خيري حسن - فى ذكري الرحيل: تصبح على خير...يا باشا!

"اطلع نهار الجمعة فوق المنبر
وقول يعيش سعد الرئيس (الأكبر)"

(القاهرة ـ 1927)
هذا اليوم لم يكن يوم جمعة، ولم يكن هناك منبر، ولم تكن هناك خطابة، ولا هناك سياسة، ولا هناك زعامة، بل كان هناك ـ في ذلك الزمان البعيد ـ شمس النهار حزينة، وأصوات العصافير سجينة، وأصوات المارة (في حي المنيرة / السيدة زينب/ بوسط القاهرة) خافتة، وإضاءة الشوارع باهتة.
وعيون الناس شاخصة، والجماهير الغفيرة الحاشدة تنتظر - بحذر وترقب - قدوم الزعيم سعد باشا زغلول للاحتفال بيوم الجهاد.
بيت الأمة يقع بالقرب من السرادق، المقام، منذ أيام، والزعيم الآن في غرفته على سريره كأنه ينام!
حوله الأطباء ـ وزوجته صفية هانم زغلول (أم المصريين) ـ كما كان يطلق عليها في ذلك الزمان الثائر ـ يتشاورون، ويتهامسون، ويرفضون ذهابه للاحتفال!
- "يا باشا من المستحيل أن تخرج من حجرتك اليوم"!
- لماذا؟
- "وضعك الصحي حرج جدًا.. وأنا ـ بصفتى طبيبك الخاص ـ أمنعك من الخروج"!
ابتسم الباشا ثم هز رأسه ساخرًا وهو يحرك قدميه فوق سريره محاولًا محاولة جادة النزول والخروج ضاربًا بتعليمات الأطباء عرض الحائط!
صفية هانم: "رايح فين يا باشا"؟!
"سوف أذهب للاحتفال، وصحتي أنا المسؤول عنها " ثم قال بصوت واهن ضعيف: "هؤلاء الذين جاءوا وجلسوا في انتظاري.. كيف أتأخر عنهم"؟!
- حياتك يا باشا؟!ا
حياتي مع هؤلاء الناس، حياتي من أجل هؤلاء الناس، حياتي صنعها هؤلاء الناس، دعوني أذهب إليهم حتى لو كنت مرهقًا، ومتعبًا، ومريضًا وأصارع الموت!
•••
"الزهر من شوقه لرؤياك فتح
والشمس بتقولك يا سعد نصبح"
(سرداق الاحتفال ـ بعد 15 دقيقة)
الآن الجماهير محتشدة، والعقول مرتبكة، والنقاشات دائرة وساخنة: هل سيأتي الزعيم حقًا"؟
مواطن بسيط اسمه (علي أبوصالح) جاء من قرية تابعة لمدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية في دلتا مصر، رد على هذا السؤال الذي طرحه بصوت مسموع شاب كان يقف بجواره (من شباب البندر/ أى المدينة) يرتدي قميصا أزرق اللون وبنطلون مدرسي قصير فوق الركبة.
رد أبوصالح: "نعم جاء!"
دخل سعد باشا إلى السرادق، وجلس يستمع إلى منصة الخطابة المزدحمة بالشخصيات السياسية البارزة والكلمات الخطابية الملتهبة، وبعد لحظات بدأت هتافات الجماهير تطالب بالاستماع للزعيم. الرجل مريض بشدة، والأطباء منعوه من الحركة، ومنعوا عنه الزيارة منذ أيام، لكنه الآن ـ وطبقا لرغبته ـ يتواجد وسط الجماهير الغفيرة بعدما (عاد الشيخ إلى صباه) وإلى قوته، وإلى حيويته.
وبعدما وجد نفسه وسط الجموع الحاشدة ترك العصا التى كان يتوكأ عليها وصعد إلى المنصة ـ وكأنه ابن العشرين ربيعًاـ ووقف يلقي خطابه الأخير في السياسة والحياة.
الخطاب كان مقدرًا له 5 دقائق ـ طبقًا لمشورة الأطباء ـ لكنه استمر 3 ساعات متواصلة، وكأنه يودع الزعامة والجماهير ومصر كلها، وهو ما حدث بالفعل بعد أسابيع! بعدما فرغ من خطابه عاد إلى بيت الأمة القريب على بعد أمتار.
وفي الليلة نفسها عاد المواطن (علي أبوصالح) إلى قريته البعيدة على بعد 140 كم لينام وسط أطفاله في بيته الفقير.
وأثناء خروجه من السرادق سأله الشاب الذي كان يقف بجواره: "وأنت يا عم على مغلب روحك ليه؟ وجاي من آخر الدنيا تحضر الاحتفال ده؟ رد الرجل بكلمات متلعثمة، وعيون شاخصة، وأنفاس متلاحقة: "علشان بصدق كلام سعد باشا في كل حاجه بيقولها.. وحاسس أن قلبه كان عليا وعلى لقمة عيشي أنا وولادي"! هز الشاب رأسه ولم يعلق.
•••
"أهلًا وسهلًا قلتها من قلبي
لله في لله واللي عالم ربي"
(بيت الأمة ـ بعد أسابيع)
عند الساعة التاسعة والنصف من مساء ليلة 23 أغسطس من ذلك العام ـ في مثل هذا اليوم ـ هرع الأطباء إلى غرفة الباشا.. حرارته مرتفعة جدًا، ونبضات القلب سريعة بعد ليلة أمس التي استيقظ فيها وهو يعاني ألمًا شديدًا بالمعدة.
الأطباء حوله من كل جانب، وهو نصف راقد على سريره، يرتدى بيجامة بيضاء بخطوط بنفسجية، وعلى رأسه طاقية، والأطباء ما زالوا يحاولون السيطرة على درجة الحرارة التي وصلت إلى 40 مئوية لكن بلا جدوى. صفية زغلول تسأله:
- كيف حالك الآن يا باشا؟
رد بصوت ضعيف: "أنا انتهيت"
بعد هذا السؤال وهذا الرد دخل في غيبوبة الموت، الموت الذي أعلنه الأطباء ـ في حضور فتح الله باشا بركات ـ ابن شقيقته ـ الذي نزل من حجرته منهارًا يبكي، ويبكي كل الحضور.
الساعة تقترب من العاشرة من مساء تلك الليلة عندما أعلن الخبر الصادم: مات سعد باشا، مات الزعيم الذى أحب هذا الشعب وأحبه هذا الشعب، مات بعدما قال آخر كلماته: "أنا انتهيت" لكن هل حقاً انتهى الزعيم؟ المؤكد لا! لماذا؟ لأن الذي يحب هذا الشعب بصدق وإخلاص، يحبه الشعب بنفس الحب والإخلاص.. ولا ينته ولا يموت! والذى يحافظ على "لقمة عيش" - أو يسعى لتوفيرها - هذا الشعب.. لا ينته ولا يموت! فهل انتهى ونسى الشعب مصطفى باشا النحاس الذي مات بعد سنوات من رحيل سعد باشا؟!
•••
( القاهرة ـ بعد 1965 )
فى نفس اليوم الذى مات فيه سعد باشا - ولكن بعد مرور 38 سنة - مات النحاس باشا بعدما ظل بعيداَ عن السُلطة والسياسة( بعد يوليو/ 1952 ) حيث عاش في بيته مع تاريخه، وذكرياته، ومعاركه، وكفاحه الطويل. هذا التاريخ السياسي الذى كانت أبرز عيوبه ـ أي عيوب النحاس باشا ـ هى" فضيلة الصراحة الزائدة عن الحد، والتشدد فى الحق، والصدق فى القول" هذه الصراحة، وهذا الصدق، جعل الحب حالة متبادلة ما بينه وبين الشعب. هذا الصدق- فى القول والعمل- هو الذى جعل مواطنا آخر ـ ربما يكون ليس اسمه على أبو صالح ـ وربما يكون من أى بلد آخر من ( الفيوم أو السويس أو أسيوط أو حى الجمالية ) ينتظر جنازته منذ الصباح الباكر فى ميدان التحرير أمام مسجد عمر مكرم ـ رغم علمه بأن الميدان محاصر، والجنازة محاصرة من البوليس فى ذلك اليوم الحزين ـ حسبما ذكر الكاتب الراحل مصطفى بهجت بدوي في مذكراته ـ وعندما خرجت الجنازة من المسجد بدأ - هذا المواطن - يدافع عن صاحبها، ويقاتل من أجله فى عملية كر ومفر غير مسبوقة فى تاريخ الجنازات على مستوى العالم.
نحن الآن أمام صراع غير متكافئ ما بين الشرطة والجماهير . الشرطة تحاول الاستحواذ على الجثمان لسرعة دفنه، والجماهير الحاشدة ترفض ألا تبتعد حتى تودع الرجل بالشكل الذى يليق بتاريخه، واسمه، وصدقه، بعدما عاش صادقاً معهم ومع الوطن. ساحة ميدان التحرير بوسط القاهرة وقتها شهدت هذا الصراع الغريب والعجيب وغير المسبوق. البوليس يحاول..والشعب يدافع عن جثمان الزعيم. بعد دقائق ينتهى الصراع بفوز الشعب بالجثمان حتى أن الجماهير وضعت الجثمان فوق عربة نقل الموتى، والتفوا حول السيارة بأجسادهم المحملة بالتعب والإرهاق. بعد لحظات من التوتر والاندفاع تحرك مواطن ـ الذى هو امتداد للمواطن(على أبو صالح فلاح مدينة الزقازيق ) وصعد فوق عربة نقل الموتى، ووقف بجوار الجثمان و( اتحزم.. بالعمة التى كانت فوق رأسه.. وبدأ يرقص ـ وكأنه فى فرح ـ بدأ يرقص"عشرة بلدى") وهو مبتهجاً، وسعيداً، بالانتصار على الشرطة، وبنجاحه فى الاستحواذ على جثمان الرجل الذى أحبوه، وصدقوه، ولم ينسوه.. ولو كان سُئل هذا المواطن( الراقص) - كان عمره وقتها 60 سنة تقريباً - لماذا ترقص هكذا فرحاً وطرباَ فى جنازة؟ فمن المؤكد كان سيكون رده:"علشان كنت مصدق كلام النحاس باشا فى كل حاجه كان بيقولها..وكنت حاسس أن قلبه كان عليّ وعلى" لقمة عيشي"! وعندما نواصل البحث ونوسع دائرة الرؤية فى هذا الإطار فى محاولة لمعرفة أبعاد تلك العلاقة المتبادلة (علاقة الحب والصدق ما بين الزعيم والمواطن) سنجدها - أيضاَ - ممتدة، وموجودة، وحاضرة فى جنازة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر .
•••
" الوداع يا جمال
يا حبيب الملايين
ثورتك ثورة كفاح
عشتها طول سنين"
(القاهرة ـ 1970)
فى يوم 1 أكتوبر/ تشرين أول- من ذلك العام شيعت جنازة الرئيس جمال عبد الناصر ( رحل فى يوم 28 سبتمبر/ أيلول- من نفس العام وودعه ما يقرب من 7 مليون مواطن ـ حسب بعض المصادر ـ حتى أنك تري الجماهير الحاشدة وهي تلطم وجوهها، وتمزق ملابسها، وتبكى بمرارة، وتجري تتسابق، وتتسلق أعمدة الأنارة والجدران فى الشوارع أثناء مرور الجنازة حتى تلقى عليه نظرة الوداع. ورغم ما فى هذا الاندفاع من خطورة شديدة على أرواح هؤلاء الناس، إلا أنهم من شدة حبهم له وشعورهم بأنه كان صادقاً معهم، وحاول المحافظة على( لقمة عيشهم) ـ بصرف النظر عن بعض أخطاء التجارب هنا أو هناك - لذلك خرجوا فى جنازته، بكل هذا الاندفاع، والحب، والصدق المتبادل بينه وبينهم. ومن هنا - لو توقفنا قليلاً بموضوعية وحيادية وآفق سياسي رحب ومتسع ـ بمناسبة ذكري رحيل سعد باشا والنحاس باشا ـ أمام علاقة المواطن (على أبو صالح - فلاح مدينة الزقازيق أو من هو امتداده بالزعيم ـ أى زعيم ـ سنجد بينه وبينهم علاقة صدق، وحب، وشعور متبادل بأن هذا الزعيم عاش من أجله، وكافح من أجله، ونجح من أجله، وأن تجربته ( بكل ما فيها من نجاحات واخفاقات) كانت من أجله، ومن أجل كرامته، وحريته و" لقمة عيشه"! وهذا سنجده بوضوح وشموخ فى جنازة (سعد باشا) وفى جنازة (النحاس باشا) وفى جنازة الرئيس عبد الناصر !
خيري حسن.
الأحداث حقيقية...والسيناريو من خيال الكاتب.
• المقال نشُر اليوم على موقع بوابة الوفد .
الشعر المصاحب للكتابة:
بيرم التونسي.
عبد الرحمن عرنوس.
المصادر:
كتاب/ مذكرات فى السياسة المصرية. د. محمد حسين هيكل . طبعة دار المعارف 1990. الجزء الأول.
كتاب/ ذكرياتى فى عهدين. صلاح الشاهد . الهيئة المصرية العامة للكتاب. مكتبة الأسرة / طبعة 2014.
كتاب/ حكايات من دفتر الوطن. صلاح عيسي. الهيئة العامة للكتاب/ طبعة 2015 مكتبة الأسرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى