مصطفى نصر - لماذا لا تحتمل مصر المواهب الكبيرة

الليث بن سعد كان أحد أشهر الفقهاء في زمانه، وفاق في علمه وفقهه إمام المدينة المنورة - مالك بن أنس- غير أن تلاميذ الليث بن سعد في مصر لم يقوموا بتدوين علمه وفقهه ونشره في الآفاق- مثلما فعل تلاميذ الإمام مالك في المدينة
ويقول الإمام الشافعي :
- اللَّيْثُ بن سعد أَفْقَهُ مِنْ مَالِكٍ إِلاَّ أَنَّ أَصْحَابَه لَمْ يَقُوْمُوا بِهِ
حظ الليث بن سعد التعس أنه نشأ في مصر، فالإمام مالك، الذي ظهر في المدينة – وجد من تلاميذه وأصحابه الاهتمام – لكن تلاميذ الليث بن سعد وزملاءه، غاروا منه، وأنكروا فضله، وأضاعوا علمه وجهده على مر السنين.
ويقول العالم المصري أحمد زويل:
- في الغرب ليسوا عباقرة ونحن أغبياء، هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح، ونحن نحارب الناجح حتى يفشل.
فصعب في بلادنا أن تحدد الجيد من الرديء، فقد ينتشر كاتب ويحصل على جوائز كبيرة قيمة لا يستحقها، بل يمكن أن يحصل على الثناء في الجلسات من قوم لم يقرءوا له حرفا واحدا، ويتحدثون عنه في حماس شديد.
* * *
ويقول الكاتب المسرحي والروائي الكبير السيد حافظ في مقالة له عن أخيه الرائد محمد حافظ رجب نشرت بمجلة الثقافة الجديدة – عدد مايو 2021:
... لذلك فمصر معتادة – منذ فجر التاريخ على أن يصارع المثقفون بعضهم بعضا. فقد زار رجل مصر في عهد عمر بن الخطاب الذي طلب منه أن يصفها. فقال الرجل عن المصريين:
- إنهم يخيبون الفطن منهم.
وحدث في عهد الحاكم بأمر الله، أن قال أحد الشعراء شعرا في الحاكم. وذكر جملة " يظن نفسه " فلم يعجبه هذا الكلام. فأمر بجمع الحطب وحفر مقبرة كبيرة لحرق كل الأدباء والشعراء، فتوسلوا إليه بكبار الصوفيين ليعفو عنهم. فاستجاب، مقابل أن يقبلوا برءوسهم الأرض، بدءً من القصر وحتى مكان المقبرة الكبيرة المحفورة لهم، ففعلوا، وبعد أن فعلوا ذلك، لم يقبل توبتهم أيضا.
ويقول السيد حافظ أيضا في هذه المقالة:
... وأنا لدي مقولة أقولها دائما: إن مصر لا تتحمل المواهب الكبيرة، فمصر تتقبلك نص النص. فإن كنت نصف موهوب تتقبلك وترحب بك. فعندما وجدوا صلاح جاهين شاعر ممتاز ورسام كاريكاتير رائع، وصحفي جيد وسيناريست وممثل، بدءوا يحاربونه.
* * *
ما قاله السيد حافظ أعاد لي أحزاني. فهذه هي مصر، لا تتحمل الموهوبين، وترحب بأنصاف الموهوبين. والكارثة الأشد – لو كنت تعيش في الإسكندرية، فمازلت أتذكر لقاءً في نادي سموحة، والشاعر والإعلامي الكبير فاروق شوشة يقول ما معناه:
- الإسكندرية تختص بعادة غريبة، فلو نشرت مجلة قاهرية قصيدة لشاعر سكندري، يسرع باقي الشعراء للقاهرة، ويقابلون المسئولين في هذه المجلة، يسألونهم في أسى وحسرة:
- أنتم زعلانين مننا ليه؟!
فتشر قصيدة لشاعر – زميل لهم - معناه إن المجلة واخدة منهم موقف عدائي.
هذا الكلام – للأسف – لا يختص بالشعر والشعراء فقط، وإنما يشمل كل أنواع الأدب في الإسكندرية. ويا ويلك لو كنت متميزا، ستجد حربا مستمرة تقلل من شأنك، فيختارون أقوى ما فيك، ويهاجموك منه.
وهناك مقولة لمحمود السعدني، كتبها في مجلة الدوحة عدد أكتوبر 1982 تقول: .....لكن بعض الظروف التي مرت على مصر، كانت تجعل الحياة الأدبية تأكل بنيها، وخيرهم على الأخص.
للأسف الشديد هذه الظروف – التي يتحدث عنها محمود السعدني، مازالت موجودة، وواضحة في كل المجالات الثقافية: جوائز الدولة ومنح التفرغ، والنشر أيضا.
تخيلوا معي الموقف الثقافي والأدبي في مصر، لقد ذكرنا ما حدث لصلاح جاهين، لم نستطع احتمال موهبته العجيبة والنادرة، جعلناه يبتعد عن الجدية ويدافع عن الراقصات في خللي بالك من زوزو، وتخلى عن جديته وغني بمبي، بمبي، ثم قتلناه لأننا لا نستطيع احتمال موهبة بقدر موهبته، وهذا ما حدث لنجيب سرور، شاعر غير عادي، وكاتب مسرحي بارع، ومخرج وممثل مسرحي، لم يستطع احتمال ما حدث له، فمات في مصحة نفسية بالإسكندرية، ومحمود دياب – أهم كاتب مسرحي مصري، مسرحياته عالمية، انتهى به الحال لأن يسير في شوارع القاهرة حاملا حذاءه تحت ابطيه. ثم مات مقهورا.
واتذكر دائما مقولة عبد الرحمن الأبنودي:
أحيانا أشك بمعرفتي بالشعر حين أرى شاعرا شديد الجودة يحاصر بهذه الكثافة من التجاهل، إن التجاهل مدرسة نقدية كاملة، مخفي خلفها سوء نية وتآمر لا حدود لها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى