د. أحمد الحطاب - البيئة بين الفكر والعمل

غالبا ما تُطلِعنا وسائل الإعلام على حملات لتنظيف الشواطئ و المساحات الخضراء و الأماكن العمومية و كذلك حملات للتَّشجير. و غالبا كذلك ما يكون مَن يقوم بهذه الحملات أطفال و شباب من فئة المتمدرسين أو المتعلمين. بكل تأكيد إنها مبادرات طيبة و محمودة و مرغوب فيها. و كثيرا كذلك ما نسمع أنها حملاتٌ يتمُّ القيام بها في نطاق حماية البيئة و المحافظة عليها. و الحقيقة كل الحقيقة أن هذه الحملات لن تنفعَ في شيء لا البيئة و لا المحافظة عليها. لماذا؟ لأنه من المؤكَّد، و بعد أيام قلائل، أن الأوساط التي تمَّ تنظيفُها ستعود إلى ما كانت علىه سابقا و الأشجار المغروسة ستموت عطشا. لماذا؟

لأن المحافظة على البيئة لا تنطلق من فراغ و ليست موضة une mode من الموضات تفرض نفسَها علينا. البيئة والمحافظة عليها فكر و أخلاق و أخلاقيات و فلسفة و منظور و حكمة… قبل أن تكون ممارسات. بل إن الممارسات يجب أن تكزنَ نابعةً من الفكر، أو بعبارة أخرى، العمل يجب أن يكونَ امتدادا للفكر. و كل عمل يهدف إلى حماية البيئة لا جدوى منه إذا مورِس خارج هذا الإطار. إن هذا النوع من العمل أو الممارسات البيئية، و إن كانت له نتائج إيجابية آنية (سرعان ما ينمحي أثرُها)، يدخل في خانة الأعمال الميكانيكية التي، عوض أن تنفعَ البيئةَ، تسيء لها و خصوصا عندما يتعلَّق الأمر بالمتعلمين. لماذا؟

لأنه، إذا لم تكن للمتعلم فكرةٌ عن البيئة على المستوى النظري، فإنه يخلط بين البيئة كفكر و الأعمال التي يقوم بها للحفاظ عليها. بل أكثر من هذا، إنه يظن أن التنظيفَ و غرسَ الأشجار،الخ. هما البيئة، بينما البيئة، بالتأكيد، شيء آخر. ولهذا، يجب المزاوجة بين الفكر و العمل، علما أن الفكر يسبق العمل. وقد لا أبالغُ إذا قلتُ إن المدرسةَ تساهم ببراعة في هذا الخلط. يكفي أن يُطرح سؤال واحد على المتعلمين : ما هي البيئة؟ بدون مفاجأة و بدون أدنى شك، ستكون الأجوبة شاملةً لكل شيء إلا لتصور نظري و لو بسيط. الفكر المستنير يحث على العمل و على العمل المنسجم مع هذا الفكر.

و كم هي عديدة حملات غرس الأشجار وكم هي قليلة تلك التي تنجح. لماذا؟ لأن تلك الحملات تظهر في الواجهة و كأنها عمل لحماية البيئة لكنها في العمق ليست إلا شعارات جوفاء من ورائها حاجة في نفس يعقوب. أما إذا كان مفهوم البيئة مترسخا فكريا في كيان الفرد، فإنه ينعكس على السلوك و العمل و هذا هو المطلوب. حملات التَّنظيف و التَّشجير عملٌ حضاري و مرغوب فيه و تستحق كل الاهتمام و التشجيع. لكني أقول ثم أقول و سأقول إن مفهوم البيئة، كفِكر، لم ينل حقَّه من الاهتمام العلمي و خصوصا في الأوساط المدرسية و الأكاديمية. و لهذا، ستبقى دائما هوة بين الأعمال البيئية الميدانية و الفكر البيئي العلمي. فما هو سببُ هذه الهوة؟

السبب الرئيسي هو : إنْ تغيَّر فكريا منظورُ الإنسان للطبيعة و البيئة، فالممارسات الميدانية الملموسة بقيت وفيةً للنظرة الفكرية التي كانت و لا تزال تعتبر البيئة و ما فيها من موارد مسخرة للإنسان وحده. بل إن هذا الإنسانَ أعطى لنفسِه مكانةً مميزةً بالنسبة لكل الكائنات الأخرى التي تتألف منها البيئةُ. و كل ما يصدر عن هذا الإنسان من أفكار سواءً على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو الصناعي أو التِّكنولوجي… يتمَّ و كأن ذاتَ الإنسان يعيش خارجَ البيئة. فلا غرابةَ إذن أن تُعاني البيئة من مشاكل عُظمى و على رأسِها تغيُّرُ المناخ. و رغم خطورة هذا التَّغيُّر على استمرار الحياة فوق الأرض، فإن العديدَ من الدول، و على رأسها الدول المتقدمة، لا تزال متشيٍّثةً بنظرتها الأنانية للبيئة عكسَ ما يصدر عنها من تصريحات و التزامات جوفاء في المنابر الدولية، و خصوصا تلك المخصَّصة لمناقشة الشؤون البيئية.

حسب رأيي الشخصي، إن أكبرَ هفوةٍ وقع فيها الإنسانُ هي تلك اللحظة التي اخترع فيها الإنسانُ مفهومَ "البيئة". هذا الأخيرُ ظهر خلال النصف الثاني من القرن الماضي و بالتَّزامن مع ظهور الحركات الإيكولوجية mouvements écologistes أو ما يُسمَّى بحركات الخُضر mouvements des verts التي هي، في نفس الوقت، تيارات سياسية و فكرية علما أنها تحمل مشروعا المراد منه هو تغييرُ نظرة الإنسان للبيئة، أي من نظرة أنانية كان فيها هذا الإنسان هو ركن الزاوية إلى نظرة استئثارية (غير أنانية) يكون فيها الإنسانُ مجرد مُكوِّنٍ من مكوِّنات البيئة. و بعبارة أخرى، حركات الخُضر جاءت لتحميَ الطبيعةَ من الاعتداءات البشرية من خلال تبنِّي نموذج جديد لعلاقات الإنسان مع البيئة و بالتالي، تبنِّي نموذج جديد للتَّنمية و النُّمو الاقتصادي. إن ظهورَ مفهوم البيئة طَمَسَ إلى حد كبير مفهومَ "الطبيعة" و لم يبق الحديثُ إلا على البيئة الطبيعية environnement naturel و البيئة المُحدثة من طرف الإنسان environnement créé par l'homme. هذا الانتقال من مفهوم "الطبيعة" إلى مفهوم "البيئة" جعل الإنسان يركِّز اهتمامَه حصريا على مفهوم "البيئة" بحيث لم يعد يفرٍّق بين البيئة الطبيعية و البيئة المُحدثة من طرفه. و عدم التَّفريق هذا جعل الإنسان ينسى أن الطبيعة هي التي تأوي و تحتضن البيئة المحدثة من طرف الإنسان. إلى أن أصبحت البيئة، في نظر الإنسان فكريا، هي مجموع المكوِّنات، الحية و غير الحية، الطبيعية و المُحدثة من طرفه، التي تُحيط به و تُستعملُ لاستمرار حياته على المستويات البيولوجية، الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، الصناعية، التِّكنولوجية، التِّجارية…

و نظرة الإنسان للبيئة من منطلقٍ أناني تفترض أن مكوِّنات البيئة، كيفما كانت، مُنعزلة عن بعضها بمعنى أنه لا يوجد لا ترابطٌ و لا توازن بينها. بينما، في الحقيقة، البيئة كل متكامل، كل مكوِّناته مرتبطة فيما بينها و يسود بينها توازنٌ معيَّنٌ. و هو الشيء الذي يفرض على الإنسان أن يتعاملَ مع البيئة بفكر شمولي pensée globale يأخذ بعين الاعتبار الترابط و التَّوازن القائمين بين مُكوِّناتها عوض الفكر الخطي pensée linéaire الذي يتعامل مع كل مكوِّن للبيئة بمعزل عن المكوِّنات الأخرى.

و في هذا الصدد، أريد أن أشيرَ أنه، مثلا، لو فكّر الناس في الماء بكيفية شمولية، لما تعرّض للضّياع و التّبذير و التّلويث. الماء كله خير لأن منافعه كثيرة على المستوى البيولوجي، الاجتماعي، الاقتصادي، الصناعي، الزراعي، الديني، التَّرفيهي... و القلة هي التي تعرف هذه المنافع. لذلك ترى الناس، عن جهل، يبذرونه و يلوثونه غير آبهين أن كميته، حول، داخلَ و فوق سطح الأرض، محدودة رغم ضخامة حجمها. و العجيب في الأمر أن تركيبته الكيميائية بسيطة جدا : ذرتان من الهيدروجين و ذرة واحدة من الأكسيجين. فكيف لمادة بسيطة جدا أن تكون لها منافع كثيرة للبشر و للنباتات و الحيوانات و لتوازن الأرض، برا و جوا. بكل بساطة، الماء مادة كونية. لولاها، لا وجودَ للحياة. و هنا تكمن عظمة الله عز و جل حين قال : "و جعلنا من الماء كل شيء حي" ( الأنبياء، 30). و قال كذلك سبحانه و تعالى : "و ما أنتم له بخازنين" (الحجر، 22) بمعنى لستم أنتم الذين تخزنون الماء الذي أنتم بحاجة إليه. الله هو الذي يخزنه في الجبال و في باطن الأرض و في الثلوج و في الجليد. قد يقول البعض إن الإنسان اخترع السدود لتخزين الماء. نعم، لكن الكمية المخزَّنة فيها لا تساوي إلا نسبة ضئيلة من الحجم المخزَّن طبيعيا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى