سهام ذهنى - حلم أم حقيقة

"حلم أم حقيقة"، تساؤل يبهرني به ابني "محمد"، الذي لم يتجاوز عمره الست سنوات.

أول مرة قاله كان قد سافر مع جده "حسن دياب" الله يرحمه إلى الإسكندرية، ثم بعد عدة شهور سافر معه مرة أخرى، وإذا به ينظر حوله وهو يتساءل كمن يتحدث إلى نفسه: "هل نحن في حلم أم حقيقة"، ضحك شقيقه "جمال" وعمته وأبناء العمة وأخذوا يقبلونه لدهشتهم من السؤال، دون أن يتبين أحد منهم ما الذي يقصده بهذا التساؤل. هل هو مندهش لأنه يرى للمرة الثانية مكانا سبق أن رآه منذ شهور وقضى فيه أياما سعيدة كحلم جميل نتمنى أن يطول أو أن يعود، لكن إطالة مدة الأحلام أمر لا يملكه أحد، وعودة الأحلام أمر لا يستطيع أن ينفذه أحد.

المرة الثانية التي سأل فيها هذا السؤال حكايتها أنه كان قد نام حزينا لأن شقيقه الأكبر "جمال" أخبره أنه على موعد في الغد مع أصدقائه في النادي، وأنه لن يأخذه معه كالمعتاد لأنه يريد الانفراد بأصدقائه الذين سيأتون بدون إخوتهم الذين في مثل عمره.

حُزن محمد لم يهُن عليّ. لذلك فقد أيقظته بعد أن أديت صلاة الفجر كي نذهب معا إلى حديقة الحيوان قبل الزحام.

كعادته في الصباح قام محمد من السرير كإنسان آلي يتم تحريكه بواسطة ريموت كنترول. نزلت به إلى الشارع الخالي في الصباح الباكر، فوصلنا إلى حديقة الحيوان بينما هو لم يفق تماما. وأمام باب الحديقة اكتشفنا أن هناك ساعة كاملة تفصلنا عن بدء موعد الدخول، فقررت بلا ترتيب أن نركب في جولة بالأتوبيس النهري بدلا من الإنتظار.

انبهر محمد عندما وجد نفسه جالسا على كرسي بين صفوف من الكراسي داخل أتوبيس يتحرك فوق سطح النهر الممتد، حركة الأتوبيس في النيل تدفع بالمياه من حوله فتشكل إطارا أبيض كأنه ضياء يحتضن الأتوبيس، وعلى الصفين البيوت ثم الكوبري الذي اعتاد أن يمر عليه بالسيارة يتحول إلى نفق يمر الأتوبيس النهري من تحته.

طوال الطريق كانت ابتسامة محمد تملأ وجهه، وكانت نظرته تشع ببهجة مشاهدة الأشياء من زاوية جديدة.

عندما عدنا من رحلة الأتوبيس النهري، تحرك بخطوات كلها سعادة على الأرض الصلبة، فللوصول إلى الشاطئ عادة بهجة الاطمئنان على بر الأمان، بالرغم مما في التأرجح بداخل جسم يعوم وسط الماء من إثارة.

فما بالنا وبر الأمان هنا يتضمن أن يجد نفسه فجأة يضع حشائش في الفم الضخم لسيد قشدة، ويمد يده بالخس إلى النعام، والجزر إلى الزرافة، ويسمع على الطبيعة صوت زئير الأسد، ويركب السيسي، ويعاكس الفيل.

ثم إذا بمحمد قبل الخروج من باب الحديقة يلقي بنظرة أخيرة على المكان وهو يسألني بابتسامة انبهار وخجل: "حلم أم حقيقة".

قرصته. صرخ. جاء ردي: طالما أوجعتك القرصة إذن هي حقيقة. وكأن الحقيقة مرتبطة بالوجع والصراخ. وعلى الرغم من تأكدي أننا نسير على أرض الواقع، إلا أن براءة صغيري قد أيقظت الاستمتاع الطفولي بالأشياء في داخلي، وإذا بي أشعر ونحن نسير أسفل الأشجار العتيقة خارج سور الحديقة أننا لا نسير على الأرض، بل وكأننا نحلق في حلم جميل.

كان هواء الخريف منعشا، وسحبه غير المتكاثفة تسمح لشعاع شمس النهار أن يُطل من خلالها ملقيا بظلال على الأشجار تضيف للحقيقة التي كالحلم غموضا أقرب إلى وميض الفرح منه إلى حزن فراق الأحلام. وبدا أمامي سؤال الصغير باعثا على التأمل دون أن يكون مثيرا للجَزَع. فقد حرك السؤال بداخلي أصفى أحاسيس البراءة عندما كنت مثله صغيرة أرسم الشمس كوجه مستدير يضحك، والبشر خطوطا لهم وجه يشبه الشكل الذي أرسم به قرص الشمس. دون أن أحدد بداخلي أيهما الأوضح: وجه البشر أم وجه الشمس. وأيهما يضئ: نور الشمس أم إطلالة وجه الأحباء. وأيهما أكثر بعثا للدفء: وجه باسم لحبيب أم شمس حرارتها أليفة.

فقد كان الحد الفاصل بين ما نحلم به وما نسعى لتحقيقه حقيقتين متداخلتين لا نقبل تنازلا عن أيهما. فلا نستغنى عن الحلم، ولا نستسلم لحقائق تمنعنا من تحقيق ما كنا به نحلم.

وعندما لم نكن نتبين بالضبط: هل الحب حلم نتمنى أن نحققه، أم حقيقة نحلم بأن نجدها جميلة كالأحلام. أو هل جمال الحب يكمن فيما نحلم به عنه، ام أن جماله يأتي من تحقيق الحلم.

هل هذه السطور التي يتحرك بها القلم لينقل ما تفكر فيه رأسي كي يصل إلى قارئ يجدها على ورق هي على طريقة إبني محمد حلم طالما تمنيت أن أحققه وأنا في عمر لا يتجاوز كثيرا عمر صغيري، أم هي حقيقة وصلت إليها بعد سنوات من القراءة والتعب والعمل لتحويل حلم الكتابة إلى حقيقة واقعة.

وهل التواصل مع قارئ على الورق هو ضوء كما ضوء الشمس التي كنت أرسمها في زمان مضى على هيئة وجه لإنسان باسم.

أم أن هذا التواصل عبر الورق هو الذي يستطيع تحويل وجه البشر إلى شمس تضئ، وتنشر الدفء، وترسم البسمة، وتسعد العيون، وتوقظ الأحلام، فنحلم....... ربما نغير الحقيقة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى