حاميد اليوسفي - وشم في الذاكرة.. الحليب وسطل القمامة ودمية باربي..

وشم في الذاكرة

الحليب


كان العام الأول بمدينة فاس عاما صعبا ، خاصة في مستهله . بدا أن الأمر يحتاج إلى وقت لكي يتكيف الإنسان مع أمكنة جديدة وغريبة ، خاصة وأنه لم يطلب التسليم من أهل المكان ، كما يفعل العقل التقليدي .
تذكرت بداية السبعينات من القرن الماضي والحليب لازال مشروبا أرستقراطيا . لابد أن يوقظك أحد من المنزل لتقتني الحليب في الصباح الباكر . هناك نوعان من الحليب . حليب مركز يباع في قنينة من زجاج بالدكان ، ويُحتفظ به في الثلاجة ، وتنتجه الشركة المختصة في ذلك . يقتنيه الوالد أحيانا حين يكون منبسطا ، وجيبه ساخنا ، ودرجة الحرارة منخفضة لأننا لم نكن في ذلك الوقت نتوفر على ثلاجة في البيت . وحليب طري يحمله بعض القرويين في أواني من الألمنيوم على دراجات عادية ، ويعرضونه بثمن أقل أمام أبواب الأزقة والدروب في الصباح الباكر .
إحدى الجارات ، كان لها طفل صغير تحبه وتعزه . ورغم أنها فطمته منذ سنوات ، فقد ظلت تطرق الباب كل يوم على زوجة عمي ، وتطلب منها أن تقدم لها كأس حليب لابنها الذي تدعوه مولاي الزين ، لأنه يرفض أن يتناول شيئا في الصباح ، إذا لم تهيئ له قهوة بالحليب .
أستيقظ كل يوم في السابعة صباحا ، وأذهب إلى المتجر الوحيد الذي يبيع المواد الغذائية في رأس الزنقة لشراء الحليب الذي أصبح يعلب في أكياس من البلاستيك . حوالي شهرين لم نشرب الحليب ، لان صاحب المتجر كان يخصص هذه المادة لزبائنه من سكان الفيلات . فيلات أنيقة يؤثث فضاءها الخارجي والداخلي كثرة السيارات الفارهة إلى درجة جعلتني أعتقد مازحا مع نفسي ، بأنه ربما حتى الخادمات بهذه القصور الصغيرة يمتلكن سيارات . في أي وقت وقفت على صاحب المتجر يقول لي بأن الحليب قد نفد .
سأكتشف فيما بعد ، بأنه إذا تناولت العشاء بالحي الجامعي ، يمكن أن أحصل معه على ربع لتر من الحليب ، أحتفظ به حتى الصباح ، وأتناوله مع الفطور .
قلت لا بأس ثمن لتر من الحليب يمكن أن نقتني به الشاي والسكر والنعناع والخبز والزبدة ، ويناسب المصروف اليومي الذي سنخصصه للفطور .
سطل القمامة
وأنا قادم مع الشريف صديق الطفولة والحومة من الجامعة . رأينا سطلا جميلا أمام إحدى الفيلات مخصصا للقمامة . أردنا أن يكون لنا مثله ، فقد نُبدع له وظائف جديدة . وضعت يدي عليه لخطفه فوجدته ، مربوطا بسلسلة أحدثت ضجيجا ، دفع كلبا ضخما لمهاجمتنا بنباحه حتى قفزنا رعبا ، وركضنا بعيدا عن المكان . كم ضحكنا ذلك اليوم . تعجبنا من هؤلاء الأثرياء كيف يقتلون أنفسهم إلى هذه الدرجة ، ويقيدون حتى سطل القمامة بالسلاسل ، ويحرسونه بالكلاب . وتساءلنا مع أنفسنا ، كيف سيسرق اللصوص منهم الأشياء الثمينة ؟
بعد قراءتي لرواية شتاء الأحزان ل(شتاين بايك) عرفت أن من يجمع المال بكل هذا الجشع ، ويحرص عليه بهذا الشكل ، يعيش بلا كرامة .
الدمية باربي
الكثير من الأصدقاء الذين يزوروننا ، لا يتعرفون على العنوان بسهولة . فمن يسأل عن طلبة يسكنون حي ممر الورود بفاس في نهاية السبعينات ، يجيبه الناس باستغراب يفهم منه أنه أخطأ العنوان .
سكنا نحن ستة في شقة بأربعمائة درهم للشهر ، بالدور السفلي من عمارة صغيرة متآكلة الجدران في ملكية احد مفتشي التعليم الابتدائي كما علمنا فيما بعد . صاحب العمارة يمتلك ضيعة كبيرة بالجوار ومسبح في الخلف . عندما تبدأ حرارة الصيف ، نسترق النظر من خلف زجاج النافذة لابنته ، وهي تسبح بالمايوه .
لما رأى مصطفى ابنة صاحب العمارة لأول مرة وهي خارجة من المسبح ، شبهها بالدمية (باربي) ، وتمنى لو جمدها ، وعلقها بغرفته مثل تلك الإيقونات التي كانت تزين فضاء الكنائس .
كان يسكن بجوارنا طلبة نظن أنهم من مدينة بني ملال . أما الشقة المقابلة فكانت تسكنها أسرة صغيرة لا نعرف عنها أي شيء .
زوجة صاحب العمارة سيدة في الخمسينيات من عمرها لازالت تحافظ على جمال المرأة الفاسية وأناقتها . لم نرها إلا في نهاية الموسم عندما زارتنا تتودد لمساومتنا على شراء بعض الأثاث الذي نريد الاستغناء عنه ، أو لا نستطيع نقله والاحتفاظ به حتى بداية الموسم الجديد ، كما يفعل أغلب الطلبة .
تذكرت المثل الذي كان يردده والدي رحمه الله ، وهو ينتقد زوجته ، ويعيرها بأصولها البدوية : (الفاسية امرأة وتجارة ، والعروبية امرأة وخسارة) .

مراكش 11 يوليوز 2017

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى