أ. د. لطفي مَنْصور - وَلا خَيْرَ في حُسْنِ الْجُسُومِ وَطُولِها

- وَلا خَيْرَ في حُسْنِ الْجُسُومِ وَطُولِها
إذا لَمْ يَزِنْ حُسْنَ الْجُسُومِ عُقُولُ
هَذا الْبَيْتُ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ تَعَلَّمْناها في صِغَرِنا، وَعَلَّمْناها لِطُلّابِنا مُنْذُ أَنْ عَمِلْنا في التَّدْرِيسِ .
حِكْمَةْ تَدْعُو إلى تَمْجِيدِ الْعَقْلِ ، وَتَقْبِيحِ الجِسْمِ فَقيرِ الْعَقْلِ . وَهُوَ أَقْوَى سِلاحٍ مَنَحَهُ اللَّهُ لِلْإنسانِ عَلَى هذا الْكَوْكَبِ. فَالْعَقْلُ هُوَ الْمُدَبِّرُ لِأُمُورِ الْإنْسانِ وَحاجاتِهِ، وَتَنْمِيَتُهُ الْهَدَفُ الْأَساسِيُّ لِلتَّرْبِيَةِ الٍحَدِيثَةِ، وَهُوَ الْعامِلُ الْأَوَّلُ في تَقَدُّمِ الْبَشَرِيَّةِ، وَتَطَوُّرِ الْحَياةِ وَتَحْسِينِها. قالَ أبو الطَّيِّبِ:
-لَوْلا الْعُقولُ لَكانَ أَدْنَى ضَيْغَمٍ
أَدْنَى إلى شَرَفٍ مِنَ الْإنْسانِ
ما فائِدَةُ الْجِسْمِ الْكَبيرِ مَعَ الْعَقْلِ الصَّغيرِ، سِوَى أَنَّهُ يَأْكُلُ كَثيرًا، وَيَشْرَبُ طَوِيلًا، وَلَيْسَ وّراءَهُ طائِلٌ مَهْما عَظُمَ جِسْمُهُ. قالَ حَسّانُ:
- لا بَأْسَ بِالْقَوْمِ مِنْ طُولٍ وَمِنْ عِظَمٍ
جِسْمُ الْبِغالِ وَأَحْلامُ الْعَصافيرِ
نَرْجِعُ إلى الْبَيْتِ الْأَوَّلِ وَالْحِكْمَةِ الْكَبيرَةِ الَّتِي يَحْمِلُها لِنَعْرِفَ مَنْ هُوَ صاحِبُهُ، وَهَلْ صَدَرَ عَنْ تَجْرِبَةٍ عاشَها الشّاعِرُ ؟
لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِمَّنْ عَلَّمَنا شَيْئًا عَنْ هَذا الْبَيْتِ، وَاكْتَفَوْا بِشَرْحِ ما فِيهِ مِنُ حِكْمَةٍ مَا أَخْلَقَنا بِها.
الْحَقِيقَةُ أنَّ هذا الْبَيْتَ لَهُ أُصُولٌ، فَهُوَ مِنْ قَصيدَةٍ في ذَمِّ الْبُخْلِ ، تُعْتَبَرُ مِنْ عُيُونِ الشِّعْرِ الْعَرَبِيِّ الْقَدِيمِ، مِنَ الْجاهِلِيَّةِ الْأولَى، وَالْأَوْلَى أَنْ نُسَمِّيَها "الْعَقْلانِيَّةَ" لِأَنَّ وَضْعَ العَرَبِ فيها كانَ خَيْرًا مِنْهُ الْيَوْمَ، لِأَنَّ الْمُروءَةَ حَكَمَتْهُمْ في ذَلِكُمُ الزَّمانِ ، وَالْيَوْمَ فُقِدَتِ الْمُروءَةُ.
لِهَذا الْبَيْتِ قِصَّةٌ طَريفَةٌ تَنِمُّ عَنْها الْقَصيدَةُ أُمُّهُ. نَظَمَها شاعِرٌ مُعْرِقٌ في الْقِدَمِ، لا نَعْرِفُ لَهُ شِعْرًا غَيْرَها هُوَ هُذَيْلُ بْنُ مَيْسَرٍ الْفَزاريُّ. وَقَبيلَةُ فَزارَةَ مَشْهُورَةٌ بِالشِّعْرِ والشُّعَراءِ، مِنُهُم أَسْماءُ الْفَزاريُّ الَّذِي كانَ مُقَرَّبًا لِخُلَفاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، وهوَ صِهْرُ الْحَجّاجِ الَّذِي تَزَوَّجَ مِنِ ابْنَتِهِ هِنْدٍ الْفَزارِيَّةِ الشَّاعِرَةِ، وَلَهُ وَلَدٌ شاعِرٌ غَزِلٌ آخَرُ اسْمُهُ مالِكٌ الفَزاريُّ أمِيرُ الْبَصْرَةِ لِلْحَجّاجِ.
كانَ هُذَيْلٌ في الْجاهِلِيَّةِ زَعِيمَ قَوْمِهِ وَفارِسَها كَريمًا شُجاعًا، وكانَتْ زَوْجُهُ تَلُومُهُ عَلَى بَسْطِ يَدِهِ خَوْفَ الْإمْلاقِ فَيُسَرُّ أَعْداؤُهُ وَحُسّادُهُ فَقالَ قَصِيدَتَهُ هَذِهِ يَرُدُّ عَلَيْها: مِنْ بَحْرِ الطَّويل
- وَعاذِلَةٍ هَبَّتْ بِلَيْلٍ تَلُومُنِي
وَلَمْ يَغْتَمِرْنِي قَبْلَ ذاكَ عَذولُ
(يَغْتَمِرْني: مِنَ الْغَمْرِ وهوَ مَنْ لا تَجْرِبَةَ لَهُ)
- تَقُولُ اِتَّئِدْ لا يَدْعُكَ النَّاسُ مُمْلِقًا
وَتُزْرِي يابْنَ الْكِرامِ بِمَنْ تَعُولُ
(اِتَّئِدْ: فِعْلُ أَمْرٍ أَصْلُهُ اِوْتَئِدْ، مِنُ وَأَدَ، أُبْدِلَتْ الْواوُ تاءً وَأُدْغِمَتْ بِتاءِ الِافْتِعالِ ، أَيْ تَرَّوَّ. وَمِنْهُ التُّؤَدَةُ بِمَعْنَى التَّرَيُّثِ. الْإمْلاقُ: الْفَقْرُ)
- فَقُلْتُ أَبَتْ نَفْسٌ عَلَيَّ كَريمَةٌ
وَطارِقُ لَيْلٍ غَيْرَ ذاكِ يَقُولُ
(طارِقُ لَيْلٍ : ضَيْفُ اللَّيْلِ يقُولُ غَيْرَ ما تَقُولينَ فَنَفْسي الْكَريمَةُ تَأْبَى ما تُشيرِينَ)
- أَلَمْ تَعْلَمِي يا عَمْرَكِ اللَّهَ أَنَّنِي
كَرِيمٌ عَلَى حِينْ الْكِرامُ قَليلُ
(إسْتِفْهامٌ مُصَدَّرٌ بِالنَّفْيِ جَوابُهُ في الْإيجابِ بَلَى. وَفي النَّفْيِ نَعَمْ. الحِينُ: الزَّمَنُ وَهو مُضافٌ إلَى الْجُمْلَةِ الْإسْمِيَّةِ: في زَمَنٍ قَلَّ فِيهِ الْكِرام. ما أَجْمَلَ هذا التَّعْبيرَ، عَمْرَكِ اللَّهَ: دُعاءٌ لها بِالْعُمْرِ الطَّويل، وَنُصِبَ لَفْظُ الْجَلالَةِ بالمَصْدرِ)
- وَإنِّي لا أَخْزَى إذا قِيلَ مُمْلِقٌ
سَخِيٌّ وَأَخْزَى أَنْ يُقالَ بَخِيلُ
(أَخْزَى: أَسْتَحِي وَأَخْجَلُ. سَأَلَ الْأَصْمَعِيُّ أَعْرابِيَّةً كَبيرَةً: لِمَ لا تَذْهَبِينَ إلَى السُّوقِ ؟ قالَتْ: إنِّي أَخْزَى أيْ أَسْتَحِي)
- فَلا تَتْبَعِي الْعَيْنَ الْغَوِيَّةَ وَانْظُرِي
إلَى عُنْصُرِ الْأ َنْسابِ أَيْنَ يَؤُولُ
(الْعَيْنُ الْغَوِيَّةُ. يَقْصِدُ عّيْنَ زَوَْجَتِهِ ألّا تَنْظُرْ إلَى الْغَيِّ وَهُوَ الْباطِلُ، الْحَسَبُ: الشَّرّفُ)
- وَلا تَذْهَبَنْ عَيْناكِ في كُلُّ شَرْمَخٍ
لَهُ قَصَبٌ جُوفُ الْعِظامِ أَسِيلْ
(لا يَغُرَّنَّكِ الشَّخْصُ الطَّويل، فَسيقانُهُ كالْقَصَبِ الْأَجْوَفِ الْأَمْلَسُ. الشَّرْمَخُ: الطَّويلُ)
- عَسَى أنْ تَمَنَّى عِرْسُهُ أَنَّنِي لَها
بِهِ، حِينَ يَشْتَدُّ الزَّمانُ،  بَدِيلُ
(عِرْسُهُ: زَوْجُهُ. تَمَنَّى: أَصْلُهُ تَتَمَنَّى، حَذَفَ إحْدَى التّاءَيْنِ ضّرورَةً. عِرْسُهُ اسْمُ عَسَى مُؤَخَّرٌ، والْمَصْدَرُ الْمُؤَوَّلُ مِنْ أنْ والفِعْلِ وَتَقْديرهُ مُتمَنِّيَةً خَبَرُ عَسَى مُقَدَّمٌ)
- إذا كُنْتُ في الْقَوْمِ الطِّوالِ فَضَلْتُهُمْ
بِعارِفَةٍ حَتَّى يُقالَ طَوِيلُ
(فَضَلْتُهُمْ: زِدْتُ عَلَيْهِم، الْعارِفَةُ: الْمَعْرُوفُ وَالْجُودُ)
وَهُنا يَأْتي بَيْتُ الْقَصيدِ الرّائِعِ :
- وَلا خَيْرَ في حُسِْنِ الْجُسُومِ وَطُولِها
إذا لَمْ يَزِنْ حُسْنَ الْجُسُومِ عُقُولُ
- وَكائِنْ رَأَيْنا مِنْ فُرُوعٍ طَوِيلَةٍ
تَمُوتُ إذا لَمْ يُحْيِهِنَّ أُصولُ
(تَشْبيهٌ تَمْثِيلِيٌّ رائِعٌ. النَّسَبُ فاقِدُ الْأُصولِ كَالْغَرْسِ فاقِدِ الْجُذُورِ)
-فَإنْ لا يَكُنْ جِسْمِي طَوِيلًا فَإنَّنِي
لَهُ بِالْفِعالِ الصّالِحاتِ وَصُولُ
( لَهُ: لِلْجِسْمِ الطَّويلِ ، وَصُولٌ لِهذا الطُّولِ بِأَفْعالي الصّالِحَةِ)
- وَلَمْ أرَ كَالْمْعْروفِ أَمّا مّذاقُهُ
فَحُلْوٌ وَأَمّا وَجْهُهُ فَجَميلُ
(أَمّا في الْمَحَلَّيْنِ مَعناها مَهْما يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ، وَهِيَ حَرْفُ شَرْطٍ وَتَفْصِيلٍ)
تَمَّتْ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى