د. أحمد الحطاب - سؤال طويل وعريض: هل لدينا ثقافة في هذه البلاد؟

إنه، في الحقيقة، سؤال طويل و عريض يمكن تجزيئُه إلى عدة أسئلة لا تقلُّ طولا و عرضا من السؤال الرئيسي الذي هو عنوان هذه المقالة.

السؤال الأول : هل بإمكاننا الحديثُ عن الثقافة في بلادٍ مشهدُها السياسي منخورٌ بالفساد حتى النخاع؟

عمدما أتحدَّثُ عن الفساد، فالأمرُ لا يتعلَّق فقط بالفساد المتمثِّل في اختلاس المال العام و الجشع و التَّلاعب بالضفقات و التَّواطؤ…، بل، في نفس الوقت، يتعلَّق الأمرُ بالفساد الأخلاقي و الاجتماعي. و كلاهما، أي الفساد السياسي و الفساد الأخلاقي و الاجتماعي، يتنافيان مع الثقافة و الرغبة في النهوض بالثقافة. و نحن نعرف ما يشغل بالَ السياسيين الفاسدين و المفسدين. ما يشغل بالَهم هو الجشع و الاغتناء السريع و غير المشروع و الوصول إلى السلطة للاستفادة من ريعها. و حتى إن لم يكن هذا الريع موجودا، فإنهم بارعون في خلقِه. فالثقافة، بالنسبة لهم، و التراثُ و التَّاريخ و الفنون… أمورٌ لا تستحق أن يضيعَ وقتُهم في الاهتمام بها لأنها، بكل بساطة، غير مُربحة. و بعبارة أخرى ليس بإمكانها إِسالَةِ لَعاب الجشع كما تفعلُه الصفقات الكبرى و اقتسام الكعكات.

السؤال الثاني : هل بإمكاننا الحديثُ عن الثقافة في ظلِّ أحزاب سياسية لا يهمها إلا احتلالُ كراسي السلطة؟

عندما نتجدَّثُ عن الأحزاب السياسية (على الأقل تلك التي لها القدرة على الوصول إلى السلطة) في بلادنا، فكأننا نتحدَّثُ عن الحزب الواحد و الوحيد لسببٍ بسيطٍ هو أن أحزابنا السياسية لا يختلف بعضُها عن البعض الآخر إلا بالتَّسميات. تسميات أصبحت تتناقض مع ممارساتِهم الفعلية للسياسة. أحزابٌ سياسيةٌ أصبح لها هدف واحد ألا و هو الوصول إلى السلطة بكل الطرق المشروعة و غير المشروعة. فعن أية ثقافة بإمكاننا أن نتحدَّثَ و أيٌّ من الأحزاب السياسية لم يقدم، في الحملات الانتخابية، و لو برنامجا بسيطا يُدافع فيه عن الثقافة و يريد النُّهوضَ بها. و الدليل على ذلك أن الثقافةَ تكون دائما مهمَّشةً، و أحيانا غائبة، في هذه الحملات الانتخابية. و كيف لهذه الأحزاب أن تهتمَّ بالثقافة و هي في حاجة ماسة لمثقفين يُعيدون لها بريقَها الثقافي الذي كانت تتميَّز به في الخمسينيات و الستينيات و السبعينيات و الثمانينيات و التِّسعينيات بفضل مثقفين أحرار من المستوى الرفيع. غاب هؤلاء المثقفون و غاب معهم بريقُ الأحزاب الثقافي. شتان ما بين الأمس و اليوم!

السؤال الثالث : هل بإمكاننا الحديثُ عن الثقافة في ظلٍّ حكومة يكون فيها قطاعُ الثقافة مهمَّشاً؟

النُّهوضُ بالثقافة كرافعةٍ للتنمية البشرية يحتاج، أولا و قبل كل شيء، لإرادة سياسية قوية تُصاحبُها كل الإمكانيات المادية و المعنوية للقيام بمهمة النهوض على أحسن وجهٍ. و بكل أسف، هذه الإرادة السياسية لم تكن، في يومٍ من الأيام متوفرة و مترجمة على أرض الواقع بما يلزم من إمكانيات. فكل الحكومات السابقة كانت، بما فيها الحالية، تُصنِّف قطاعَ الثقافة كقطاعٍ غير مُنتِجٍ فتُخصِّضُ له ميزانيةً من أهزل الميزانيات. ميزانية لا توازنَ بينها و بين ما يلزم أن يقومَ به قطاعُ الثقافة من مهام. ميزانيةٌ تتناقض مع التَّصريحات الحكومية نفسها. تصريحاتٌ حكومية ليست إلا ذر الرماد على العيون بينما الواقع يئنُّ تحت وطأة غياب الأرادة السياسية للنُّهوض بالثقافة. فكم هي عديدةٌ المآثر و المخطوطات و المعالم التاريخية، التراثية و الإنسانية التي تُرِكَت للدمار و الخراب و النهب…

السؤال الرابع : هل بإمكاننا الحديثُ عن الثقافة في ظل منظومة تربوية فشِلت في أداء مهامها؟

إضافةً إلى مهامِّ التَّهذيب و التَّربية و بناء شخصية المتعلمين، يُعتَبَر تبليغُ المعرفة لهؤلاء المتعلمين مهمة من بين مهام المدرسة. و هذا التبليغُ في حدٍّ ذاتِه هو نوعٌ من التَّثقيف. و لهذا، فإن المدرسةَ، إذا قامت بمهامها بجودة عالية، فإنها تُعتَيَر رافعةٌ من رافعات النهوض بالثقافة. غير أن الواقعَ يُبيِّن أن عددا لا يُستهانُ به من المتعلمين، على الأقل بعد المرحلة الابتدائية، لا يتقنون الكتابة و القراءة. و ما يزيد في الطين بلة، هو أن ما يناهز 400000 متعلِّم يغادرون المدرسةَ أثناء مرحلة التَّعليم الأساسي أو بعد انتهائها. و هذا يعني أن هؤلاء المُغادرين، إن عاجلا أوآجلا، مهدَّدون بالسقوط في غياهب الأمية، على الأقل، الأمية الفكرية. و حتى تبليغُ المعرفة الذي لا يقترن بالتَّربية و التَّنشئة الاجتماعية، فإنه لا يساعد على نشر الثقافة. و المدرسة التي لا تحثُّ و تشجِّع المتعلمين على القراءة، فإنها لا تساهم في النُّهوض بالثقافة.

السؤال الخامس : هل بإمكاننا الحديثُ عن الثقافة في بلاد يُنفِقُ الفردُ فيها ما يناهز درهما واحدا في السنة لشراء الكُتُب؟

هذا هو ما بيَّنته الدراسات. القراءة في بلادنا ليست من أولويات المواطنين لأسبابٍ كثيرة منها على الخصوص تدنِّي القدرة الشرائية. لكن السببَ الأساسي هو أن القراءةَ ليست مرسَّخةً في الموروث الثقافي المغربي لا في البيوت و لا في المدرسة و لا في السياسات العمومية. في البيوت، ما يشغلُ بالَ الأباء و الأمهات، هو حِفظُ الدروس و الحصول على أعلى النُّقط في الامتحانات. و حتى قُدوة الأباء و الأمهات قد تكون منعدِمةً في البيوت. في المدرسة، تبليغُ المعرفة يطغى على كل ما من شأنه أن يساعدَ على التَّفتُّح الفكري و الاجتماعي بما في ذلك القراءة. و لهذا، فالمجتمع المغربي ليس مجتمعَ قراءةٍ، كما هو الشأنُ في بلدان أخرى، كاليابان حيث المواطن يقرأ ما معدَّلُه 80 كتابا في السنة. أو في الدول الأوروبية حيث نرى الناسَ، تفادِيا لضياعِ الوقت، يقرأون الصحفَ أو الكُتُبَ و هم في طريقهم إلى العمل في وسائل النقل العمومية.

السؤال السادس : هل بإمكاننا الحديثُ عن الثقافة في بلادٍ يُساء فيها استعمالُ شبكات التَّواصل الاجتماعي؟

في هذه الشبكات، الكثير من الناس يتحدثون عن أشياء بدون دراية و لا سابق معرفة. و الكثير من الكثير يتحدث عن أشياء انطلاقا من تقليد أعمى فقط ليُقالَ إنهم تحدثوا عنها. علما أن التواصلَ شيء و النشر من أجل النشر شيء آخر. و النشر من أجل النشر هو نوع من الاستلاب، أي الخضوع للنشر بدون تفكير و لا تبصر. و هذه هي مصيبتنا العظمى أن غالبة الناس لم يعد للتفكير مكان في حياتهم إذ ينساقون إلى كل شيء : الحداثة و هم لا يعرفون أنها فلسفة و نمط من التفكير، السياسة و هم لا يعرفون أنها علم قائم بذاته، الدين وهم سطحيون في التعامل معه، الخ. قد يصبح جزء من الناس مُخدَّرا بمسائل تافهة، عوضَ أن تساهمَ في التَّثقيف الهادف، فإنها تطمس الثقافةَ و تنشر الجهلَ، و أحيانا، كلاما خُرافيا لا يقبله العقلُ. إنه اغتيالٌ للثقافة و إضرارٌ بسمُوِّها و بُعدها الحضاري. مع العلم أن ما تحملُه هذه الشبكات من مصادر للتَّثقيف غزيرٌ و مفيدٌ إلى أقصى حد. لكن الناسَ غير متعودين على إغناء ثقافتهم و إغناء ثقافة الغير. ما يهمهم هو ما يُصطلحُ عليه باللغة الانجليزية ب buzz، أي ما يثيرُ الدهشة و الاستغرابَ دون تمعُّنٍ و تفكيرٍ. إن جلَّ الناس لا يعتبرون شبكات التَّواصل الاجتماعي أداةً لنشر الثقافة و التُّهوض بها، لكن كأداةٍ لنشر التَّفاهة و الجهل و الخرافة.

ما أودُّ أن أختمَ به هذده المقالة هو أن الاهتمام بالثقافة عمل حضاري. و الحضارة لا تلتقي أبدا مع كل ما يعاكس النهوضَ بالثقافة. و الثقافة، على ما يبدو، في طور مغادرة الأدمغة و المدرسة و المجتمع و السياسات العمومية و سياسة الأحزاب و الواقع اليومي! في هذا الواقع، توجد ثقافة أخرى من نوع لا يتقنه إلا الفاسدون المُفْسِدون. و أخطر ما في هذه الثقافة إنها معدية إلى حد كبير. فإنها تنتشر بدون أقلام، بدون ورق، بدون كُتُب، بدون تعليم، بدون أقسام، الخ. فإنها لا تعترف لا بالشواهد و لا بالكفاءات و لا بالقدرات. تعترف فقط و حصريا بمن هو بارع في ممارستها.

فكم تمنَّيتُ و أتمنى أن تكونَ الثقافة شعاراً مرفوعا بجذارة و استحقاق في بيوتنا، في مدارسنا، في تعليمنا، في برلماناتنا، في جماعاتنا… فكم ضاع منا من الوقت بدون جدوى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى