د. محمد عبدالله القواسمة - المجدرة حذار من العدس

المجدرة من أشهر أنواع الأكلات الشعبية المعروفة. يدخل في تركيبها العدس الذي يعد لحمة الفقراء، ويقول خبراء الطبيخ والغذاء إن العدس يقوي العظام والدم والأسنان؛ لأن فيه الكالسيوم والفسفور والحديد، ويجعل الأعصاب متينة بفضل ما فيه من فيتامينات وخاصة فيتامين (ب)، وأظن أن قيمة المجدرة تعود إلى العدس وليس إلى مكونها الرئيسي الآخر الرز أو البرغل، أو إلى مكوناتها الثانوية مثل البصل والفلفل، أو الهامشية مثل اللبن والسلطة.

ما يجعلني أثق وأقدر هذه الأكلة أنها غير قابلة للتعفن؛ لأن من يطبخها لا يستطيع إلا أن يأتي عليها بسرعة إذا وضعت أمامه في ظروف معينة، ليس فيها مصائب عظيمة. ثم السبب الآخر أنه لا أحد يحسد آكلها مثل أكلة المنسف، على سبيل المثال، أو الشاورما أو الكبة أو البيتزا أو السوشي.

من واقع التجربة أن المجدرة تستحق التقدير والتبجيل ليس لأنها تبعد الحسد عن آكليها، ولا لأنها تغري النفس بالانقضاض عليها، بل لأنها تعطي من يأكلها القوة على تحمل المصائب والمؤامرات التي تهدف الإحاطة به، أو التقليل من قيمته وإنجازاته. أتذكر في هذا المقام أني كنت قد تناولت وجبة مجدرة فاخرة، يزيدها مفخرة البقدونس والسلطة واللبن، وقطعت الشارع بحذر، واستعنت بالله كي لا يحدث لي مكروه. فوجئت بسيارة تصدمني ورفعتني مقدمتها إلى أعلى، وسقطت دون أن يحدث لي أذى يذكر. إنها المجدرة التي زودتني بالقوة.

المجدرة أكلة مقدرة وعلى العين والراس عندي وعند الآخرين، لكني بصراحة لا أحبها. يوجد فرق في الحقيقة بين الحب والتقدير. الحب ينبع من القلب والتقدير من العقل؛ فقد يقدر الإنسان البصل والثوم ولكن لا يحبهما. على كل حال أنا لا أحب المجدرة، ولا أحب العدس لكثرة المصائب والكوارث التي حدثت لي على المستوى الخاص والعام وكان العدس والمجدرة حاضرين.

لا أنسى أن أمي في ذلك اليوم الذي أعلنت فيه إسرائيل سيطرتها على الضفة الغربية وقطاع غزة في حرب النكسة عام 1967م كانت رحمها الله تنقي كومة من العدس وتتهيأ لطبخة المجدرة. أعجب أنها لم تلغ الطبخة في ذلك اليوم بسبب هزيمة العرب، وسحقنا المجدرة عن بكرة أبيها ردًا على الهزيمة، وانتقامًا من إسرائيل.

من يومها صار بيني وبين المجدرة ما كان بين أبي الفتح الإسكندري بطل مقامات بديع الزمان الهمذاني وبين طبخة المضيرة التي وردت حكايتها في المقامة المضيرية. تقول الحكاية إن أبا الفتح عزمه تاجر بغدادي إلى أكلة المضيرة، وتلكأ التاجر في إحضارها، فراح أبو الفتح يتلوى من الجوع. وفي النهاية هرب دون أن يأكل، ولحقه أولاد الحي وهم يصرخون وراءه: المضيرة! المضيرة! فشج رأس أحدهم بحجر؛ فألقي عليه وأدخل السجن.

ربما يتبادر إلى الذهن أن ما جرى كان مجرد مصادفة ولا يدعو إلى التشاؤم، ولكن ما يثير العجب أن أبي رحمه الله حدث أنهم كانوا يفطرون في رمضان على المجدرة عندما هاجمت العصابات الصهيونية قريتنا تل الصافي عام 1984. وذكر أنه لا يدري، لماذا اختارت زوجته أي أمي تلك الطبخة بالذات من بين كثير من الطبخات، التي كان من الممكن أن تصنعها.

وتترسخ العلاقة المتوترة بيني وبين المجدرة منذ ذلك اليوم، عندما أدركنا جارتنا الحاجة تركيا التي تقيم وحدها تلفظ أنفاسها الأخيرة، ورائحة المجدرة تفوح في جنبات البيت وأركانه، وبعيني رأيت صحن المجدرة كالشبح يتوسط المائدة بجوارها.

وأتذكر أن صديقًا لي كان يراجع طبيب عظام، أعلمه بضرورة إجراء عملية تغيير لمفصل الركبة. كنت في زيارته. كانت أمه قد طبخت المجدرة. عرض أن أشاركه الأكل. رفضت. إنها المجدرة والعدس عدواي اللدودان. حدثني أنه عازم على إجراء العملية على يد طبيب ماهر، ذكر العدس في مكونات اسمه الثلاثي. انتفضت وقلت:" المجدرة وحذار من العدس" سألني عما أقصد. أجبته ألا يعمل العملية. أطاعني. وهو إلى الآن بخير، وركبته بسلام مع قليل من الألم.

ومن ذكرياتي العجيبة مع المجدرة أني جئت إلى البيت يومًا. حدثتني أم العيال أنها طبخت المجدرة. قلت: الله يستر! هل حدث شيء للأولاد؟ ألم يكسر شيء في المطبخ؟ ألم يتعطل جهاز في البيت: ثلاجة غسالة تلفزيون؟ احتجت على هذا التشاؤم من المجدرة: حرام بطران النعمة. وحان تقديم الطبق الرئيسي، المجدرة العظيمة. غرست الملعقة في الطبق بعد ذكر اسم الله وشكره. صحت: آه! اصطدمت سني بحصوة. ابتعدت، وأنا أصرخ من الغضب: سني انكسرت. بعد أن هدأت وعرفت أن الألم نال اللثة فقط. قلت: إن المجدرة لها ثأر عندي ولن تتوقف عن ملاحقتي؛ فلا مجدرة بعد اليوم.

أتساءل أحيانًا: هل العدس، المكون الرئيسي للمجدرة السبب، فيما يحدث لي أو لغيري عندما ألتقي بالمجدرة وجهًا لوجه؟ لا أدري. لكني سأظل أقدر المجدرة ولا أحبها. هل أنا على حق أيها الإخوان؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى