سعد عبدالرحمن - مقاومة الطاعون بالصيام والدعاء والقرابين

في أوائل شهر ربيع الأول من سنة 822 هـ بدأ الطاعون يتفشى في البلاد المصرية، ثم في يوم الخميس سابع عشر من الشهر نزل السلطان المؤيد شيخ المحمودي (ت 824 ه‍) من القلعة إلى جامعه بالقرب من باب زويلة واستدعى قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني الشافعي فخلع عليه، ونزل الشيخ البلقيني بالخلعة من باب الجامع من تحت الربع (أنشأ الربع الظاهر بيبرس وجعله وقفا على مدرسته في بين القصرين) وشق القاهرة وكان له مشهد عظيم، هذا والطاعون يزداد تفشيه بين الناس.
فلما كان يوم الخميس ثامن عشر من ربيع الآخر نودي من قبل المحتسب الشيخ صدر الدين بن العجمي أن يصوم الناس لرفع الطاعون ثلاثة أيام آخرها يوم الخميس خامس عشره ليخرجوا في ذلك اليوم مع السلطان الملك المؤيد إلى الصحراء فيدعوا الله أن يرفع عنهم الطاعون، ثم أعيد النداء في ثاني عشره أن يصوموا من الغد، فتناقص عدد الأموات فيه، وأصبح كثير من الناس صائمين، وصاموا الثلاثاء والأربعاء والخميس، فلما كان يوم الخميس نودي في الناس بالخروج إلى الصحراء من الغد، وأن يخرج العلماء والفقهاء ومشايخ الخوانق (جمع خانقاه وهي كلمة فارسية تعني دار العبادة) وصوفييها وعامة الناس، ونزل الوزير بدر الدين حسن بن نصر الله والتاج الشوبكي أستادار الصحبة (الأستادار هو المشرف على المطبخ السلطاني) إلى تربة الملك الظاهر برقوق فنصبوا المطابخ بالحوش القبلي منها، وأحضروا الأغنام والأبقار وباتوا هناك في تهيئة الأطعمة والأخباز ثم ركب السلطان بعد صلاة الصبح ونزل من قلعة الجبل بغير أبهة الملك، بل عليه ملُّوطة (جبة) صوف أبيض بغير مشد في وسطه، وعلى كتفيه مئزر صوف مستدل (مسترخ) كهيئة الصوفية، وعلى رأسه عمامة صغيرة ولها عذبة مرخاة ما بين لحيته وكتفه الأيسر، وهو يكثر من التسبيح وتلاوة القرآن في تخشع وانكسار، وكان راكبًا فرسًا بقماش ساذج (بسيط) ليس فيه ذهب ولا فضة ولا حرير.
هذا وقد أقبل الناس إلى الصحراء أفواجًا، وسار شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني من منزله بحارة بهاء الدين (حارة بالمنطقة التي تعرف حاليا بحي باب الشعرية، كان يسكن فيها الأمير بهاء الدين قراقوش وزير الناصر صلاح الدين فسميت باسمه) ماشيًا إلى الصحراء في عالم كثير.
فلما وصل السلطان إلى مكان الجامع ونزل عن فرسه وقف على قدميه وعن يمينه وشماله الخليفة والقضاة وأهل العلم، ومن بين يديه طوائف من الصوفية ومشايخ الزوايا وغيرهم لا يحصيهم إلا الله تعالى، فبسط السلطان يديه ودعا الله سبحانه وتعالى وهو يبكي وينتحب والجم الغفير يراه ويؤمن على دعائه، وطال وقوفه في الدعاء حتى استتم الدعاء فركب قاصدا الحوش الظاهري (تربة الظاهر برقوق) والناس في ركابه وبين يديه من غير أن يمنعهم من ذلك مانع، ثم نزل بالحوش حيث مدت أسمطة (موائد) الطعام فأكل وأكل الناس معه.
ثم ذبح بيده قربانًا قربه إلى الله تعالى نحو مائة وخمسين كبشًا سمينًا كما ذبح عشر بقرات سمانا وجاموستين وجملين وهو يبكي ودموعه تنحدر على لحيته بحضرة الملأ من الناس.
ثم ترك القرابين على مضاجعها كما هي للناس، وركب إلى القلعة فتولى الأستادار التاج الشوبكي تفريقها صحاحًا على أهل الجوامع المشهورة والخوانق وقبة الإمام الشافعي والإمام الليث بن سعد، والمشهد النفيسي وعدد آخر من الزوايا، حملت إليها صحاحًا وقُطِّع منها عدة بالحوش فرقها الوزير لحمًا على الفقراء، وفرق من الخبز النقي ثمانية وعشرين ألف رغيف وعدة قدور كبارًا مملوءة بالطعام.
وقد أخذ الطاعون من يومئذ في الانحسار تدريجيًّا.
ج14 من كتاب "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" لابن تغري بردي بتصرف.


* من الكتاب المخطوط "مائة حكاية وحكاية من التاريخ":

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى