فاروق وادي - نحن وسؤال الكتابة..

هل نُصدق «غابرييل غارسيا ماركيز» عندما يقول إنه يكتب ليرضى عنه أصدقاؤه. أفلا تكفي «أرانديرا الطيبة وجدتها الشيطانية» (حتى لا نقول «مائة عام من العزلة») ليرضى عنه ألف صديق وصديق؟!
فلماذا تعب القلب الذي أمعن فيه طويلًا ذلك الكائن الذي عاش عُمره وهو يتوثّب سردًا. لقد ظل متشبثًا بالأمر حتى عقده التاسع، وعاش ليروي، فرضي عنه الصديق ومارّ الطريق. فلماذا الإصرار على مواصلة جهدٍ كبير يُنهك الذهن والجسد والأعصاب؟! وإذا ما صادف أن للكاتب أصدقاء لا يحفلون بالقراءة، فهل يُشكل ذلك سببًا كافيًا ومقنعًا للتوقف عن ممارسة تلك الرذيلة؟!
أمام سؤال الكتابة نفسه، أجاب «لويس أراغون»: «أكتب لأدون أسراري». أما «جوزيه ساراماغو»، فقال في أثناء توقيع كتابه «ذكريات صغيرة» الذي يروي بعضًا من سيرته الأولى، وكان حين صدور الكتاب في الخامسة والثمانين من العُمر: أكتب في محاولة لفهم أمور ما زلتُ أجهلها، ولأنني لا أملك شيئًا آخر أفعله أفضل من ذلك!
«لوسيو كادوزو»، وهو كاتب من أميركا اللاتينية عرفنا على اسمه «فرناندو سابينو»، ولم تحالفنا الفرصة لقراءة شيء من كتاباته عبر الترجمات والمختارات التي وصلت إلينا من إبداعات القارة التي يتعانق فيها الواقع والسحر معًا، قال: «أكتب لأن لا عينين خضراوين لي».
وسواء اقتنعنا أو لم نقتنع بوجاهة سبب الكتابة الذي أورده كادوزو، فإن الإجابة تظل تنطوي، رغم غرابتها، على الإقرار بأن سببًا ما لا بد من أن يكون كامنًا وراء اقتراف هذا الفعل المؤلم والمدهش واللذيذ معًا.
سابينو نفسه، الذي أقرّ بأنه يكتب رغم أن لديه عينين خضراوين، يجد سببًا آخر للكتابة: التطهر، وحتى لا يضطر إلى التمدد على أريكة الطبيب النفسي. يقول: إذا كنت قد كتبت كتابًا بعنوان «السكين ذات الحدين»، فربما أكون قد فعلت ذلك لكي لا أطعن أحدًا!
الكتابة، إذًا، هي قضاءٌ أخف من قضاء. بلاءٌ مُحتمل حتى لا يحلّ البلاء. وهي فعل أقل دموية من فعلٍ آخر لا بد من أن يرافقه مسيل الدماء. إنها خيار بين خيارين اثنين لا ثالث لهما: اقترافها، أو اقتراف جريمة قتل!
تبدو لي الكتابة، أحيانًا، وكأنها فعل تجتمع فيه كتلة هائلة من «الميكانيزمات» السيكولوجية الدفاعية التي يؤدي فيها «التحويل» دورًا، و«التسامي» دورًا ثانيًا، و«الإبدال» دورًا ثالثًا، وكذلك «التعويض»، و«التقمص»، و«التكوين العكسي»، و«أحلام اليقظة».. وغيرها.
في أزمنة القناعات الأيديولوجية الراسخة، كنا نستنيم إلى الفكرة المُعلبة التي ترى أن للكتابة مهمة واضحة تُختزل في كلمتين: تغيير العالم. وكنا ننخرط في فعل التغيير.. فكأننا سنموت غدًا!
ولكن، وبعد أن انقلب العالم نحو الأسوأ، رغم كل أحلام كتاباتنا وطموحاتها التغييرية، وبعد أن عشنا لنشهد الانهيار تلو الانهيار، وتراجع جيوش الأحلام عن مواقع خطوطها الهجومية ثم الدفاعية، وحتى الانهيار الفادح لجبهة التغيير، على عكس ما كنا نطمح، اكتشفنا سببًا سحريًّا آخر كافيًا للكتابة: نكتب لكي نحقق التوازن المختل بيننا وبين العالم!
غير أن سبب تحقيق التوازن مع العالم يظل مراوغًا وحمالًا لوجهين على الأقل، إن لم يكن أكثر. فالتوازن قد يعني الاتكاء على فعل الكتابة والتشبث بجمر الكلام وقوة الخيال لإسناد الروح، والحيلولة دونها والانجراف وراء ما يقترحه علينا الانهيار من تغيير الذات لتكون متوائمة مع التغييرات الكونية وما خلفته من سماتٍ تدميرية. وقد تعني العكس تمامًا: التوازن مع ما يحدث في العالم، بمعنى: نفي التناقض معه والانسجام مع متغيراته وقيمه وأخلاقياته الجديدة.
أتساءل وأتأمل: لماذا تكتب؟!
أحيانًا أكتب حتى أثبت أن العزلة تستطيع أن تكون مثمرة، فتُنتج عالمًا يضج بالبشر.
أكتب لكي أظل متشبثًا بوهمي الجميل من أن الكتابة هي فعل ربما يكون أكثر جدوى من الصمت.
أكتب، حتى أتأكد من وجود قارئ واحد يولي كلماتي اهتمامه، حتى لو كان الوحيد على وجه الأرض.
أكتب حتى أصاب بـ«البرانويا» على طريقتي، لا على طريقتها الفصامية التدميرية. فبالكتابة وحدها تستطيع أن تمارس جنون عظمتك وجنون اضطهادك، كما تشاء!
أكتب لأمارس كل أنواع الجنون على الورق، بدلًا من ممارسته في مستشفًى للأمراض العقلية.
وإذ أعترف بأنني لست متأكدًا إذا ما كنت أكتب لهذا السبب أو ذاك. فإن الشيء الوحيد الذي أنا على يقين منه، هو أنني أكتب، فقط، لأعبِّر عما يجول في خاطري. وأحيانًا، في خاطر زوجتي!
أعلى