خيري شلبي - شــمندورة في بحر الحياة

المفاجأة كانت مزدوجة‏,‏ وجهها الأول أن وزارة المعارف العمومية أباحت لنا ـ نحن تلاميذ الفرقة السادسة في مدرسة بلدتنا الإلزامية ـ أن نتقدم مباشرة لامتحان الشهادة الابتدائية جنبا إلي جنب التلاميذ أبناء المياسير الذين دخلوا المدارس الابتدائية في البندر بمصروفات باهظة, حيث يدرسون فيها دراسة أرقي تتضمن دراسة اللغة الانجليزية. الوجه الثاني للمفاجأة هو أن المعلم الذي سيتولانا حتي نحصل علي الشهادة الابتدائية بالفعل هو محمد افندي حسن ريشة. .. كان عمري خمس سنوات عندما ألحقني أبي بكتاب الشيخ حسن ريشة, مقره في دار متاخمة لمبني المدرسة هي دار بقوش. فيه تعلمت الأبجدية وأجدت كتابة حروفها بالاردواز علي لوح أسود في حجم الكراسة مؤطر بإطار من الخشب. وحفظت من القرآن الكريم جزئي: عم, وقد سمع. وتدربت علي الصحو مبكرا والارتباط بواجب لابد من عمله. ومن يد الشيخ حسن ريشة, الذي كان قصير القامة نحيلا باسم الوجه حتي وهو يعاقب ويشخط ويضرب, تلقيت أول وآخر علقة في حياتي لا أنساها ما حييت, ليست لأنها بقيت في ذاكرتي مصدرا للألم يوجع نفسيتي ويلهب بدني بقشعريرة ورعدة إلي اليوم كلما تذكرتها, وإنما لأنها كانت درسا حاسما في تربيتي ظللت علي وعي به طوال عمري.. ذلك أنه كان في دارنا جرامفون, أو ما أسماه المجمع اللغوي بالحاكي. كانت ماكينته تعتمد علي ترسين في حجم كعكة كبيرة, إلا أن الترس مبطط ومثقوب من الوسط, مصنوع من معدن صلب مصقول ولامع كالذهب, وكان أبي يحتفظ بقطع غيار كثيرة وبعدة الفك والتركيب في درج ترابيزة أثرية كانت عندنا تتكوم فوقها علب الأسطوانات. وكنت كثيرا ما أعبث في هذا الدرج بدافع من الفضول. أعجبني ترسان لامعان شكلهما جميل كقرص الحلاوة السمسية. وخطر ببالي أن أجعل منهما لعبة أتيه بها علي العيال في الكتاب, أو علي الأقل يرونهما معي فلابد أنهم سينبهرون, وسأبدو لا شك ولدا مهما يقتني أشياء ثمينة! وهكذا وضعتهما في سيالتي قبل ذهابي الي الكتاب. بكرت في الذهاب فوجدت الكتاب لم يفتح بابه بعد. تجمعنا في باحة أمام دار الكتاب. كنا حوالي خمسة, أكبرنا سنا صلاح البيقي, الذي ملأ سيالته بالبلح الزغلول الأحمر من نخيل كثير في دارهم تجنبا لحقدنا عليه وزع علينا كل واحد بلحتين. تذكرت أن في سيالتي شيئا يتفوق علي بلح صلاح, فأخرجت الترسين. منظرهما بهر العيال. قال صلاح إنني أستطيع أن أصنع منهما عجلة تفر علي الأرض ذات يد كالعصا أرفعها بها وأجري وراءها. قلت: كيف؟ قال: هاتهما وأنا أضعها لك جدعنة وأمسك بهما ليشرح لي كيف ستكون. لحظتئذ فوجئنا بالشيخ حسن يخترق تجمعنا إلي الباب ومن ورائه العريف الذي تقدم مسرعا ففتح الباب ثم الشبابيك, ودخلنا, جلس الشيخ حسن فوق دكته وتربعنا نحن أمامه علي الحصير في دائرة مكونة من حوالي عشرين ولدا يري الشيخ وجوههم جميعا بكل وضوح. مرت لحظة صمت قصيرة. سلط الشيخ عينيه اللوزتين البارزتين علي وجهي, ثم فرد نظرته علي صلاح البيقي. ثم رفع الخيرزانة القصيرة وأشار بها نحو صلاح: تعال هنا ياولد! ثم أشار لي تعال أنت كمان!. صرنا واقفين أمامه نرتجف قال لصلاح وهو ينقز بالخيرزانة علي كتفي: إيه اللي انت أخذته من الولد ده؟ وريني!. فتردد صلاح قليلا ثم أخرج الترسين من سيالته وقدمهما للشيخ حسن الذي أمسك بهما في حرص خوفا من كسرهما: فلما فوجيء بصلابتهما ولمعانهما قال لي في دهشة: إيه دول يا ولد؟!. تلعثمت: دول.. حاجات أبويا راميها في الدرج وأنا خدتهم ألعب بيهم!. فزام زومة كزئير الأسد, لمع الشر الأحمر في عينيه إذ راح ينقل نظراته النارية بين وبين صلاح. أخيرا هز رأسه في توعد غامض, ودس الترسين تحت الشلتة التي يجلس عليها, شوح في وجهينا بالعصا آمرا: إرجع مكانك أنت وهو!. رجعنا نلتقط أنفاسنا وقد توهمنا أن الأمر قد انتهي عند هذا الحد ثم توزعنا في مجموعات صغيرة متجاورة: مساعد العريف انفرد بالمبتدئين وانفرد العريف بمن أجادوا القراءة والكتابة وحفظوا أجزاء من القرآن, وانفرد الشيخ بمن تقدموا في الحفظ ليراجع معهم شروح معاني المفردات ومغازي الآيات وما إلي ذلك.. وهكذا انخرطنا جميعا في تسميع وإملاء واستهجاء إلي ما قبل أذان الظهر بقليل, حيث كان يتعين علينا أن نأخذ فسحة حتي يقوم الشيخ والعريف ومساعده والعيال الكبار بإقامة صلاة الظهر يؤمهم الشيخ, خلال تلك الفسحة لم أنتبه الي ان الشيخ قد أرسل في السر ولدا الي دارنا لينادي أبي, فما أن استؤنف الدرس بعد الفسحة إلا وأفاجأ بذاك الولد يدخل لاهثا من الجري, وفي أعقابه أبي الذي دخل مندفعا يبحث بنظراته عني, فشعرت انه يريد الاطمئنان علي أن مكروها لم يصيبني, وبالفعل بدا عليه الاطمئنان حينما لمحني جالسا بين فريق المبتدئين ممسكا بلوج الاردواز, صافح أبي الشيخ بحرارة خير يا شيخ حسن: سحب الشيخ الترسين من تحت الشلتة وقدمهما لأبي, ايه دول يا احمد افندي؟ هتف ابي وهو يرميني بنظرة حائرة: الترسين بتوع الجرامفون! لسه جداد قوي ثمنهم يشتري شوار عروسة كانوا فين دول؟ صاح الشيخ بارتياح: الحمد الله ابنك العبيط ده ضحك عليه صلاح البيقي وخدهم منه! فاندفع صلاح يبكي مقدما ويصيح: لا والله ياسيدنا! ده أنا شاريهم منه بشوية بلح دارت بي الأرض من عنف الصدمة كأني تلقيت طعنة في قلبي بسكين, فاندفعت أجعر وأبكي واهرف بكلام عن لعبة الفريرة والسخي الحديد والعصا..و.. و أبي يهز رأسه شاعرا بالفجيعة غير فاهم لما يسمع ويري, فصار يتلفت حواليه لا يدري ماذا يفعل, فأشار له الشيخ نحو الباب في احترام: روح انت يا أحمد افندي وسيب لي انا الباقي! فصافحه أبي وشد علي يده قائلا: خلاص يا شيخ اتصرف انت سلام عليكم!. قام العريف وفتح دولاب الحائط وسحب الفلكة, جئ بصلاح أولا, وضعوا ساقيه بين الحبل والعصا, صار العريف يبرم العصا حتي خنق القدمين, ثم رفع العصا علي كتفه, ورفع مساعده طرفها الآخر علي كتفه, صار صلاح معلقا من قدميه, رفع الشيخ الخيرزانية وربربها في الهواء صائحا في صلاح: اللي يضحك علي ولد أصغر منه وياخد منه حاجة يبقي ايه ياولد, يبقي نصاب ومحتال ومغتصب ما لا حق له فيه! يبقي ايه انطق. فيصيح صلاح: زي ما قلت يا سيدنا!, فيقول الشيخ: ولما هو كده بتعمله ليه؟!. فيرد من خالل البكاء: ماكنتش أعرف والله ياسيدنا, بكل هدوء قال الشيخ: طب اهي دي مناسبة عشان تعرف! خد!. الخيزرانة راحت ترتفع وتهوي علي قدمي صلاح. العجيب ان صرخاتي كانت أعلي من صرخات صلاح وكأن الضرب وقع علي قدمي أنا, عشرون خيزرانة بالتمام, فلما وضع ساقاي في الفلكة كانت قدرتي علي الصراخ قد تهالكت فصرت أصدر فحيحا من صوت مبحوح, شخط الشيخ, آمرا بأن أقطع صوتي, ثم سألني: اللي ياخد حاجة ابوه من وراه ويلعب بيها ويفرط فيها بشوية بلح يبقي ايه يا ولد؟ يبقي حرامي وطفس ودنيء: يبقي ايه ياولد قلت مثلما قال صلاح: زي ما قلت ياسيدنا هتف الشيخ: آدي جزاء الحرامي! هوت الخيزرانة خمس مرات في سرعة ثم تملهت مع صوته: وأدي جزاء الطفاسة! خمس اخري الهبت قدمي, تلاها خمس جزاء الدناءة! ثم سأل العريف حفظ كام سورة لحد النهاردة؟ قال العريف: المفروض يختم جزء عم الاسبوع ده! فارتفعت الخيزرانه وهوت علي قدمي بخمس ضربات صاح الشيخ معها: عشان تعرف تختم جزء عم علي حق ربنا! صرت كالحمل الذبيح زحفت علي ركبتي حتي ابتعدت عن محيط العصا, رقدت في البيت اسبوعا لا استطيع الوقوف علي قدمي, ولئن زال الوجع وعدت الي الكتاب حافظا جزء عم كما ينبغي, فإن العلقة بقيت محفورة في نفسي علي طول الزمان, الا انها باتت مثل الشمندورة المضيئة في بحر حياتي ترشدني الي شاطئ الأمان.


خيري شلبي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى