محمد فتح الله مصباح - مفهوم السرقة الشعرية عند ابن رشيق

توطئة:

إن الحديث عن مفهوم السرقة الشعرية عند ابن رشيق ( ت 456 هـ)، يقتضي منا الانطلاق من بعض المداخل لعل أهمها : التحديد اللغوي للمفهوم مادام الناقد قد تجاوزه، ثم وضعه في إطاره النقدي العام سعيا وراء فهم الظاهرة في سياقها.

- فبخـصوص التحديد اللغوي:

جاء في لسان العرب : " سرق الشيء يسرقه سرقا وسرقا واسترقه (...) والاسم : السرق والسرقة بكسر الراء فيهما(...) والسرق مصدر فعل السارق (...) و السارق عند العرب : من جاء مستترا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له. فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس. فإن منع مما في يديه فهو غاصب".
يتبين من خلال هذا النص، أن لمفهوم السرقة، في معناه اللغوي العام ثلاث دلالات:
أولها : أن يأتي السارق إلى حرز- أي ما كان حصينا مصونا- فيأخذ منه ما ليس له في تستر فيسمى حينئذ سارقا.
ثانيها: أن يأتي السارق إلى حرز ظاهر، ثم يأخذ منه ما ليس له طبعا، فيسمى حينئذ مختلسا ومنتهبا ومحترسا .
ثالثها: أن يأخذ السارق ما في يد غيره قهرا وظلما وعدوانا، ويمنعه منه، فيسمى حينئذ غاصبا.
وبناء عليه يتضح أن مفهوم السرقة لغويا يستوعب مجموعة من المفاهيم الصغرى التي تدخل في سياقه الدلالي، وتكشف عن مختلف حالاته ما بين خفاء وتجل، وترصد وإصرار. ويبدو كذلك أن النقاد العرب القدامى قد استلهموا هذا الأصل اللغوي وادمجوه في سياق تحديد اتهم الاصطلاحية لمفهوم السرقة الشعرية كما سنلاحظ ذلك لاحقا.

- أما بخصوص الإطار النقدي العام للمفهوم:

فيتحدد هذا الإطار ضمن انشغالات النقد العربي القديم وفي سياق قضاياه وإشكالاته وأسئلة الإبداع فيه ومبادئه الكبرى، كمبدإ اللياقة الأدبية والأخلاقية، ومبدإ الجودة المثالية، ومشكلة الأصالة والانتحال، ومشكلة القدم والحداثة، وما ترتب عن ذلك من قضايا كقضية اللفظ والمعنى، والمطبوع والمصنوع، وعمود الشعر، وغيرها من القضايا التي شغلت حيزا كبيرا من اهتمامات النقد والنقاد العرب القدامى، واتخذوها أدوات إجرائية لتقويم الشعر، والموازنة والمفاضلة بين الشعراء والحكم أو التعصب لشاعر على حساب شاعر آخر أو لطريقة على حساب أخرى.
ومن خلال التأمل في كل تلك القضايا والإشكالات والمبادئ، نجد أن بعضها ارتبط بجوهر الشعر والرسالة الشعرية لفظا ومعنى، وارتبط بعضها الآخر بمتغيرات أخرى غير شعرية، لكن لها دخلا مباشرا في عملية الإبداع، كمتغير الزمن وما يرافقه من تحولات حضارية، وكمتغير المبدع والمتلقي بكل خلفياتهما النفسية والثقافية والاجتماعية والذهنية.
وبناء على هذه المعطيات، فإن بحث النقد العربي القديم في مفهوم السرقة الشعرية، كان مشحونا بكل تلك القضايا والإشكالات والمبادئ، كما أنه لم يكن مجرد بحث في تعالق النصوص فيما بينها وتفاعلها بشكل مغلق، بل كان بحثا تداوليا يناقش حوار النصوص، ويستحضر مبدعيها، كما كان يستحضر زمن الحوار والطريقة التي تم بها هذا الحوار، دون إغفال للسلطة الأدبية التي يتمتع بها الشاعر " السارق" والشاعر " المسروق منه".
ولعل من أهم الأعلام الذين ناقشوا هذه القضية وساهموا في إرساء قواعدها سواء في مراحلها الأولى أم في مراحل نضجها نذكر تمثيلا لا حصرا:
- محمد بن سلام الجمحي ( ت.232هـ) في حديثه عن قضية الانتحال.
- محمد بن أحمد ابن طباطبا (ت.322هـ) في سياق الحديث عن محنة الشاعر المحدث، ومحاولة البحث عن حل تلك المحنة.
- الحسن بن بشر الآمدي ( ت. 370هـ) في موازنته بين الطائيين قطبي القدم والحداثة في عصره.
- محمد بن الحسن الحاتمي ( ت. 388هـ) في سياق مشروعه النقدي لإرساء القواعد والمصطلحات السابقة في الشعر.
- القاضي عبد العزيز الجرجاني ( ت.392هـ) في سياق المساهمة في المعركة النقدية حول المتنبي، والتدخل فيها من منطلق الناقد الموضوعي والحكم العدل.
- الحسن بن رشيق القيرواني ( ت. 456هـ) الذي حاول أن يستفيد مما قيل في موضوع الأدب والنقد من قبل من سبقوه، فاختار من أقوالهم ما صح لديه.
- حازم القرطاجي ( ت. 684هـ) الذي تعرض هو الآخر لمفهوم السرقة في " منهاجه" ضمن المعلم الدال على طرق العلم بأنحاء النظر في المعاني من حيث تكون قديمة متداولة أو جديدة مخترعة.
ونكتفي بالإشارة إلى هؤلاء الأعلام، علما بأن غيرهم كثير، وبخاصة من تخصص في الموضوع وجعل كتابه ينصب على سرقات شاعر بعينه. إلا أن الذي يهمنا الآن من بين أولئك جميعا هو ابن رشيق. وهنا تطرح عدة أسئلة لعل أهمها: ما هو مفهوم السرقة الشعرية عنده؟ وكيف عالج هذا الموضوع؟ وما هي تصوراته النقدية حوله؟..
قبل الإجابة عن هذه الأسئلة بشكل من الأشكال، نود الإشارة إلى أن ابن رشيق عالج مفهوم السرقة الشعرية في مصدرين هما : " العمدة في محاسن الشعر وآدابه" و" قراضة الذهب في نقد أشعار العرب". ويتميز الكتاب الأول بكونه عاما في موضوع الأدب والنقد، كما هو معلوم، أما الثاني فخاص في مجال من مجالات الممارسة النقدية وهو السرقة الشعرية. ومع ذلك فإن لكل منهما ميزته بخصوص موضوعنا:
- ففي " العمدة "، كان ابن رشيق ينظر للسرقة ويعرف بها وبأنواعها وبما يجوز فيها وبما لا يجوز بشكل علمي وتعليمي، بحيث يتعرض للمصطلح ويعرفه بالحد والمثال، تقريبا للفهم والإفهام، من غير إخلال أو تكرار.
- أما في " قراضة الذهب" فقد انتقل من التنظير إلى التطبيق من غير الاهتمام بالتقصي والإحاطة مادام قد قام بذلك في الكتاب الأول. وقد أشار ابن رشيق إلى ذلك في سياق الحديث عن ضروب الأخذ والسرقة فقال : " وأنا ذاكر منها ما أمكن وتيسر، إذ ليست هذه الرسالة موضع استقصاء وقد فرغت في كتاب " العمدة " مما تراه أو أكثر" .
وتأسيسا على هذا المعطى فإننا سنركز في دراسة موضوع السرقة الشعرية عند ابن رشيق على كتاب "العمدة" ثم نجعل " القراضة" دعما للأول متى دعت الضرورة إلى ذلك. وهكذا بالرجوع إلى كتاب " العمدة"، نجد القيرواني يمهد لموضوعه، ضمن باب السرقات، بمقدمات تأسيسية نرى من الأفيد الوقوف عندها.

1- المقدمات التمهيدية لموضوع السرقة الشعرية عند ابن رشيق

وضع ابن رشيق ثلاث مقدمات تمهيدية للموضوع حدد فيها طبيعة هذه السرقات في علاقتها مع عملية الإبداع والمبدع، كما حدد أهميتها في الممارسة النقدية. وحتى يكتسي البحث في هذا الموضوع، مواصفات العلمية والأجرأة كان لابد من أن يعرج الناقد على مسألة وضع المصطلح. وهذا ما سنوضحه من خلال عرض هذه المقدمات.

1 -1 طبيعة السرقة الشعرية:

يفتتح ابن رشيق دراسته لمفهوم السرقة الشعرية بقوله:
" وهذا باب متسع جدا، لا يقدر أحد من الشعراء أن يدعي السلامة منه، وفيه أشياء غامضة إلا على البصير الحاذق بالصناعة، وأخر فاضحة لا تخفى على الجاهل المغفل"
ينبني هذا القول على مسلمتين نقديتين هما :
أولا : إن الفعل الإبداعي لا يتأسس من فراغ ولا يخلق من عدم، فهو فعل تراكمي، وحوار مستمر بين المبدعين. وعليه لا يمكن لأي شاعر أن يدعي غير ذلك. ولئن عبر ابن رشيق عن هذه المسلمة بشيء من الاقتضاب والتلميح في " العمدة"، فقد كان واضحا وصريحا في " القراضة" حين قال:
" والشاعر يورد لفظا لمعنى فيفتح به لصاحبه معنى سواه لولاه لم ينفتح"
وقال في موضع آخر:
" وقد علمنا أن الكلام من الكلام مأخوذ وبه متعلق" .
ومعنى هذا كله أن الكلام بعضه من بعض وأنه يفتح بعضه بعضا.
ثانيا: إن هذه العملية الحوارية بين النصوص ومبدعيها لا تكون على وثيرة واحدة. فقد تكون خفية غامضة بحيث لا يكتشفها إلا الناقد الحاذق في صناعته، وقد تكون واضحة للعيان حتى بالنسبة للجاهل المغفل.
وبالنظر إلى هاتين المسلمتين يتبين أن تفكير ابن رشيق ينم عن وعي نقدي كبير، وبإدراك تام لدور الحوارية في تأسيس العمل الإبداعي، وللأشكال المختلفة التي تبرز فيها هذه الحوارية. لكن بشرط أن يكون الشاعر في ذلك، وسطيا، فلا يعتمد عليها بشكل كلي، كما لا يطرحها بشكل كلي أيضا. وللتعبير عن هذا الموقف اختار ابن رشيق رأي أستاذه عبد الكريم النهشلي حين قال:" واتكال الشاعر على السرقة بلاده وعجز، وتركه كل معنى سبق إليه جهل. ولكن المختار له عندي أواسط الحالات".

1-2 في أهمية باب السرقات الشعرية ضمن الممارسة النقدية:

وتبعا للمقدمة الأولى يغدو من الواجب على ناقد الإبداع أن يكون على وعي تام بحوارية النصوص وتفاعلها أثناء ممارسته النقدية سواء أراد أن يكون متتبعا للإبداع وتطور صوره ومعالمه كما نفهم ذلك من عمل ابن رشيق في " قراضة الذهب"، أم أراد أن يقوم النصوص أو يصدر الأحكام المعيارية بخصوص الإبداع والمبدعين، ثم يضعهم ضمن سلم أو درجة من درجات الإجادة والإبداع كما في " العمدة " و" القراضة" معا.
وبالنظر إلى هذه المعطيات تتحدد أهمية هذا الباب بالنسبة للناقد، وتتحدد كفاياته وقدراته المهنية . وهنا يتبنى ابن رشيق رأي القاضي عبد العزيز الجرجاني(ت. 392هـ)، إذ يعتبره أصح مذهبا وأكثر تحقيقا في الموضوع حين قال :
" ولست تعد من جهابذة الكلام، ولا من نقاد الشعر حتى تميز بين أصنافه وأقسامه، وتحيط علما برتبه ومنازله، فتفصل بين السرق الغصب والإغارة والاختلاس. وتعرف الإلمام من الملاحظة وتفرق بين المشترك الذي لا يجوز إدعاء السرقة فيه والمبتذل الذي ليس واحد أحق به من الآخر وبين المختص الذي حازه المبتدئ فملكه واجتباه السابق فاقتطعه" .
وهكذا يتبين أن تطرق الناقد العربي القديم لباب السرقة الشعرية له ما يبرره داخل العملية الإبداعية، وأن عمله هذا ليس من فضل الكلام، ولا من باب العرف الجاري في النقد العربي القديم حتى يطرح جانبا، كما ذهب إلى ذلك إحسان عباس حين تعرض للسرقة الشعرية عند الآمدي والجرجاني فقـــال :
" وكان حقيقيا بهذين الناقدين الكبيرين أن يطرحا هذا الموضوع من أبواب النقد، ولكنهما انساقا وراء العرف الجاري" .

1-3 في بيان موقف ابن رشيق من مصطلحات الحاتمي في السرقة الشعرية:

من المعلوم أن منهج ابن رشيق في التأليف يعتمد على مبدإ الجمع والتصرف والانتقاء لأحسن ما قاله العلماء والنقاد في موضوع الأدب والنقد، مع الحرص على الضبط والتحقيق والتقويم . وعليه عندما أراد تحديد أنواع السرقات عاد إلى الحاتمي في " حلية المحاضرة" وحاول أن يستفيد من مصطلحاته في الموضوع بوعي نقدي لا يخلو من تأمل، يتجلى ذلك في قوله: " وقد أتى الحاتمي في " حلية المحاضرة" بألقاب محدثة تدبرتها ليس لها محصول إذا حققت : كالاصطراف والاجتلاب، والانتحال، والاهتدام، والإغارة، والمرافدة، والاستلحاق، وكلها قريب من قريب. وقد استعمل بعضها في مكان بعض غير أني ذاكرها على ما خيلت فيما بعد" .
وبالتأمل في هذا النص، نجد أن لابن رشيق موقفين تجاه مصطلحات / ألقاب الحاتمي:
- الموقف الأول سلبي يحكم على تلك المصطلحات بانتفاء المحصول والتقارب الدلالي واستعمال بعضها مكان بعض. ومعنى ذلك أن هذه المصطلحات غير دقيقة وغير قادرة على تحمل دلالات محددة ومميزة، وبالتالي فهي لا تتوفر على الكفاية العلمية في وصف الظاهرة التي ترتبط بها. والأصل في الاصطلاح أن يستعمل " غالبا في العلم الذي تحصل معلوماته بالنظر والاستدلال" .
- أما الموقف الثاني فإيجابي، ينسخ الموقف الأول، فيقرر ابن رشيق ذكر تلك المصطلحات على ما خيل فيما بعد. وهنا يصبح من الضروري الوقوف عند معنى ( خيل) حتى نفهم جيدا موقف ابن رشيق.
جاء في لسان العرب : " خال الشيء يخال خيلا وخيلة وخيلة وخالا وخيلا وخيلانا ومخالة ومخيلة وخيلولة : ظنه، وفي المثل من يسمع يخل أي يظن (...) وخيل فيه الخير وتخيله : ظنه وتفرسه، وخيل عليه شبه(...) وفلان يمضي على المخيل أي على ما خيلت أي ما شبهت يعني على غرر من غير يقين، وقد يأتي خلت بمعنى علمت" .
من خلال هذا النص يتبين أن فعل " خال" و" خيل" يأتي بمعنى ظن وشبه على غرر من غير يقين، وقد يأتي بمعنى علم. وبناء عليه يمكن فهم كلام ابن رشيق على مستويين:
- المستوى الأول : هو انه سيذكر مصطلحات الحاتمي على سبيل الاتباع بالظن ومن غير يقين.
- أما المستوى الثاني : فهو أنه سيذكر تلك المصطلحات بعد ما جعل بينه وبينها مسافة زمنية أعمل فيها النظر فصحت عنده علما ويقينا. ومن ثم فهو ذاكرها على سبيل اليقين والاقتناع.
ونحن نرجح المستوى الثاني مادام ابن رشيق قد أورد تلك المصطلحات، وحاول أن يتصرف فيها ويضع لها حدودا حتى يتميز بعضها عن بعض، ويصبح لكل مصطلح كفاية علمية في وصف جانب محدد أو حالة من حالات الظاهرة، مراعيا في ذلك الفروقات الدقيقة بين الأنواع المتقاربة أو المتفرع بعضها عن بعض.

2- التحديد الاصطلاحي لمفهوم السرقة الشعرية:

بعدما وضع ابن رشيق مقدماته الثلاث بين يدي قارئه، حاول أن يقدم له تعريفا اصطلاحيا لمفهوم السرقة. وبالطبع فنحن لا ننتظر منه بناء تحديد شخصي، بل إيراد تعريف جاهز لأحد شيوخه أو أساتذته، وما هذا الشيخ إلا الأستاذ عبد الكريم النهشلي ، فقال :" قال عبد الكريم: قالوا السرق في الشعر ما نقل معناه دون لفظه، وأبعد في أخذه، على أن من الناس من بعد ذهنه إلا عن مثل بيت امرئ القيس وطرفة حين لم يختلفا إلا في القافية، فقال أحدهما" وتحمل" وقال الآخر " وتجلد" ومنهم من يحتاج إلى دليل من اللفظ مع المعنى، ويكون الغامض بمنزلة الظاهر وهم قليل.
والسرق أيضا إنما هو في البديع المخترع الذي يختص به شاعر، لا في المعاني المشتركة التي هي جارية في عاداتهم ومستعملة في أمثالهم ومحاوراتهم، مما ترتفع الظنة فيه عن الذي يورده أن يقال أنه أخذه من غير" .
وبالنظر في هذا النص نلاحظ أن فعل " السرق" لم يحدد لغويا، وإنما حدد مباشرة في سياقه الاصطلاحي الشعري النقدي. وفي إطار هذا التحديد أيضا نلاحظ أن هذا الفعل انتقلت دلالته من دلالة لغوية أخلاقية إلى دلالة اصطلاحية عبر عنها النص بفعلين آخرين هما : فعلا " النقل" و " الأخذ" عند قوله : " السرق في الشعر ما نقل معناه دون لفظه وأبعد في أخذه". وهذان الفعلان يذكراننا بفعل آخر استعمله الحاتمي وهو فعل " استعار" الذي يورده في بعض السياقات بمعنى الأخذ و " الاجتذاب" دون معناه البياني .
وبناء على هذا التحليل تكون السرقة نقلا وأخذا واستعارة واجتلابا، ويبقى السؤال بعدئذ فيم يكون هذا النقل والأخذ؟
بالرجوع إلى النص، نجد أن الفقرة الأولى منه تحصر السرقة في المعاني دون الألفاظ مع اشتراط الإبعاد في الأخذ، لأن من شأن ذلك أن يخفي السرقة ويجعلها غامضة. وهذا هوا رأي الجمهور: بينما يوجد صنف آخر من الناس، وهم قلة، يضعون الغامض والظاهر على حد سواء، ويحتاجون إلى دليل من اللفظ والمعنى لرصد هذا الأخذ.
أما في الفقرة الثانية، فتنحصر السرقة في البديع المخترع الذي يختص به الشاعر، لا في المعاني المشتركة الجارية في العادات والمستعملة في الأمثال والمحاورات. إلا أن مفهوم البديع هنا يبقى مبهما إلى حد ما. لكنه إبهام سرعان ما يزول إذا عدنا إلى ( قراضة الذهب)، حيث نجد ابن رشيق، في سياق حديثه عن كثرة التأليف في السرقة، يقول : " غير أن أهل التحصيل مجمعون من ذلك على أن السرقة إنما تقع في البديع النادر والخارج عن العادة وذلك في العبارات التي هي الألفاظ"
فنتبين حينئذ من هذا النص أن المقصود بالبديع هو النادر الخارج عن العادة في العبارات/الألفاظ. وعليه فإن السرقة عند ابن رشيق تكون في المعاني كما تكون في الألفاظ. لكن ليس في كل المعاني والألفاظ، إذ هي أنواع ومراتب. ولا تكون السرقة فيما كان منها متداولا ومشاعا، وإنما في النادر منها والخاص. وهذا ما سنتبينه من خلال الحديث عن أنواع السرقات، وبعدها المعايير النقدية بخصوص جودة السرقة أو رداءتها.

3- أنواع السرقات الشعرية ومنهجية تصنيفها عند ابن رشيق:

لقد جمع ابن رشيق في " عمدته " ما يقارب عشرين مصطلحا في وصف أنواع السرقات الشعرية. فذكرها جملة في البداية، مع الحرص على وضع حدود لها وتبيان الفروق بين المتقارب منها. ثم عرج، بعد ذلك، على التفصيل والتمثيل لكل نوع منها على حدة.
وإذا حاولنا أن نتأمل طريقة بسط الناقد لهذه المصطلحات، سنلاحظ أنه كان يشتغل وفق نسق منهجي، ويعرض مصطلحاته في السرقة ضمنه. والواقع انه نسق غير مصرح به، وإنما يستنتج بالتأمل والنظر في عرض تلك المصطلحات. وهذا ما سنعمل على توضيحه من خلال العناوين الفرعية الآتية:

3-1 أنواع السرقات الشعرية الشاملة للفظ والمعنى معا:

وهذه الأنواع هي : الاصطراف، ويتفرع إلى اجتلاب أو استلحاق، وإلى انتحال، ثم الإغارة، فالغصب، فالمرافدة. وفي هذه الأنواع جميعا ، يكون النص المسروق حاضرا بعينه لفظا ومعنى في منتوج الشاعر " السارق" والشاعر " المسروق منه". وتتحدد الفروقات بين هذه الأنواع من السرقة بالرجوع إلى السياق التداولي الذي تمت فيه هذه العملية، مع التركيز على مراعاة مقصديه الشاعر " السارق" والسلطة الأدبية لكل من الشاعرين المتحاورين.
ففي إطار الاصطراف يعمد الشاعر إلى شعر غيره فيجتلبه أو يستلحقه على جهة المثل دون نية الانتحال أو الإغارة أو الغصب. ومثال ذلك قول زياد الأعجم :

أشم إذا جئت للعـرف طالبـــا
حباك بما تحوي عليه أنامله
ولو لم يكن في كفه غير نفسه
لجــاد بها فليتق الله سـائله

ويروى هذا لأخت يزيد بن الطثرية، واستلحق البيت الأخير أبو تمام فهو في شعره .
بينما في الإغارة والغصب تتدخل نية الأخذ العمد عنوة واغتصابا، والامتياز يكون في هذه الحال للشاعر السارق متى كان يفوق الشاعر المسروق منه سلطة أدبية واجتماعية كما صنع الفرزدق بجميل وبالشمردل اليربوعي ، إذ أغار على الأول في قوله :

ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا
وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا.

فقال متى كان الملك في بني عذرة؟ إنما هو في مضر وأنا شاعرها، فغلب الفرزدق على البيت، ولم يتركه جميل ولا أسقطه من شعره .
أما مع الشمردل : فقد اغتصب منه قوله:
فما بين من لم يعط سمعا وطاعة
وبين تميم غير حز الحلاقـم

فقال الفرزدق: والله لتدعنه أو لتدعن عرضك، فقال خذه لا بارك الله لك فيه .
هذه إذن مجرد نماذج توضح شكلا من أشكال السرقة الشعرية التي يجهز فيها الشاعر على شعر غيره لفظا ومعنى بقصد وإكراه، بينما هناك شكل آخر تحضر فيه القصدية لكن دون إكراه، وذلك في " المرافدة" حين يعين الشاعر صاحبه بالأبيات يهبها له، كما قال جرير لذي الرمة : أنشدني ما قلت لهشام المرئي، فانشده قصيدته:

نبت عيناك عن طلل بحزوى
محته الريح وامتنح القطـــارا

فقال ألا أعينك ؟ قال بلى بأمي وأبي، فقال له:

يعد الناسبون إلى تميـــم
بيوت المجد أربعة كبـــارا
يعدون الرباب وآل سعد و
عمرا ثم حنظلة الخيـــارا
ويهلك بينها المرئي لغوا
كما ألفيت في الدية الحوارا

فلقيه الفرزدق فاستنشده، فلما بلغ هذه قال : جيد، أعده، فأعاده، فقال : كلا والله، لقد علكهن من هو أشد لحيين منك: هذا شعر ابن المراغة
يتبين من خلال ما تقدم أن في الإغارة والغصب تكون السلطة الأدبية للشاعر السارق أكبر من سلطة الشاعر المسروق منه، بينما في المرافدة يقع العكس. وتظل تلك الأبيات المسترفدة شاهدة على قائلها الأصلي وحاملة لبصماته يعرفها أرباب الصناعة.

3-2 نوع السرقة التي تكتفي بأخذ اللفظ والمعنى من القسيم الأول والتصرف في الثاني:

ويمثل هذا النوع، عند ابن رشيق، مصطلح واحد هو " الاهتدام"، ويذكر من نماذجه قول النجاشي :

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
ورجل رمت بها يد الحدثان

فأخذ كثير القسيم الأول واهتدم باقي البيت، فجاء المعنى في غير اللفظ فقال:
*ورجل رمى فيها الزمان فشلت*

3-3 أنواع السرقة التي تكتفي بأخذ المعنى دون اللفظ:

ويمثل هذا النوع ثلاثة مصطلحات هي : النظر والملاحظة، فالإلمام، فالاختلاس.
- ففي النوع الأول يتساوى المعنيان دون اللفظ ويخفى الأخذ. ومن ذلك قول مهلهل:
أنبضوا معجس القسي وأبرقــــــــنا كما توعد الفحول الفحولا
نظر إليه زهير بقوله:
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا
ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا

- وفي نوع الإلمام نجد قول أبي الشيص :
* أجد الملامة في هواك لذيذة*
فقال فيه أبو الطيب المتنبي:
* أأحبــه وأحب فيه مـلامــــة*

- أما نوع الاختلاس، ويسمى أيضا نقل المعنى، فمثل قول أبي نواس في المدح:
ملك تصور في القلوب مثاله
فكأنه لم يخل منه مكان

اختلسه من قول كثير في الغزل حين قال:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما
تمثل لي ليلى بكل سبيل

3-4 أنواع السرقة المتعلقة ببنية الكلام:

ذكر منها ابن رشيق نوعين هما : الموازنة والعكس:
ففي الموازنة نجد مثلا قول كثير:
تقول مرضنا فما عدتنا
وكيف يعود مريض مريضا؟

فوازنه في القسم الآخر قول نابغة تغلب:
بخلنا لبخلك قد تعلمين
وكيف يعيب بخيل بخيلا؟

أما في نوع العكس فيحتفظ الشاعر الثاني بالبنية نفسها عند الشاعر الأول مع عكس كل لفظة مع أخرى. وقد مثل ابن رشيق لهذا النوع بثلاثة أبيات نسبها لأبي قيس وكذلك لأبي حفص البصري، لكنه لم يذكر الأبيات المسروقة ولا قائلها .

3-5 أنواع مختلفة ومتفرقة من السرقة الشعرية:

وهذه الأنواع هي المرافدة، والالتقاط، والتلفيق أو الاجتذاب والتركيب كما يسميه البعض، وحسن الاقتداء، وسوء الاتباع، وتقصير الآخذ عن المأخوذ، واشتراك اللفظ المتعارف، ونظم النثر، وحل الشعر.
والحقيقة أن هذه التسميات، في أغلبها، لا تقف عند حدود وصف جانب محدد من الظاهرة المدروسة، بل هي مواقف نقدية تضم مقاييس معيارية أو أحكام بخصوص جودة السرقة أو رداءتها، وما يعتبر منها فعلا سرقة وما لا يعتبر كذلك. وعليه فهي أحق بأن تعالج ضمن عنوان آخر كبير هو :

المقاييس والأحكام النقدية بخصوص السرقة الشعرية:

لقد مر بنا، ضمن المقدمات الثلاث التي وضعها ابن رشيق لدراسته في باب السرقات، أنه مؤمن بأن الإبداع تراكم مستمر، وليس كله خلقا من عدم، ورأينا كذلك في مفهومه للسرقة الشعرية أن الشاعر لا يعد سارقا إذا تصرف في المعاني الشائعة والألفاظ الجارية، وإنما يعد كذلك إذا تعرض لمعنى خاص أو للفظ بديع، ويؤكد ابن رشيق هذا المعنى صراحة بقوله:
" إن أهل التحصيل مجمعون (...) على أن السرقة إنما تقع في البديع النادر والخارج عن العادة، وذلك في العبارات التي هي الألفاظ(...) لا ما كان الناس فيه شرعا واحدا من مستعمل اللفظ الجاري على عاداتهم وعلى ألسنتهم، وكذلك من المعاني الظاهرة المعتادة فإنها معرضة للإفهام، متسلطة على فكر الأنام. ومن هنا قل اختراع المعاني، وقلت السرقات فيها، وصارت إذا وقعت أشهر" .
ومن هذا المنطلق أخرج ابن رشيق من باب السرقة، كثيرا من الصور التي يعتقد أنها سرقة، وهي في الحقيقة غير ذلك. وحقق في أخرى وأبرز مكامن السرقة، ومدى إجادة الشعراء أو تقصيرهم فيها، معتمدا في كل ذلك على مقاييس واضحة وصريحة في أغلبها، نتبين ذلك من خلال الآتي:

4-1 الصور التي تعد سرقة وهي ليست بسرقة:

4-1-1 المواردة:

والمواردة ، كما في الاصطلاح البلاغي والنقدي، هي :" أن يتوارد الشاعران على بيت، أو بعض بيت بلفظه ومعناه، فإن كان أحدهما أقدم من الآخر وأعلى رتبة في النظم حكم له بالسبق، وإلا فإن لكل منهما ما نظمه كما جرى لامرئ القيس وطرفة بن العبد في معلقتيهما، وهو قول امرئ القيس:

وقوفا بها صحبي علي مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجمل

قال طرفة : أسى وتجلد، فلما تنافسا في ذلك وأحضر طرفة بن العبد خطوط أهل بلده في أي يوم نظم هذا البيت، كان اليوم الذي نظما فيه واحدا ".
وقف ابن رشيق، في البداية، عند هذه الصورة متشككا في صحة أن يكون ما بين امرئ القيس وطرفة مواردة، " لأن طرفة في زمان عمرو بن هند شاب حول العشرين، وكان امرؤ القيس في زمان المنذر الأكبر كهلا واسمه وشعره أشهر من الشمس". لكن يبدو في الأخير أنه اعتبر الخبر محتمل الصحة بالنظر إلى قول عمرو بن العلاء حين سئل:
" أرأيت الشاعرين يتفقان في المعنى ويتواردان في اللفظ لم يلق واحد منهما صاحبه ولم يسمع شعره؟ فقال : تلك عقول الرجال توافت على ألسنتها، وسئل أبو الطيب عن مثل ذلك فقال: الشعر جادة وربما وقع الحافر موضع الحافر" .
ويبدو أن عدم اقتناع ابن رشيق بدخول المواردة ضمن مباحث السرقة الشعرية وأنواعها، جعله لم يقف عندها كثيرا في " العمدة" ولم يحشد لها أمثلة خلا النقاش الذي أجراه حول مواردة امرئ القيس وطرفة، وحتى بالعودة إلى " قراضة الذهب" فإننا سنلاحظ أنه لم يهتم بهذا المصطلح، ووجدناه يتحدث عن اتفاقات الشعراء فيما بينهم باحثا لهم عن أعذار مع إيراد بعض الشواهد والأمثلة مما كان فيها الاتفاق في بيت أو بعض بيت.
ومن الاعتذارات التي كان يجدها للشعراء قوله في بيت ابن المعتز واصفا روضة:
تبدو إذا جاد السحاب بقطره
فكأنما كانا على ميعــــاد

فقال ابن رشيق : " وهذا لا يكون سرقة لأنها تكون فاضحة ولا يكون اتفاقا من غير قصد لأن القصيدة مشهورة ولا يمكن لإبن المعتز أن يقول لم أسمعها للأسود بن يعفر" .
ومن اعتذاراته أيضا أن الإتفاق بين الشعراء قد يكون بسبب النسيان" يمر الشعر بمسمعي الشاعر لغيره فيدور في رأسه ويأتي عليه الزمان الطويل فينسى أنه سمعه قديما. فاما إذا كان للمعاصر فهو أسهل على أخذه إذا تساويا في الرقة والإجادة وربما كان ذلك اتفاق قرائح وتحكيكا من غير أن يكون أحدهما أخذ من الآخر ".
والواقع أن ابن رشيق كان يستحضر دائما قول أبي عمرو بن العلاء حين سئل عن بيتي امرئ القيس وطرفة، نجد ذلك في " العمدة" كما نجده في " القراضة".

4-1-2 الاشتراك في اللفظ المتعارف:

وهذه الصورة قريبة من المواردة، لأننا نجد اللفظ نفسه يتكرر بين الشعراء.إلا أن الفارق، على ما يبدو، هو أن في المواردة يكون القسيم من الشعر مشتركا بين شاعرين بعينهما لا غير، بينما في صورة " الاشتراك في اللفظ المتعارف" يشترك في القسيم أكثر من شاعر حتى يكتسب فعلا صفة الذيوع، ومثال ذلك
- قول عنترة :
وخيل قد دلفت لها بخيل
عليها الأسد تعتصر اهتصارا

- وقول عمرو بن معدي كرب:
وخيل قد دلفت لها بخيل
تحية بينــهم ضرب وجيع

- وقول الخنساء ترثي أخاها صخرا:د
وخيل قد دلفت لها بخيل
فدارت بين كبشيها رحـاها

- ومثله:
وخيل قد دلفت لها خيل
ترى فرسـانها مثل الأسـود

وذهب ابن رشيق إلى أن هذه الصورة مما يعد سرقة وهو ليس كذلك، وإنما هو اشتراك اللفظ المتعارف.

4-1-3 الإتفاق في قصة تقتضي صفة بعينها:

وقد اعتبر ابن رشيق هذه الصورة مما لا يعد سرقة عند قوله:
" ومما لا يعد سرقة أن تتفق قصة تقتضي صفة بعينها كالذي وقع لنا في رثاء السيدة الجليلة من ذكر حلق الشعور ولبس المسوح، وفي رثاء ابن زمام الدولة من موافقة الكسوف وقد بينت ذلك في رسالة " كشف المساوي" ومن الأمثلة التي ساقها ابن رشيق بيتان أحدهما لأبي سعيد الرستمي في دار بناها الصاحب بن عباد والآخر لأبي القاسم بن هاني في جعفر بن علي بالمغرب.
-فقال الأول:
متى ترها خلت السماء سرادقا
عليها وأعلام النجوم تماثلا

- وقال الثاني :
فكأنما ضرب السماء سرادقا
بالزاب أو رفع النجوم قبابا

فعلق ابن رشيق على البيتين بقوله : " فهذا اتفاق لا محالة لأنهما متعاصران وابن هاني أقدمهما على كل حال" .
والملاحظ أن قول ابن رشيق باتفاق الشعراء، وبخاصة إذا اتفقا في قصة تقتضي الصفة بعينها لا يقتضي أخذه على إطلاقه،لأن السرقة فيه تكون فعلا قائمة، حينئذ يعتبرها " من قبح الأخذ وفاضح السرقة". ويمثل لذلك بقول ابن الرومي في رجز يصف فوارة فقال :" بعين يقضى وبجيد ناعسه".

فقال ابن المعتز في المنسرح يصف فوارة:
بعين يقظى وجيد ناعسة
طال عليها الوقوف والسهر

وهنا قد يطرح السؤال ترى كيف يمكن لنا أن نميز بين الحالات التي يكون فيها الاتفاق سرقة والحالات التي لا يكون فيها كذلك؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد لنا من التمعن في التعليق القصير والموجز الذي ذيل به ابن رشيق بيت ابن المعتز فقال :
" وهو في زمانه وبلده واشتهاره غير خاف" . فيتضح حينئذ أن المعيار عند ابن رشيق هو حدوث المعاصرة بين الشاعرين، والإقامة في البلد الواحد، واشتهار أحدهما من الآخر. وبهذا يكون ابن رشيق قد أخذ بأحد الأحكام العامة التي كان النقاد يقضون بها وأشار إليها بقوله في مصدر آخر: " وكانوا يقضون في السرقات أن الشاعرين إذا ركبا معنى كان أولهما به أقدمهما موتا وأعلاهما سنا، فإن جمعهما عصر واحد كان ملحقا بأولهما بالإحسان، وإن كانا في مرتبة واحدة روي لهما جميعا، وإنما هذا فيما سوى المختص الذي حازه قائله واقتطعه صاحبه" .
وابن رشيق في هذا النص، لم يكن مجرد ناقل أو متبع، بل كان ناقدا متفحصا إذ لم يترك ذلك الحكم على إطلاقه بل خصه وجعل معاييره لا تصدق إلا على سوى المختص من المعاني- أي ما شاع واشتهر- أما المعاني الخاصة فهي لقائلها دون غيره. وبهذا يمكننا أن ندخل فيما يعتبره ابن رشيق، فعلا ، سرقة، ويضع لها أحكاما ومقاييس لمعرفة الجيد منها والرديء.

4-2 الصور الحقيقية للسرقة الشعرية وأحكامها:

لا شك أن الحديث عن السرقة الشعرية وتصنيفها إلى جيدة ورديئة أمر قد سبق إليه كثير من النقاد، ومن بينهم أبو محمد الحسن بن علي ين وكيع التنيسي ( 393هـ) في كتابه " المنصف" فجعل السرقات الحسنة عشرة وأخرى ضدها .أما ابن رشيق فلم يصنف السرقات بهذا الشكل. وقد سبق لنا أن حددنا منهجه في تصنيف أنواعها. فقلنا إن هذا الجانب المعياري لا نلمسه في " العمدة " إلا في آخر ما كتب عن الموضوع. إلا أن القارئ لـ " قراضة الذهب" لا محالة مشبع رغبته وواجد ضالته، ولكن من غير تبويب بارز. و سنحاول هنا تقديم بعض صور وأحكام السرقة عند ابن رشيق اعتمادا على هذين المصدرين معا.

4-2-1 نظم النثر وحل الشعر:

لقد اعتبر ابن رشيق أن نظم النثر وحل الشعر من أجل السرقات. ولم يبين في العمدة سبب ذلك، واكتفى بإعطاء بعض النماذج منه، ثم علق عليها في الأخير بقوله: " فما جرى هذا المجرى لم يكن على سارقه جناح عند الحذاق، وفي أقل ما جئت به كفاية" .
وقد حاولنا الرجوع إلى بعض المصادر النقدية العربية القديمة علنا نفهم هذا الموقف، فوجدناه عند أحد النقاد الذين أحسوا بأزمة الشاعر المحدث، وحاولوا أن يساعدوه على تجاوز أزمته بتلقينه أسرار الصناعة ومن ذلك قول ابن طباطبا العلوي :
" ويحتاج من سلك هذه السبيل إلى ألطاف الحيلة وتدقيق النظر في تناول المعاني واستعارتها وتلبيسها حتى تخفى على نقادها و البصراء بها، وينفرد بشهرتها كأنه غير مسبوق إليها، فيستعمل المعاني المأخوذة في غير الجنس الذي تناولها منه (..) وإن وجد المعنى اللطيف في المنثور من الكلام، أو في الخطب والرسائل فتناوله وجعله شعرا كان أخفى وأحسن" .
فالغاية إذن من نظم النثر وحل الشعر هو إخفاء السرقة. ومتى أجاد الشاعر في ذلك فقد أحسن وانفرد بشهرة المعاني التي أخذها، ولعل هذا هو السبب الذي جعل ابن رشيق يعد نظم المنثور من السرقة المغتفرة . وبخاصة إذا زاد فيها الشاعر فحسنه. ومن ذلك :
قالت امرأة لبشار : " أنت القائل"

تحت ثيابي جسد ناحل
لو هبت الريح بـ طارا

قال : "نعم" قالت " وأنت بهذا السمن كأنك تل" قال : " هذا ورم الحب يا بظراء"
أخذه أبو الطيب فقال في سيف الدولة:
أعيدها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

4-2-2 التلفيق أو الالتقاط:

عرفه ابن رشيق هذه الصورة بقوله :" وإن ألف البيت من أبيات قد ركب بعضها من بعض فذلك هو الالتقاط والتلفيق" .
ثم عرفه مرة أخرى في القراضة فقال : " وهو أن يميز الشاعر المعاني المتقاربة ويستخرج منها معنى مولدا يكون له كالاختراع وينظر به جميعها فيكون وحده مقام جماعة من الشعراء. وهو مما يدل على حذق الشاعر وفطنته. ولم أر ذلك أكثر منه في شعر أبى الطيب وأبي العلاء المعري فإنهما بلغا فيه كل غاية ولطفا كل لطف. وكان أبو الطيب أجمع الناس لكثير من المعاني في قليل من اللفظ وبذلك تقدم عند الفضلاء" .
ويبدو أن ابن رشيق كان معجبا بهذه الصورة من صور السرقات حتى انه اعتبرها مما يدل على حذق الشاعر وفطنته. وإذا تأملنا النص الثاني جيدا علمنا أن معيار هذا الحذق وهذه الفطنة هو القدرة على استخراج المعنى المولد الذي يكون بمثابة الاختراع وبخاصة إذا بلغ فيه الشاعر غايته وتلطف فيه وأوجز.
وإذا كان ابن رشيق قد اكتفى بمثال واحد من هذه الصورة في العمدة، فقد توسع فيها كثيرا في القراضة. وجل أمثلته من شعر أبي العلاء المعري والمتنبي. ومنها قوله : " واتى أبو العلاء على قول النابغة الذبياني في صفة الخيل وعرقها:

ينضحن نضح المزاد الوفر أتأقها
شد الرواة بماء غير مشروب

يريد ينضحن بماء غير مشروب وهو العرق نضح المزاد، وإلى قول الفرزدق يصف قوسا:
ووفراء لم تخرز بسير وكيعة
غدوت بها طيا يدي برشائها

كأنه يصف مزادة ودلوا، وإلى قول منصور النمري يصف إبلا:
ركبن الدجى حتى نزحن غماره
ذميلا ولم تنزح لهن غروب

فاستخرج من بينها قوله في صفة اقبل وقد أعيت:
كأنهن غروب ملؤها تعب
فهن يمتحن بالأرسان تقويدا

وهذا من سحر بلاغته ولطيف صنعته ولا سيما قوله: ملؤها تعب، وقوله يمتحن بالأرسان" .

4-2-3 كشف المعنى وإبرازه والزيادة فيه:

لم يعرف ابن رشيق هذه الصورة وإنما اكتفى بإيراد أمثلة منها، وجعلها من محاسن باب السرقة، أورد مثالا واحدا في العمدة من شعر امرئ القيس وعبدة بن الطيب ، وعدة أمثلة في القراضة من بينها قوله:
" ومن محاسن هذا الباب إبراز المعنى وحذف الفضول كقول الأول أنشده ابن قتيبة:
ولو تكثف الأضلاع ألفي تحتها
لسعدى بأوساط الفؤاد مطارب
لها نعم من ماثل الحب واضــع
بمجتمع الأشواق باد وقـارب

(...) وأخذ هذا المعنى ابن الرومي وأحسن ما شاء أن يحسن:
ديار التي أرعيتها بارض الهوى
وأمطرته وسمــي دمعي أولا
جعلت لها صدري مرادا تروده
وبوأتها من حبة القلب منزلا

فهذا هو الأول بعينه وزيادة وأنت ترى ما بين العبارتين من الاختلاف" . ففضل هذه الصورة إذن هو الزيادة في كشف المعنى وإبرازه حتى أصبح الشاعر الثاني أحق به. ومن الزيادات المليحة أيضا التي أوجبت لصاحبها الفضيلة قول الفرزدق:
كلتا يديه يمين غير مخلفةتزجي
المنايا وتسقي المجدب المطرا

أخذه ابن المعتز أخذ الحذاق فقال في علي والعباس رضي الله تعالى عنهما:
مثل عبـــاس عليكيد أخت يــــد
لا تقل يمنى ويسرى فهما من أحمـــد

فعلق ابن رشيق قائلا :" فزاد هذه الزيادة الصحيحة المليحة " . فعلمنا حينئذ أن الزيادة وحدها غير كافية بل لا بد لها من صفة كالصحة والملاحة وبعكس صور الزيادة نجد الاختصار كالآتي:
4-2-4 الاختصار يستوجب الأخذ:

وفي ذلك يقول ابن رشيق:
" ومما اختصر لفظه واستوجبه الآخذ قول بشار:
من راقب الناس لم يظفر بحاجة
وفاز بالطيبات الفاتك اللهج

أخذه سلم الخاسر فقال واختصره اختصارا لطيفا استوجبه به :
من راقب الناس مات غما
وفــاز باللذة الجســـور" .

4-2-5 سوء الاتباع:

وإذا كانت الصور الأربعة المتقدمة كلها في جودة الاتباع فإن هذه الصورة الخامسة تعبر عن الجانب السلبي منه. وقد عرفها ابن رشيق بقوله :
" وسوء الاتباع أن يعمل الشاعر معنى رديئا ولفظا رديئا مستهجنا ثم يأتي من بعده فيتبعه فيه على رداءته" .
وقد مثل له بقول أبي تمام:
باشرت أسباب الغنى بمدائح
ضربت بأبواب الملوك طبولا

فقال أبو الطيب :
إذا كان بعض الناس سيفا لدولة
ففي الناس بوقات لها وطبولا

خاتمة :
وعلى العموم فقد أجمل ابن رشيق صور هذا المبحث وأحكامه فقال :
" والمخترع معروف له فضله، متروك له من درجته، غير أن المتبع إذا تناول معنى فأجاد- بأن يختصره إن كان طويلا، أو يبسطه إن كان كزا، أو يبينه إن كان غامضا، أو يختار له حسن الكلام إن كان سفسفا، أو رشيق الوزن إن كان جافيا فهو أولى به من مبتدعه، وكذلك قلبه أو صرفه إلى وجه آخر، فأما إذا ساوى المبتدع فله فضيلة حسن الاقتداء لا غيرها. فإن قصر كان دليلا على سوء طبعه وسقوط همته، وضعف قدرته" .
فهذا النص يضعنا أمام صنفين من الشعراء : مخترع ومتبع، ودرجة المخترع مصونة في أعلى السلم ثم يأتي بعده المتبع في صور ثلاث فهو:
- إما متبع مجيد فيكون أولى بالمعنى من مبتدعه.
- وإما مساو للمبتدع فتكون له فضيلة حسن الاتباع والاقتداء فقط.
- وإما مقصر، فيعبر بذلك عن ضعف شاعر يته.
ونجد هذا التصور التراثي للشعراء، المحكوم بمبدأي الإبداع والاتباع، عند ناقد شاعر تونسي آخر هو حازم القرطاجني مع بعض الفرو قات المميزة جاء فيه: « فمراتب الشعراء فيما يلمون به من المعاني إذن أربعة: اختراع واستحقاق وشركة وسرقة. فالاختراع هو الغاية في الاستحسان، والاستحقاق تال له، والشركة منها ما يساوي الأخير فيه الأول فهذا لا عيب فيه، ومنها ما ينحط فيه الآخر عن الأول فهذا معيبا والسرقة كلها معيبة وإن كان بعضها أشد قبحا من بعض" .
وبهذا المنظور يعطينا كل من ابن رشيق وحازم القرطاجني تصورات ومواقف من السرقة الشعرية في منطقة الغرب الإسلامي، وإننا لنجد في الشرق من النقاد من كان أكثر تسامحا في موضوع السرقة، ويعتذر لأهل عصره،لإحساسه بأزمة الشاعر المحدث كما أحسها ونظر لها من قبل ابن طباطبا العلوي ثم القاضي عبد العزيز الجرجاني من بعده. وكل عبر عنها بطريقته وحاول أن يجد لها حلا ضمن مشروعه النقدي .

قائمة المصادر والمراجع
المصـــــادر

1- الآمدي، الحسن بن بشر، الموازنة بين الطائيين(1-2) تحقيق السيد صقر، ط. القاهرة.
2- الحاتمي محمد بن الحسن، حلية المحاضرة، تحقيق جعفر الكتاني.
3- حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 3. 1981.
4- ابن حجة الحموي، خزانة الأدب وغاية الأرب، شرح عصام شعيتو، دار ومكتبة الهلال، بيروت، ط. 1 . 1987.
5- ابن رشيق القيرواني- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، ط.5. 1981.
6- ولابن رشيق أيضا قراضة الذهب في نقد أشعار العرب، تحقيق الشاذلي بو يحيى، الشركة التونسية للتوزيع، تونس 1972.
7- ابن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، تحقيق محمود محمد شاكر. ط.دار المعارف بمصر.
8- ابن طباطبا العلوي، عيار الشعر، تحقيق عبد الستار، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1982.
9- أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، شرحه وكتب هوامشه يوسف الطويل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط.1. 1986.
10- القاضي عبد العزيز الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق أبو الفضل إبراهيم البجاوي.
11- ابن منظور، لسان العرب، دار صادر،بيروت.
المــــراجع :
12- إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الثقافة، بيروت، ط4، 1983.
13- خير الدين الزركلي، الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، ط 11. 1995.
14- الكفوي أبو البقاء أيوب، الكليات، مؤسسة الرسالة، ط. 1. 1992.

د. محمد فتح الله مصباح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى