عصام الدين ممد أحمد - شربـــــات

✍️ الجو مزكوم بالأدخنة والأغبرة،الجنود يركلون الأرص،يختبرون بنادقهم،يصيحون، يسيطر الارتباك على الجميع.
يشتد اللغط،ترتعب النفوس.
تتجول عيناى بين القدود ،لا أحد من أصحاب العمائم المميزة يظهر ، شربات تتدثر جلبابها البرتقالي، تتصدر الحشود ،تقترب مني، وكأنها تبحث عن كنف تستظل به،صدى سؤال يهاجمني:
أتطاردني ثانية ؟
القوات تنصب المتاريس على امتدادّ ساحل روص الفرج،وباتّجاه كوبرى 26 يوليو،ناقلات الجنود تبتلع كوبري الصنايع الرابط الحي بمنطقة رملة بولاق .
همهمات وصراخ وحوارات جانبية مفادها:
الكثرة تغلب الشجاعة .
تدنو شربات أكثر،تجاورني الوقوف ،أهينم:
آه منك أيتها المرأة !
تعبث بي المشاهد:
{ أرص أقفاص كمثرى نمرة اثنين فى الفراندة ،ركود السوق يظللنى بالسأم ،أهش الذباب ، البائعون يتوافدون للفرجة ،تساومني(شربات ) للشراء بنصف الثمن ،وجودها يصيبتي بالقلق:
يا ست الله يسهل لك .
لن يأخذهم غيرى .
جمالها الآخاذ يحثك للاستسلام ،ولكن الخسارة باهظة .
ربما تتوددإليها وتحظى بحضن دافئ .
أتخرج من المولد دون حمص من أجل ارتعاشة جسد ؟
تغادرني ، ولم تمض ساعة ، وعربة كارو محملة بأقفاص الكتالوب تدهس بضاعتي .
طارت عصافير حلمي ،اقتحمت الساحة غربان الغضب .
وجدتني أشدها من فوق العربة ، أقبض على جدائل شعرها ،أهبتها فوق الأرض؛ يمين، شمال ،لكمات مستقيمة، لولبية ، تتطوح قبل أن يغُمى عليها.
ينزعوني من فوقها ،لم يتخلف مني سوى عضلات ثائرة ،ومخ عصره الخبل ،وخيل تيبست حركته .
انقسم الناس فريقين ، فريق يطببها ،والآخر يثبت عزمي متطوعًا بلم ثمار الكمثرى المنثورة هنا وهناك ، عدوت إلى محل العمدة ،وامتشقت سنجة وشومة ، فالمعركة لم تبدأ بعد :
دقائق وعشاقها يتوافدون من شتى الأرجاء ، وأيديهم تقبض على الهراوات والسيوف
لا وقت للتفكير أو التراجع ؛ فالموت آت لا محالة .
أى نعم الرعب ينغلني.
انحرفت أقصى يسار المربع متخذًا من الحائط درع لحماية ظهري ، طقت عيناي شرارات تحرق العالم بأسره ،وأثناء الإستعداد للقتال نهضت (شربات ) وحالت بجسدها دونهم ،نهرت فرقتها المتأججة بالسلاح ؛ فأنكسروا متراجعين .}
تمتطي الكلمات الأكتاف،أستبين بعص العبارات :
الضرب بالسيف ولا حكم الكيف .
وكأن النفوس تتعبأ معنويًا،ولكن الأبدان تبدو مهدودة.
ينسلخ التجار من نسيج الحصار،يتسللون بين الدروب، وفوق المقاهي يقعدون؛فهم يمسكون العصى من المنتصف،ابتاعوا محلات فى السوق الجديد المقام في العبور؛ ولا يشغلهم مصير العمال بتاتاً.
طالت المداولات بين الأستاذ عضو البرلمان ومدير الأمن،يفك الأستاذ رابطة العنق،يدير رقبته الموجوعة، يشير على الجمع برباطة الجأش ،صوت مبحوح يتحشرج :
( اللى يبص لفوق توجعه رقبته ).
القائد العملاق يشطر الأبدان المتحفزة ،يخب فى عدوه الواثق ، ينصح :
لا داعي للشغب .
الضباب يغلفني ،أجنح للجلوس فوق هشيم مصطبة ، لا مجال للتأمل ، ولا وقت للنكوص فى خُن النفس، أبحث بناظري عن العمدة ، مللت التفتيش ، لم ألمحه ،أتابع المحتشدين ، مع اندماج الأجساد وأنسلالها تترى الصور :
( أقعد فوق مكتبى بسكرتارية رئيس المحكمة ، ذبذبات الكهرباء تتسرب إلى الحجرة ،يتلجلج الهدوء المعتاد، مستشارون يدخلون ويخرجون ، الفاكسات لا تنقطع ، أخطط للاختفاء ساعة لحضور جلسة السوق ، وأثناءانسلالى من الباب ، فوجئت بالعمدة أمامى ،تبدل لوني ،ولم أجد مفرًا من اصطحابه إلى الصالون ،أجزلت العطاء لصبى البوفيه ،ليعد قهوة سادة للعمدة ،لم أقل لزملاء المكتب أنه أحد زعماء الرفض ،والزمالة تفرض عليهم الاحترام ،طوال ارتشافه القهوة ،أعصابي سابت وكأن جسدي لا يقدر على الانتصاب :
ماذا يحدث لو فاجأنا رئيس المحاكم وسألني عن هذا الضيف ؟
يا عم لا تعقد الأمور فما أكثر زائريه .
اعتاد الرئيس شكله طوال الجلسات السابقة ،وقعدته – دائما- تأتي بمواجهة المنصة.
فأنت موظف حديث وليست لك أجنحة لتهرب من اللوم والجزاء .)
تحتد نبرات القائد :
إخلاء السوق لا بد منه .
يتذكر الأستاذ بضع كلمات :
الموت دون الأرض وسام .
يقول رئيس المفاوضين :
الأرض ليست ملكا لكم ،ولكل معلم محل فى العبور .
يناور الأستاذ :
ما مصيرالشيالين الغلابة ؟
المسئول الشعبى بالحى يتفقه :
ميكروباص بخمس جنيهات ينقلهم للعبور .
يتعجب الأستاذ :
البداية خمس جنيهات وبقدرة قادر تتبدل إلى عشر وعشرين جنيها .
يتوعد القائد :
لن يوقف الشغب تنفيذ الحكم .
أخترق الجموع المتلاصقة ، يتمزق جلبابي من جراء الاحتكاك ، أقترب أكثر من دائرة التفاوض.
النسور والسيوف والنجوم تلمع ،العبارات حادة وباترة ، الأستاذ يتمايل ،أردد في خفوت:
ما أيسر الكلمات فى أزمنة الرخاء !
تستجير (شربات ) :
العدل يا بهوات .
يتحرش بها أحد الضباط فيزجره كبيرهم ، ولكن عدودة تنطلق من مرقدها :
فى حشاى صراخ البطون .
يربت مدير الأمن على ظهرها الناعم الطرى ، يدغدغ حواسه الملمس ، فيعيد المشهد ثانية ، تنسال منها التوجعات :
أنفق على عائلة كبيرة .
الرابت ينصحها :
العبور مثل روض الفرج ، بل فى العبور حدائق وكازينوهات وأرض واسعة لا تحيط بها العيون .
تتعطن الوجوه ،دوامات الجمهور تتسع أقطارها ،تلتهب القمامة بأعقاب السجائر ،كل فرد يدور حول الآخر، وكأنهم فى زار ، صخب الموسيقى يحفز الأجساد للرقص :
{ نافوخى سلة مهملات ، عبد الخبير عطا يصول ويجول فى مدرج الحقوق شارحًا فلسفة الطرد فى الدول النامية،مؤكدًا سبق شهريار فى هذا المضمار .
واحتذاء عشتار لهذا التأسى ، ضاربًا بالحوادث وجوهنا المكفهرة و بطوننا الجائعة و أفئدتنا المرتبكة .
وأخيرًا طردنا متهماً عقولنا بالبلادة .
وفى الغرفة المجاورة أبو الحسن الخطيب يشيد من الطلل برجًا عاجيًا ، يستخلص نظريته المغلوطة فى النحيب ولطم الخدود ، نثره الخبل.
فانسربنا واحدًا تلو الآخر .}
يتسلق الأولاد العنابر فى لمح البصر ؛ لتمتليء الأسطح بهم ، نيران التأزم تشتعل بشتى الأرجاء ، المفاوضات لم تكتمل .
صليل الاحتكاكات تصم الآذان .
أمتطى حصان أوهامى ،أناضل طواحين الهواء العملاقة ،شربات تتدثر ثياب العُرى ، لا أحد يوقف جنوحها ، ينهطلون خلفها ، تسجنهم فى زنزانة دائرية ، سياجها أناس أصابهم الخبل ، بنادقهم المحشوة بالرصاص تتعطل، السماء تمطر حجارة وزجاجاً ، تتوه الدلالات :
ما هذا الذى أراه ؟
أضحى العراك الحقيقة الوحيدة الماثلة أمامى ،أنتفض الثأر البائت من مرقده ،اكتظّ الميدان بعربات الأسعاف ،يضيق الحصار ،أمارات الانكسار تكسو الجميع ،ساخت القبضات الفولاذية فى هلامية المشهد ،الجدر والأسطح والأرض والناس وخراطيم المياه يتداخلون ، وكأن سلطان العبث يمارس هوايته .

عصام الدين ممد أحمد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى