د. سامي عبد العال - السلفية الثقافية



أخطر شيء أنْ تتنكر السلفية في( زي ثقافي ) ليس زيها الأصلي. ولكن الأشد خطورة من هذا أنْ تتنكر( لذاتها ) ضمن موضوعات أخرى، زاعمةً أنها تُدافع عن قضايا راهنة، وأنَّها تنظر إلى المستقبل بشكلٍّ بريءٍ تماماً، ولا تبتغي من ذلك غير وجه الإنسانية الحُر. لتبدو السلفية للعابرين كأنَّها لون من الأصالة المتجددة ... (هكذا دون عمل ودون مقدمات ودون نتائج )، وقد عطّرت سيرتها وشذبت موروثاتها ووضعت حجاباً مقبولاً فوق وجهها الغابر!!

بالضبط مثل اللص الذي يرتدي نقاباً حتى يتخفى أمام الناس، لكيلا يقترب منه أحدٌ وأنْ ينال رمزية إمرأة في مجتمع يعتبرها حراماً شكلاً ومضموناً. وبذلك يصبح بإمكان( الرجل المنتقب ) السير خلال الشارع دون مضايقات وأن يخدع الناس، معتمداً على فكرة التحريم التي تقتضي عدم الإقتراب من النساء أو التفتيش فيما يخصهن. بينما المنتقب هو كائن آخر وجنس آخر تماماً، وليس كما تعبر الصورة النسوية الخادعة التي تقابلك من فورها في شكل إمرأة.

وربما لا يحدث ذلك الخداع مع الرجل فقط، فالمرأة المنتقبة أيضاً قد تكون إمرأة لعوباً خبيثة الجوهر، لكنها تتخفى وراء ستارة سوداء كي تمُر هنا أو هناك دون مساءلة. أي ترتدي النقاب مخافة أن يكشف أفعالها اللاأخلاقية أحد. وهي ترتكز على المعنى غير المباشر وراء النقاب فيما يتصل بالتقاليد العامة أمام العيون. وقد تكون تلك المرأة منتقبة لأغراض خاصة ومآرب أخرى لا يعلمها إلاَّ هي.

وهذا الفعل المخادع يعني ما يلي:

أولاً: أنَّ هناك مكانة وقورة للزي ( النقاب- الشكل ) لدي الوعي الشعبوي، وكان يجب على أصحابه التخفي وراءه أمام الناس. وبالتالي يكون النقاب خطاباً شبه إجتماعي يخاطب من يقابله وقد يُحملّه تبعات إخلاقية معينة لو خرج عن هذا الخطاب.

ثانياً: أنَّ الجمال رغم راهنيته وخصوصيته إلاَّ أنه يعبر عن وجوده بأزياء قديمة تساير الذوق الديني الغالب. فبحسب ما هو رائج يتزيّ الإنسان بالأشكال والصور الرائجة لنيل مكانةٍ لدى المجتمعات.

ثالثاً: مغازلة الحس الجماهيري بأنَّ منْ يسير في الشارع – مع الجمال والدلال- يلتزم بالضوابط التي وافقتم عليها أنتم أيها الناس لا غيركم. وأنكم لا تقبلون عكس ذلك إطلاقاً، وأنَّه حتى لو حدث وتعرت الأنثي، فإنَّ هذا التعري يمثل خطراً داهماً على المجتمعات.

رابعاً: لا يمنع النقاب من ( إيماءات الجمال والدلال ) خلف الملابس. فقط تكون التغطية الموارِبة أكثر إثارة وغرائزيةً من الإنكشاف لذباب الأرض. فربما بطرف أنثوي خفي من أنامل أو قدم أو طريقة خطوات بعينها يتجلى ما كان خفياً في غير دلالته العامة.

خامساً: تحمل هذه العملية من التخفي كلَّ الإغراء حول ما ستؤول إليه في المستقبل، فيتساءل الناس: مَنْ هذه المرأة المتخفية التي تظهر أكثر مما تغطي، رغم أنها ( كتلة سوداء ) تسير على قدمين؟! وأين ستذهب في هذا الوقت من اليوم ولماذا عبر هذا المكان؟!

إجمالاً هذا بالضبط ما يحدث ضمن (السلفية الراهنة) التي تفكر لنا عبر بعض ممثليها الجدد وعبر المُناخ الثقافي العام الذي يستدعيها. إنَّ أبرز تجليات السلفية الراهنة هي الدفاع عن الماضي تحت عناوين الهوية والأنا والتمسك بالقيم والأصول وإحياء الأخلاقيات واستدعاء الأصالة، وأننا مازلنا أفضل من سوانا في خدمة البشرية وأنَّ تاريخ العرب كان يوماً ما هو قوام الحياة الكونية في كافة المناحي. هي عندئذ ( نزعة سلفية ) في الحفاظ على تاريخنا وتراثنا وتمجيد الأنا والتفاؤل الساذج ليس أكثر. والإكتفاء بمخزوننا الفكري الذي تمَّ - فيما يقال- تجاهله لسنوات عجاف بفعل فاعل وتحت وطأة المؤامرات التي لم تنقطع يوماً من تاريخ العالم ضد وجودنا القلق!!

ولكن الغريب أنَّ هذه ( السلفية المنتقبة ) تنظر إلى المستقبل كذلك، كأنه لا توجد مشكلة لها مع الحاضر، وكما لو أنها لا تدافع عن الماضي على نحو مستميت. وتأتي الرؤية المستقبلية لها بواسطة منْ ليسوا ممثلين للسلفية حصرياً بمعناها التقليدي. فهناك مثقفون ورجال تعليم وأدباء وأصحاب مساحيق ثقافية وبقايا كتاب ومحللون وأصحاب خواطر سريعة يتعلقون بمزاعم سلفية ثقافية حتى النخاع. فيقولون: أَمَا آن الآوان بالوقوف داخل واقعنا العربي والاسلامي لاستنهاض الهمم وتحريك الإرادة الجمعية نحو التطور؟!! وهل لنا من إحياء هويتنا الضاربة في التاريخ لكونها بمثثابة الملجأ الوحيد لمجتمعاتنا؟

والسلفية الثقافية موقف متزحزح عن السلفية الدينية ويسترفد وجوده من وجودها المتأخر منافحاً عن قضايا الأمة، وأنَّ حمل لواء ( الفكر الذاتي) – كما يرى أصحابها - أفضل بملايين المرات من فتات موائد الغرب اللئيم. وبالطبع لن تقول (السلفية الثقافية) أنها دينية ولن تزعم أنها ماضوية، فهذه الأشياء واضحة وضوح الشمس، ولكنها نزعة تستبق القارئ بخطوات غير معدودات لتقرر أنها تحمي وجوده المهيض وأنها ليست إلاَّ عودةً ميمونة لما هو مُهمل ومفقود من تاريخنا وواقعنا الراهن. أي أنها تعتني بحاضرنا المليء بالثمين والأصيل من الأشياء هذه المرة. ولا يفوتها بالطبع أن تستنفر غرائز القراء للإحتماء بـ( جِلْدِ الذات)، أي المستوى الحسي العام لوجودنا الجمعي المشترك الذي هو الأساس.

وطبعاً مهما يردد السلفيون الجدد بصدد أي شيء إلاَّ أن قولهم تفوح منه (رائحة عجيبة) إزاء التطور الفكري وإزاء المعطيات الجديدة للفلسفة والعلوم والمعارف والتقنيات والحياة. إذ يرون في هذا التطور نوعاً من الفراغ الذي قد يخيم على العالم العربي دون جدوى، معتبرين أنَّ البديل هو تحريك قاع الثقافة العربية وإثارة غبار تربتها الراهنة التي هي الأجدى مما يمكن معرفته في الغرب وغيره حالياً. وأنه يجب أن نقول كلاماً عملياً قابلاً للتطبيق على حياتنا كأننا نقف الآن خارج الإنسانية.

على سبيل المثال، قد يقول أحدُهم لماذا يتم التطرق إلى( فلسفة فلان أو علان) من فلاسفة الغرب بأفكارهم العجيبة وغير المفهومة؟! ولماذا نستورد هذه الأفكار أصلاً ونحن نملك ما يوازيها القدم بالقدم؟! ولا سيما أنَّ الفلاسفة الغربيين يعرضون لقضايا لا تمت إلى واقعنا العربي الاسلامي بصلةٍ. وهذا القول رغم أنه بالنسبة للبعض ( المثقف والدارس ) مصدر تسلية وسلوى عما نعانيه من فقر مُدقع لهذا الواقع، غير أن الهدف متخلِّف ورجعي إلى درجةٍ كبيرة. فكما أنَّ هؤلاء الفلاسفة هم التطور الطبيعي لتاريخ من التراكم على صعيد الأفكار والحياة الإنسانية، فكذلك كان طبيعياً الإطلاع على فلسفاتهم التي تمثل جديداً في ذلك الباب. وكأنَّ القول السلفي السابق هو أن يتوقف الآخرون عن التطور، بل أن يكفوا عن التفكير تماماً، وأن يفسحوا الطريق جانباً لنا نحن المارين بجوارهم، حتى نقدم للإنسانية ما لدينا من إسهامات. وفي النهاية سيكون ما لدينا أقل مما لدى الآخرين أيضاً!!

ثم ماذا لدينا نحن في مجال الفلسفات وتاريخ الأفكار وراهنية الجديد؟ لن أقول إنه لا يوجد شيء، فهذا شأن ثقافي متروك للتاريخ برمته، بل هناك مما هو أقل من ذلك على أغلب المستويات، وأنَّ إلغاء محاولات فهم العصر ونتاجاته والإتيان بشيء مختلف لا يتمان دون السخرية ممنْ يقوم بهما. فلن يكون العالم العربي في مأمن من غوائل الدهر لو أنه تمسك بما لديه فقط معرضاً عما لدى الآخرين. إذ لم يعد العرب يملكون من عتاد الحضارة والتمدن والثقافة الكونية والمعارف العلمية الكثير.. وهذا ليس بثاً للوهن في عروقنا النابضة والحية، بل هو بداية منطقية لمعرفة الواقع بجدية وتحديد أين نقف وكيف يمكن فهم أوضاعنا على وجه الحقيقة والسرعة. كما أنه لو كانت عروقاً الحضارية حية بالفعل، لكانت قوية ولا تؤثر فيها أفكار وكلمات مهما تكن.

هذه السلفية تعد ( انحرافاً ثقافياً ) بالمقام الأول وحنيناً ماضوياً متأخراً- على شاكلة المراهقة المتأخرة- في أشكال هزلية بصورة ضاحكة. لأنَّ الثقافة الآن ثقافة كونية الطابع وباتت( واضحة المعالم ) بفضل الجديد الذي تضع فيه الإنسان من حين لآخر. ويجب معرفة: ماذا نقدم من بدائل بالتحديد لا مجرد مزاعم وأقوال عامة بصدد أننا أصحاب تاريخ وتراث نوعي؟! والأهم ماذا قدمنا الآن للإنسانية التي تعاني على حد قول السلفيين، وكيف نعاصرها حالياً دون العودة إلى الماضي في لافتات براقة؟!

وهذا الأمر السلفي له جوانب أخرى هو انكفاء على الذات لا انفتاح فيه، وهو تعبير عما يكمن فينا من عنف مبطن ويحتاج إلى منافذ جديدة للخروج وهو مجرد مزاعم وهلوسات ثقافية جوفاء لا تصل إلى كائن خارج ذواتنا. إن الوعي الجمعي في المجتمعات الأقل اسهاماً في مسيرة الحضارة الراهنة وعي سلبي ونرجسي إلى أبعد مدى. والإحتماء به يمثل عودة إلى الماضي المجاني الذي قد لا يملك شيئاً في الحاضر.

والأبرز أنَّ ما يردده السلفيون الجدد مجرد أقوال براقة. إنه نوع جديد مخادع من الخطابه الزاعقة في غير أوانها، ولاسيما أننا شطار في الخطابة إلى درجة يرثى لها. قل: هاتوا من الأخر؟ فمجال الثقافات الكونية حالياً مثل الأسواق المفتوحة والعابرة للقارات، يغلب فيها أصحاب الانتاج الغزير والمبتكر والمدهش والأكثر جودة وجدية والأعظم نفعاً وثراءً. والسؤال لنا جميعاً نحن البشر: ماذا نقدم في هذه الأسواق الآن، وكيف نعاصر الإنسانية الراهنة من جهة الإبتكار والأصالة؟

ليست القضية: لماذا يتم عرض وفهم الجديد والمختلف؟ ولماذا يقدم الغرب بضاعته دون سواه؟، وليست القضية: لماذا نقدم ما عندنا ( وهو القليل ) على أنه الأهم والأجدى بإطلاق، ونحن لا ندرك: ما إذا كان جديراً بمواصفات الفكر والإبداع المختلف أم لا؟ وبخاصة أن ما لدينا في مجال الأفكار قد تجاوزته الثقافات الكونية الراهنة منذ فترة ليست بالقليلة، بل القضية الأهم هي كيف نسهم في هذه الأسواق وكيف نطور من إبداعاتنا حتى تدخل حيز المنافسة الكونية؟ إن المشي بالظهر إلى الحاضر هو (نزعة محافظة مُدمرة)، وقد يؤدي بنا إلى مناطحة الواقع لدرجة تحطُم الرؤوس لا محالة. ومن الممكن أن نسقط صرعى في أقرب حفرة، لأن الذي يسير بظهره لا يرى ما وراءه من حفر وعوائق.

وللأسف فإن ( السير بالظهر ) شكَّل حالياً عواصف تجتاح كافة المجالات وكافة البيئات التي تخلفت عن ركب الثقافات الكونية. وخوفاً من المجهول، باتت مجتمعاتنا تحتمي بأصوات تنادي بالعودة إلى الملاجئ القديمة، لعلها تقينا من غوائل الزمن ومن تيارات الغرب الثقافية. ونحن لا نعرف أن عصرنا الحالي هو عصر التعرية الثقافية بإمتياز، فليست هناك شعوب خارج الرؤية عن طريق التقنيات وشبكات المعلومات ومراكز البحوث والدراسات والفنون والسياسة والإقتصاد وتيارات العولمة والحروب والصراعات. ليس لنا من خيار إلاَّ ترك هذه ( السلفية المراهقة ) شئنا أم ابينا، لأن العصر سيعرينا دائما أمام أنفسنا قبل الآخر. ولو كان خيارنا اليتيم هو تلك السلفية، فسيلفظنا ذلك العصر- وكل عصر آخر- بطريقة مأساويةٍ، وسنكون طعاماً دسماً لوحوش كونية في كل مكان تبحث عن هؤلاء السائرين نياماً إلى حتفهم الثقافي لا محالة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى