يوسف المساتي - النخب والتراث: فشل المشاريع ونجاح السجالات

مرة أخرى عاد إلى السطح النقاش حول جواز الترحم على غير المسلم من عدمه، وهو نقاش لا يلبث أن ينتهي حتى يعود من جديد، كما يعود نقاش جواز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، وغيرها من النقاشات التي لن تتوقف، بل ستتكرر وتجتر، وتخلق مزيدا من التقاطبات والاستقطابات والسجالات، إلى ما لا نهاية.
إن سبب بيزنطية هذه النقاشات، أنها ركزت على الأعراض وتجاهلت الداء، الذي هو هنا تراث قرون أطر وعي هذه المجتمعات الممتدة من الماء إلى الماء (على اختلاف تسمياتها تجنبا للنقاش البيزنطي إياه)، ولم يتم الاشتغال على تفكيكه بالشكل اللازم، والوقوف على أعطابه.
رغم أن منتصف القرن المنصرم، عرف الاتجاه نحو الدراسات التراثية، فظهرت مشاريع فكرية كبيرة، كمشروع الشهيد حسين مروة، ومحمد عابد الجابري، وجورج طرابيشي، ونصر حامد أبو زيد، والطيب تيزيني، وطه عبد الرحمان، ومحمد أركون، وحسن حنفي، ومجموعة تونس؛ وقد حاولت هذه المشاريع على اختلاف منهجياتها ومنطلقاتها تفكيك التراث والوقوف على الثابت والمتحول فيه.
لكن للأسف الشديد، لم تلق هذه المشاريع الصدى اللازم، ليس في أوساط الشعب أو العامة (بتعبير المصادر التاريخية) بل في أوساط النخب (مثقفة، سياسية، فنية، أدبية ...)، التي عوض تطوير هذه المشاريع انصرفت عنها، بل وتجاهلتها أحيانا، ومن يقرأ الكتابات الأخيرة لنصر حامد أبو زيد أو محمد أركون أو غيرهما، سيقف بين ثنايا السطور على نوع من المرارة وخيبة الامل، على عدم الاهتمام اللازم بمشاريعهم، وعدم تحولها إلى جزء من برامج النخب المدنية والسياسية والثقافية بشتى تجلياتها.
من المؤسف، بل والمؤلم، أن اليسار المغربي مثلا، لم يشتغل على تطوير مشروع المرحوم عابد الجابري (الاتحادي حتى النخاع)، ولم يتم الانتباه إلى نظرته الاستشرافية لواقع الإصلاح في المنطقة، وتنبيهه في كتابه "في نقد الحاجة إلى الإصلاح" للإشكالية التي ستجد القوى الساعية للتغيير نفسها فيها، بين مطرقة التطرف، وسندان الاستبداد؛ كما لم يتم الالتفات لتأسيسات الراحل محمد اركون، حول اللامفكر فيه، والعلمانية في العالم العربي، والأطر التاريخية والمعرفية في المجتمعات الإسلامية، وغيرها كثير، أو لاجتهادات أبو زيد خاصة ما تعلق بالتأويل والنص، وغيرهم كثير.
عوض هذا الاشتغال المعرفي إذا، انجرفت "النخب" على اختلاف تجلياتها، صوب النقاشات السجالية، ومناقشة الاعراض الثانوية، عوض أصل الداء والدواء أيضا (التراث)؛ فكانت النتيجة هيمنة القراءات المتطرفة للتراث، والأصوليات الدينية (التي طور كثير منها خطابه وأدواته) في مقابل تراجع النخب الحداثية وعزلتها عن طبيعة النقاشات السائدة، حتى أننا اكتشفنا خلال نقاش الشيخ والشيخة في المغرب، أن عددا من هؤلاء يجهل حد تارك الصلاة في المذهب المالكي (المذهب الرسمي للدولة المغربية)، ما يدعو للتساؤل، كيف لمن يطالب بتغيير منظومة قانونية وثقافية، أن يجهل تفاصيل هذه المنظومة؛ بينما يراهن جزء آخر من هؤلاء، على أن تقود الدولة مشعل التحديث والتغيير، ولو كلف هؤلاء أنفسهم عناء الاطلاع على إشارة الجابري في كتابه "المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية: محنة بن حنبل ونكبة ابن رشد" أو إشارة أركون في "نزعة الأنسنة في الفكر العربي: جيل مسكويه والتوحيدي" لفهموا استحالة الامر، ولما راهنوا عليه.
ان استقراء مسار هذه النخب على اختلاف تجلياتها، يجعلنا نقف على تشابهها الكبير مع مسار الفقه الإسلامي، في كثير من مراحلهما وتمفصلاتهما، (مع المراعاة اللازمة لاختلاف السياقات التاريخية، والمنطلقات ...الخ)، بدءا من الانطلاق بزمن المشاريع التأسيسية الكبرى (المذاهب الفقهية في مقابل المشاريع الفكرية)، ثم الانتقال إلى مرحلة السجالات الايديولوجية (مؤلفات الغزالي والخطيب البغدادي وغيرهما في مقابل مؤلفات سيد القمني وخليل عبد الكريم والشهيد فرج فودة)، ثم الوصول إلى زمن الاجترار (الملخصات الفقهية لما بعد القرن الثامن الهجري في مقابل مؤلفات تنويري الألفية الجديدة)، لكن إذا كان قدر الفقه التمدد والانتشار والسيطرة على وعي هذه المجتمعات، فإن قدر النخب الثقافية الحداثية الانعزال والتقوقع.
الأدهى والامر من هذا أن كثيرا من المنتمين لهذه النخب يقفون في واجهة المنتقدين للمحاولات الجادة الرامية الى تفكيك هذا التراث، وباختلاف المسميات او المبررات التي يتخذونها، (والتي لا تخلو أحيانا من انطباعات أو مغالطات) إلا أن موقفها ينم في الحقيقة عن نوع من "الكسل الفكري"، أو "الجمود المعرفي"، وعدم القدرة على الخروج من السياجات الدوغمائية، إلى حقل يقتضي الاشتغال فيه كثيرا من الصبر والاناة والبحث الرصين، والابتعاد عن المواقف الانطباعية، والمقولات الجاهزة، والأحكام القيمية.
خلاصة القول، إن أحد أسباب التردي الثقافي الذي نعيشه، وهيمنة الأصوليات الدينية، واجترار نقاشات بيزنطية تجاوزها التاريخ، تتحمل مسؤوليته هذه النخب "الكسولة فكريا"، والغارقة في الجاهز، والمسبق، والسجالي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى