ثلاثة شهور.

ومع ذلك لم يفلح المحققين في اكتشاف المتسبب حتى تاريخه, لسبب بسيط, أن الحجاجى تعمد أن ينفذ فعلته من موقع آخر لوحدة أخرى تسلل إليها, ولم يكتشفوا البندقية, بينما كان عدد الطلقات سليما! وحبا في صاحبنا لم نكشف الأمر للمحققين, وان عرفها كل أفراد مجموعة الملجأ الذي يضم الحجاجى.. وأكيد كل أفراد الكتيبة كلهم, وقائدها!

قرر القائد قرارا غير عسكري, ولا تفسير له إلا أنه يحب “الحجاجى”, ومع ذلك يتوجس من تصرفاته الطائشة وغير المتوقعة, والتي قد تعرضه شخصيا للمحاكمة العسكرية. والا بماذا تفسر أوامره الصريحة له بأن يختفي تحت الرمال إن لمح ظله. صحيح..هذا ما حدث بالضبط, أمره بأن يفعل ما يفعله, ويمارس تنفيذ أوامر بعيدا عنه!.. ثم هدده مبتسما بأنه سوف يوقع علي الجندي المتمرد جزاء لن يجدونه في قانون الجزاءات العسكرية. برر القائد الأمر قائلا (والبسمة لا تفارق شفتيه):

“مظهر الجندي حجاجي” وحده كفيلا بتوقيع الجزاء, فما بالكم بنظرته غير المكترثة والتي ترسل السخرية على الجميع, وأيضا وهو الأهم أن الجندي ينفذ الأوامر بتفسيراته وأفكاره الخاصة. لكنه جندي مطيع وله قدرة احتمال تفوق البشر”

فسر الجنود سلوك القائد معه, وما قاله عنه.. بأنه مبسوط من حجاجي.

… … … …

ظللت مع القائد على حالة التحفز تجاه الجندي الأقصرى الغامض الواضح. بعد مضى أكثر من شهرين على واقعة الأصباغ, لم أعرف سرها.. كما لم يعرف القائد سر سلوكه, الذي قد يبدو غامضا وغير مبرر.

فلما نجحت في تهديده بأنني سوف أبلغ القائد بفعلته الأخيرة, وبخروجه من الوحدة وذهابه إلى السويس بدون إذن أو تصريح.. أخبرنى.

” الاستنزاف ووقف, الحرب ومفيش أمل تبدأ..

لقيت الحل أعمل زى ما أهل السويس بتعمل.. اكتب بالصبغة على البيوت..”

سألته عما يكتب؟!, رد بكثير من الاعتزاز:

“النصر لنا”..

الموت للأعداء”..

يسقط الاستعمار”..

وكانت المرة الأولى التي أعرف فيها أن الحجاجى يجيد القراءة والكتابة, بل ويحمل مؤهلا متوسطا من مدارس التعليم الزراعي..

أما القائد فقد ظل على عهده حتى ظن أنه نجح مع الجندي المتمرد, وكأنه وحدة عسكرية وحده. لولا ما حدث وكان, ضبطه فيها ينفذ خدمة النوبات الثلاث. سأله, وعرف الحقيقة, أن الجندي قام بالنوبات الثلاث الأولى عن زميليه, وسوف يتابع حالا النوبات الثلاث التالية, بعد منتصف الليل!

انفعل القائد غاضبا, وأمر بتنفيذ طابور تكدير لكل الجنود لمدة ساعة.. أما هو فلمدة ساعتين بأداء تمرين رقم 9 (القرفصاء) وحده, ثم دخل القائد الملجأ في منتصف الليل. عندما استيقظ في الصباح, لمح الحجاجى يوسف يتابع عد التمرين الشاق, وقد اكتسى بالعرق اللامع, حتى التصقت البزة بجسده.

ما لم يبح القائد ولا حتى لرئيس أركان الكتيبة وهو صديق له, أنه تألم ولا يدرى ماذا يفعل مع هذا الحجاجى.. كيف أنه عاقبه هذا العقاب القاس, حتى وﺇن كان الطقس غير حار في بدايات أكتوبر؟

كان الرجل على حال ملابسه غير المهندمة.. يقفز إلى أعلى, يهبط و مرة مرتكزا على ركبته اليمنى, ومرة أخرى على ركبته اليسرى, بينما كفاه متشابكتان فوق رأسه.. هكذا بلا ملل ولا كلل..

كل ما استطاع القائد أن يفعله, أن أمر الجميع بعدم تكليف الجندي بأية أعمال حتى اليوم التالي, وأمره بالراحة. المدهش ليس في قرار القائد المبرر للجميع, ضحكوا طويلا حين عقب الحجاجى قائلا:

” أنا شديد يافندم.. أنا شديد”

فتابع القائد إمعانا في الإحساس بالذنب, وأمر:

” للعسكري الحجاجى تعين مضاعف اليوم, وخصوصا في كمية اللحوم.. وأيضا في مدة الإجازة الميدانية فور فتح الأجازات, إن لم تبدأ المعركة”

بنفس السحنة المحايدة , علق الجندي:

” وخدمة مضاعفة يافندم”

فضحك الجميع, بما فيهم القائد, إلا “الحجاجى يوسف”!

…… ……. …….

وبعد مضى كل تلك السنوات على ملاقاة الرجل, أصبحت الآن على يقين أن دهشتي ليست بسبب ما كنت أعتقده في ملبسه أو هيئته ولا حتى شدة جسده أو سلوكه. وان كان عذري أن رأيته بلا تناسق بين حدود شفتيه الغليظتين ومنخاره المدلى, بينما عيناه الغائرتان كادتا تلتصقان بسقف جمجمته.. وقد بدت وجنتاه متورمتين بشكل لافت, وهو ما يشي في النهاية بغلظة كاذبة للوهلة الأولى.

هذا لو رأيته, أما إذا سمعت صوته “القرار” حسب ما أطلق عليه صديقنا “بكر”- الموسيقى الحائر كما أطلقنا عليه في الملجأ..بسبب حبه للموسيقى -هذا كله بجانب ما يفعله مشهد جسده العفى غير المتناسق, فهو صاحب مصطلح “الجثة” عن نفسه.. يقول:

“الجثة عايزة تأكل…

الجثة عايزة تنام…”

وما أن يعبر عن جوعه, تنطلق أفواه الخبثاء:

“خبئوا الأحذية.. الحجاجى جعان”

كله كوم وما ينطق به الآن كوم آخر, تخيل معي هذا الجندي بكل ما عرفت عنه, تسمعه يصرخ قائلا:

” الجثة مشتاقة”

ﺇنه يحب ابنة عمه “صفية”.

ياله من مخلوق وديع, كما الوليد النائم.. اسمعه ولو لمرة واحدة يقولها. أكيد سوف تقسم بكل ما تعرفه من صيغ القسم الغليظة أنك أمام ملاك طاهر, وروح صافية لم تذكرها إلا الكتب المقدسة.

ففي لحظات البوح التى تواتيه بلا مقدمات كاشفة, وبلا إنذار, وفى أي زمان أو مكان.. وكأنه الوحي!. تراه لا يستطيع تكتم الخلجات وارتعاشه أطرافه, ولا الغشاوة الكاسية عينيه.

ذاك الجندي الذي لا يشي إلا بالفوضى.. كيف يحمل كل تلك المشاعر بين ضلوعه؟..تلك هي مقولة زميلنا الرابع في الملجأ “عبد الصمد” وهو المحامى مع وقف التنفيذ كما أطلقنا عليه من فرط فلسفاته في القانون وكأنه واضعه. بينما لا يسمعه سوى جدران الملجأ الحديدي المقوس والمكسو بالخيش المقطرن وشكائر الرمل, وقد أطلقوا عليه بالإنجليزية “قفص القرد”. يقول رابعنا:

“أكيد “لامبروزو” هذا الذي وضع أول نظرية في الإجرام غبيا, آه لو كان شاهد ولو لمرة واحدة إيطاليا من مواطنيه بمثل أوصاف الحجاجى.. كان مزق أوراق نظريته الكاذبة المعتمدة على أن الإجرام في ملامح الأشخاص”

كثيرا ما كان يحلو لنا أن نعلق عيوننا بالسقف المقوس القذر, ثم نتذكر أحلامنا. نفتعل النكات كي نضحك, وقد نفتعل الشجار كي نتصايح ونفرج عن مشاعر الكبت الى حد الاختناق فنتعارك. وكأنه عقد غير معلن بيننا, من يصرخ أو يتعارك علينا أن نتحمله.. قدر الإمكان.

وكثيرا ما يعلق “عبد الصمد” على الأخبار السياسية فهو على يقين أنه يفوق “حسنين هيكل” في تحليلاته السياسية. أما “بكر” فيتعلق بالناي المدلى إلى جواره ويسمعنا أي لحن يبكينا.. كنا نشترط عليه أن ينشد لحنا يبكينا.

هاهو ذا “الحجاجى” وحده صامتا.. كأنه بلا طفولة يتذكرها, وبلا مستقبل يأمل فيه. لا شئ يستطيع التعبير عنه إلا حبه لصفية والبكاء إلى حد النهنهة. وقد علمنا مؤخرا أن أمها لا تريده زوجا لابنتها لأن الحجاجى يشبه أمه التي أحرقت نفسها من شدة دمامتها.

الكل تعرف على الجندي, أصبح بينهم مثل الشمس والقمر, حتى القائد يضعه في رأسه دوما ضمن الأسماء المكلفين بالمهام الشاقة. على الرغم من الثأثأة والتهتهة وكسر رقبة كل حروف الأبجدية يطلبونه شاهد حق على وقائعهم, وما أكثرها بين الجنود. وحتى خلال الأيام الأولى من شهر أكتوبر وقد منعت الإجازات الميدانية انتظارا للمعركة التى لا تأتى.. وان انشغل الجميع في تنفيذ مناورات الخريف السنوية.

… … … … …

أما وقد صدقت نبؤه المخبول “الحجاجى”, وهى صفة من ضمن الأوصاف الكثيرة التي أطلقناها عليه, بسبب إصراره الواثق على أن الحرب آتية لا ريب فيها بينما يتشكك الجميع, ومهما طالت فترة اللا سلم واللاحرب.

كان أكثرنا إصرارا إلى حد العناد, على غير عاداته في الحديث, ولا أقول في المناقشة, إذا ما تساءلنا عن صدق القرار السياسي وجديته في البدء بالمعركة وإعلان الحرب.

خلال تلك الأيام انفرط الحجاجى منا, وكأنه جيش لوحده. إذا ما راقت له فكرة نفذها وحده ودون أوامر.. كأن يحفر العديد من الحفر البرميلية والتي أصبحت تزيد عن حاجة الكتيبة, وعدد الجنود.

كف الرجل النطق, حتى صفية لم يعد يذكرها, يردد جملة وحيدة:

“إحنا مش حانعدى بقى”

… …. …. …

بدأت المعارك على طول الجبهة, إلا وحدتنا, لم تصدر الأوامر بتنفيذ المهمة المكلفة بها.. حتى كان مساء الخامس عشر من أكتوبر. تحركت الكتيبة إلى المنطقة المطلة على طريق “طرطور”, على مقربة من قرية “الجلاء” أو “المزرعة الصينية” كما أطلق عليها سكان المنطقة, بسبب وجود فنيين صينيين بتلك المزرعة.

من جراء القذف الجوى لطائرات العدو على أرض الكتيبة, بدت وكأنها مطحونة بتروس مجنزرات هرستها من قبل. وقف الحجاجى أمام أحدى الحفرة العميقة في تلك المساحة, وكما جنرالات الحرب العظام المحنكين نطقها بصوته الجهوري:

“الحفرة دي عملها شيطان من شياطين العدو لهرس البراغيت التى في الأرض!”

فهموا أنه يعنى بالشيطان, تلك القنبلة المسماة “القنبلة الألف رطل”, لم ندهش وان فهمنا, فقد اعتادنا أنه لا يسمى الأشياء بمسمياتها. فالوطواط هو الطائرة, والخنفسة يعنى بها الدبابة, ومع كل بداية تراشق أو غارة جوية يقول:

“بدأت اللعبة من جديد”..

وهكذا حتى أصبح لحديثه شفرة لا يفهمها إلا من خبرها, مثلما فعل معنا نحن رفقاء الملجأ.

بدأت عملية التجهيز للتحصينات الدفاعية, فلا غيره يتقدم بلا أوامر أو تكليف. وهو أمر معتاد, أما ما لم نتوقعه حقا, تلك الثقة التى وضعها قائد الكتيبة فيه, وكلفه شخصيا بالتقدم و التمركز فورا في مقدمة الموقع الدفاعي الجديد المتقدم “فوق التبة”. كل ما رجوناه من القائد أن نلحق به, بررنا ذلك بأننا اعتدنا الحياة مع زميلنا المخبول هذا ..فابتسم القائد موافقا على إلحاق كل مجموعة الملجأ بموقع “التبة” الدفاعي.

ما أن جمعنا الموقع الجديد, حتى عاد الحجاجى مكررا سؤاله:

“هو إحنا مش حانعدى”؟

ما كان من”عبدالصمد” الفظ في ردوده دوما معه, على الرغم من حبه له:

“هو أنت حاتعدى ترعة بلدكم, اتلم يا جدع أنت, يلاش خبل “

يعقب بلا تفكير:

” عايز أحارب بقى, نفسي أحارب”

ضحكنا, إلا عبدالصمد أيضا:

” أمال إحنا بنعمل إيه من عشرة أيام, وحتى من سنيين..

هي الحرب عندك, تعدى القناة وبس….؟! “

لا يعقب الحجاجى, وان بدا غير مقتنعا البتة.

صدرت الأوامر: “عندما تشاهد دبابات العدو اشتبك”, فلما حدث وشاهدنا الدبابات الجديدة, صغيرة الحجم على العكس مما نعرف عن دباباتهم الكبيرة, علق زميلنا ببساطة قائلا:

“دى عاملة زى العربيات الصغيرة…”

صرخ قائد المجموعة:

” ليس وقته الآن, ابدأ الضرب…”

مؤكد الحجاجى لايشعر بما نشعر به, وربما لا يظن أننا في معركة حقيقية, والا لماذا تركنا واختفى خلف صخرة صغيرة, بدا وكأنه يجلس لختم الصلاة, ثم ينهض بسرعة ويلحق بإحدى الدبابات ثم يقذفها, فيصيبها إصابة مباشرة.

لم يعد إلينا منذ الصباح, وحتى الثالثة بعد الظهر, وحده عند الطريق الإسفلتي, فلما قرر أن يعود سألناه عما شاهده عن قرب, وعدد الدبابات المحطمة, فقال ببساطة:

“عشرين, لأ..ألفين

.. “أنا جعان ياولاد الكلب, عايز آكل..”

يعلم أنه يحمل الوجبات الميدانية, لم يكن في حاجة لأن نذكره, يعيد سبابه قائلا:

“أنا عارف, معايا خشبسكو, وحلاوة…أنا عايز زفر.. بطة أو وزه…”

لم نعلق وان ابتسمنا.

ثم صمت فجأة, وسرعان ما أصبح صوت شخيره أعلى من كل الأصوات, لم يزد عن فتح فرجة صغيرة بين جفونه متسائلا:

“رجعهم تانى…”

نحن على يقين بأنهم سوف يعودون, خلال تلك الفترة تفرغ الجميع لاعداد الاستعواض الإستراتيجي, لتعويض ما فقد في المعركة.. مع نقل المصابين.

كما توقع الجميع, بدأت قوات المظلات الإسرائيلية في العودة ليلا, اقتربت مقدمتهم, واشتعلت المنطقة, حتى أضاءت الليل نهارا. الرشاشات “الجرينوف” المصرية فوق التبة صنعت ساترا من النيران جعل العدو في حيرة, سجلتها أجهزة التسمع وترجمها عبد الصمد.

سمع أحد قادة السرايا الإسرائيليين يقول:

“دخلنا الجحيم يا زميل”

علق زميله:

” ولا يمكننا الاستعانة بالمدفعية, سوف تهلكنا قبل المصريين”

لا حل أمامهم إلا الاختباء في الظلمة خلف الصخور حتى تأتى الإمدادات, موقع الرشاشات فوق التبة أحكم إغلاق طريق التقدم عليهم طوال الليل.

مع إشراقة شمس اليوم الجديد, كان الصمت يحف الجميع, إلا من الحجاجى الذى تعلق بكلمة واحدة “اضرب..اضرب ياجدع انت”.حاولنا إفهامه أنها المعركة, ويجب أحكام العقل وحسن استخدام الذخيرة قدر الإمكان, لانرى أحدهم. إذا به يثور ويهيج فينا:

“أنا شممهم, على الطلاق شاممهم”

مع بدء اقتراب أصوات آلياتهم نحونا, وقد بدأ ينكشف بعض المظليين منهم, بعد أن ترك مخبأه, إذا بالحجاجى يعود سيرته الأولى. عاد إلى حربه وحده. ترك موقعه بيننا, هبط بثقة وتؤدة من فوق التل الصغير, بنفس حذائه الواسع وملبسه المتهدل.. تقدم نحوهم, فتح النيران أمامه فقط.. وكلنا يقين أن معركة جديدة بدأت.

اشتعلت المنطقة بالنيران من كل جانب, وكل الأسلحة مثلما كان بالليلة السابقة. الجديد فقط أن شاهدنا وسمعنا طلقاتهم أكثر نحو “الحجاجى يوسف” الذي لم يهمد تماما, حتى انتهت كل ذخيرته.. وحتى الآن أسأل نفسي ومن عرفوه من الرفقاء: ترى, لماذا تقدم الحجاجى وحده.. هل طلبا للشهادة أم كان يرى مالم نكن نراه ويريد أن ينال منه وحده.. كما كان يفكر وحده. أحدهم لم يحسم الأمر, وان أجمع الكل أنه لم يكن مخبولا ولا درويشا ولا مهملا ولا عملاقا ولا أي شئ, غير أنه كان صادقا مع نفسه الى حد الخبل.. وأيقنت أن الأجلاف الصادقين ومنهم “الحجاجى يوسف”, يملكون القدرة على تحرير سيناء.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى