د. مصطفى أحمد علي - سيينّا..

سافرنا أمس إلى "سيينّا " (تنطق مثل فيينّا)، مدينة صغيرة من القرون الوسطى. سافرنا بسيارة كارلو وتيتسيانا. الأودية تشق هضاب توسكانا الخضراء وتنحدر منها، ثم تلتقي في أسافلها في هيئة أخاديد عظيمة. ما أوفر الكروم والزيتون في هذه الهضاب! الخضرة هنا تعطي التاريخ والقدم معنى آخر. تلك السرمدية والأبدية و العتق ... كل تلك المعاني التي ألفناها على ضفاف النيل، لا يشعر بها المرء ههنا!
سيينا، قالوا إنها كانت من أعظم مدن الروم في القرون الوسطى من حيث المال و المصارف والعقار. زرنا فيها "الكامبو"، ميدان فسيح في هيئة ذيل طاووس، منضد بطوب أحمر رفيع مستطيل الهيئة، تحده دور مرتفعة نحيلة. تتسق نوافذها في مجموعات: مثنى و ثلاث، تؤطرها أقواس قوطية مشرئبة إلى السماء. زرنا أيضا " الدومو"، كنيسة مبنية على الطراز القوطي، واجهتها مترفة إلى حد التخمة، دواخلها رحبة فسيحة، أعمدتها أسطوانية تبرز فيها أركان حادة، أرضها منضدة باللوحات المرمرية، جدرانها مرمرية غالبا، تغطيها أحيانا رسوم متخذة على أخشاب ملونة، رسوم روعي فيها إبراز الأبعاد الأفقية المتناغمة .. سألتهم عن المرمر؟ قالوا لي جبال سواحلنا الغربية مرمر وصخور . تذكرت الصوان والجير والقرانيت على ضفاف النيل، ثم قفزت إلى ذهني مقبرة نابليون في الأنفاليد والمرمر الأحمر. شوارع المدينة دائرية ملتفة حول ذيل الطاووس تشق الدور العتيقة الشاهقة المحكمة الصنع، وعلى الجدران شواهد، من حين لحين، لحياة غابرة: مرابط جياد معدنية في هيئة جياد على الجدران، وقواعد مصابيح كانت تضاء ليلا، حسنة الصناعة، جميلة المظهر، الجدران الشاهقة تنتصب عليها في أعاليها جسور كتلك التي في فينيسيا، تحمل غرفا مستطيلة ذات نوافذ صغيرة بديعة الصنع. الجدران الشاهقة على عتقها لا تميل ولا تنحرف. عهدي بجدران باريس القديمة في جزيرة السين وسان لوي، مائلة منحرفة تكاد أعاليها أن تتعانق أو أن تتفارق قراقا لا رجعة بعده. ما رأيت مثل سيينا مدينة بهذا العتق وهذا الجمال في آن! قالت لي تيتسيانا :" هذه المظاهر يعقلها المرء ببطء ومع طول الزمان .. يلحظها المرء تتردد من حين لحين ومن موضع لموضع، ثم يبدأ يتلمس فيها وشيجة خفية تصل القرون وتنمي الزمان".

أوراق باريسية،

مونت سان سافينو، ديسمبر 1984

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى