عزمي العفّاس - يد الجاذبيّة

أستفيقُ دونَ أن أشعر بذلك، أستلقي على الفراش قليلا حتّى أتحسّس موضعي فيه، أو حتّى أتعرّف على وجودي داخل إطار صغير، ووسط لحاف كبير. ربّما لم أعرف جيّدا في البداية أنّ الوعاء سيّد الفضاء، ولكن لليد قدرة على سبر أغوار المعروف، والموجود، وممكن الوجود. أضع يدي فوق اللّحاف، لا تحضّرا للنّهوض أو النّزول من الموضع الأوّل، ولكن تأكّدا من قدرة الجاذبيّة على استكمال مهمّتها، أو ربّما إصرارا على معرفة الفضاء الّذي أقبع فيه: وكأنّني أتوقّع أنّه بمقدور اليد نفي القانون الطّبيعيّ، أو ربّما هو تحدٍّ للقانون في حدّ ذاته. أرسم بيدي اسمي فوق ذبذبات الهواء، وأحاول أن أقرأه فأعجز عن ذلك رغم أنّني أراه، لأنّ الحنجرة تتطلّب استراحة من النّوم قبل أن تستطيعَ أن تقوم بمهمّتها على أكمل وجه. أمسح ما كتبتُ بأسفل الكفّ، أرقن اسمي ثانية، ولا أراه، وإنّما أكتشفه كي لا أنساه. أحمل يدي بيدي، وأحاول أن أكتشف أنّ ما يمكن أن تفعله اليد لوحدها يمكن أن تفعله يدان، معا، بل ربّما أحيانا أحتاج يدا أخرى حتّى أستطيع أن أتحدّى القانون، فلا تسقط يدي لمجرّد أنّه يجب عليها أن تسقط، بل تبقى معلّقة هناك، لا لأنّها لا تصل، ولكن لأنّ ذاك هو مكانها الطّبيعيّ. أو ربّما يمكنها أن تصير أعلى، أي أنّها لا تبقى معلّقة في المكان ذاته، ولكن بطريقة ما يمكنها أن تكون حرّة فتنساب في الفضاء. كان يمكنني أن أتخيّل المشهد بوضوح: مجموعة من الأيادي الّتي تعوم في الفضاء، لا تصطدم الواحدة بالأخرى إلّا كي تتكاتفا، ولا تضرب الواحدة الأخرى إلّا كي تصفّقا. إذن للأيادي أيضا القدرة على الاستشفاء من مرض الجاذبيّة، ولا يعني ذلك أنّها لا تنجذب، ولكن يعني أنّها لا تُجذب: يكمن الفرقُ في كيفيّة الشّعور بالجاذبيّة. كان يجب أن أترك يدي الحاملةَ يدي الأخرى، لا لشيء ولكن لأنّها بدأت تشعر بالوهن، فالقانون يحمل جزءا من الأريحيّة الّتي من الممكن الحفاظ عليها آنيّا، حتّى تصل النّقطةُ الموالية فأتخلّى عنها ثانية. الرّاحة الطّويلة مرض لا يُشفيه إلّا التّعب العميق، كأن أنام كثيرا على سبيل المثال، وليست الكثرة كمّية، وإنّما زخّة مياه عابرة في شرايين البقاء. ولا بقاء لليد إلّا في حضور الهواء.

يتسرّب الهواء بين الأصابع حتّى تكتشف اليد حاسّتها، ثمّ يختفي حتّى تكتشف غياب الحاسّة الحاضرة. حين لا تشعر اليد بالهواء لا يعني أنّها لا تشعر، ولا يعني أنّ الهواء غائب عنها، ولكن يمكن في الحضور الثّنائي أن يغيب الوعيُ عن اليد. وحين لا تحسّ اليدُ الهواء فهي تشعر بثقلها، لا جاذبيّةَ التّكوين، ولكن صخرة الميلاد. كان من الممكن أن تتّخذ اليد وضعيّة أخرى حتّى تعرف أنّها موجودة، على سبيل المثال أن تضع كفّها على جدار: في الحقيقة فإنّ اليد حينها لا تُدرك وجودها وإنّما تدرك وجود الجدار عن طريق ذاتها، ولكنّها في الوقت نفسه موجودة لأنّ الجدار موجود، وإن كان لا يوجد فهي أيضا منعدمة، فانعدامها متعلّق بانعدام حاسّتها، أو الحاسّة الّتي تحملها، أو الحاسّة الّتي تعبّر عنها. أنتَ لا ترى بأنفك، ولكنّها لعبة صغيرة قد تجرّبها بينك وبين نفسك: الطّعام شهيّ لأنّ رائحته شهيّة، ولكنّ العين حينها قد تغيّر قدَر الحاسّة فتغيّر سمة الطّعام. واليدُ كذلك، قد تشعر بخشونة الجدار، ولكنّها قد تلاحظ تموّجات فيها فتدرك أنّه ليس خشنا، ولكن منسابا، فيعود إلى رطوبة مفقودة يبحث عنها البدائيّ بيديه، لعجزه عن إيجادها دونهما.

أحمل يدي مرّة ثانية قليلا، أحاول أن أجعلها تستفيقُ من خيالٍ يُلمّ بالأشياء فيُصيبها بخدر بسيط، فترتخي العضلات لشدّة ما يصيبها من قدرة ليستْ لها، ولكن لما يُسيّرها، أو فلنقل جدلا لمُسبّبها. أعجز عن البقاء رافعا يديّ، يصيبني التّعب وكأنّني أنا اليدُ، لا كلّا من الجزء، ولكن محاولة الكينونة. توشك يديّ أن تسقطا من فوق، أحاول الصّمود قليلا، أحاول أن أثبّت بقيّة الحواسّ فيهما، أتمكّن من إيجاد نقطة الارتعاش، أعرف أنّ المحاولة فاشلة، ولكنّها على كلّ حال محاولة يجب أن تستمرّ إلى حدود فنائها. وسريعا أتركهما تسقطان، وأنام دون أن أشعر بذلك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى