فاروق وادي - اعتذار متأخِّر لسادن البرقوق

لم يكن سادن البرقوق، الذي جاء ذكره في رواية الطفولة "رائحة الصيف"، لكاتب هذه السطور، سوى الباحث والمؤرخ الفلسطيني الكبير عارف العارف.
في حارتنا الأولى، حارة المكان الأوّل في مدينة "البيرة"، كان يحلو لنا، نحن أولاد "رأس الطاحونة"، (التي أطلقتُ عليها من بعيد اسم "حارة الفردوس" تعبيراً عن حجم الحنين الكامن إلى الزمان والمكان)، أن نتأمل عن مسافة قريبة، ودون أن يشعر بنا أو ينتبه إلى وجودنا، رجلاً أشيب الشّعر، دأب على الجلوس في حاكورة بيته تحت شجرة البرقوق المثقلة بالثمار، منكباً على أوراقه، مستغرقاً في الكتابة، التي لم نكن نعرف أنها سوف تُخلّف لنا، بعد رحيله العام 1973، أكثر من خمسة وعشرين كتاباً مرجعياً في دراسات القضيّة الفلسطينيّة، سياسياً واجتماعياً وتاريخياً، وما يمكن أن يندرج أيضاً في حقل الدراسات الأنثروبولوجية.
كانت هيبة الكاتب تردعنا، حتّى في أوقات غيابه عن ظلال الشجرة، فتحول دون ارتكابنا حماقة السطو على ثمارها الدانية، فكأن سادن البرقوق ظلّ يحرس شجرته بطيفه الغائب، كما حرس الذاكرة الفلسطينيّة من التبديد والنسيان.

üüü

هذه الصورة، القادمة عن بُعد نصف قرن من الزمان، أو ما يزيد، ألحّت عليّ وأنا أتهيّأ لتقديم اعتذار متأخر لعارف العارف، لما يمكن أن نعتبره خطأ علمياً غالباً ما أكون قد ارتكبته بحقه، وكانت قد قادتني لمثل هذا الخطأ مراجع ربما لا تكون دقيقة.

فقبل ما يزيد على ربع قرن من الزمان (العام 1981)، صدر كتابي النقدي "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينيّة"، الذي بدأته بفصل شكَّل مدخلاً تاريخياً للرواية الفلسطينيّة ورصداً لمسارها منذ محاولاتها الأولى، جاء بعنوان "من الخطابة إلى الكتابة"، وهو الفصل الذي استندت فيه على ما توافر لي من مصادر حديثة وأخرى قديمة، رغم قلتها، عثرت عليها في مكتبة الجامعة الأميركيّة في بيروت.
من ضمن الروايات التي عثرت على إشارات حولها، دون أن أعثر عليها، رواية بعنوان "مرقص العميان" لمؤلفها عارف العارف. وكان الدكتور أحمد أبو مطر قد سبقني بالحديث عنها في أطروحته الأكاديميّة "الرواية في الأدب الفلسطيني"، والتي أشرت إليها كمرجع عند حديثي عن تلك الرواية.
بعد التعرُّف على مضمون الرواية من المصادر، والتي كانت قد نُشرت قبل عام من وقوع النكبة الفلسطينيّة العام 1948، بدا لي أنها عمل يندرج ضمن أعمال روائيّة فلسطينيّة صدرت آنذاك وكانت تغترب عن واقعها الاجتماعي والتاريخي. فرواية "مرقص العميان" تدور حول هموم فرديّة لبطلها الضرير، الذي تمكّن من تحقيق وجوده وإحراز نجاحاته في عالم المبصرين، ليتفوّق عليهم بالعزم والإيمان والجلَد، رغم عماه.
وكانت قد لفتتني ظاهرة اغتراب العديد من الأعمال الروائيّة الفلسطينيّة آنذاك، والتي مثّلت نتاجات معزولة عن واقع المسألة الفلسطينيّة وهموم شعبها، وبدا لي أن تلك الرواية، شكِّلت نموذجاً لابتعاد السّرد الفلسطيني، في تلك المرحلة التاريخيّة المشتعلة، عن القضيّة الوطنيّة. وقلت بشأن "مرقص العميان": إن عارف العارف قد يكون النموذج الساطع للتناقض الواضح ما بين الإخلاص الأكاديمي للقضيّة الفلسطينيّة، والعجز الفني في التعبير عن هذا الإخلاص، فهو مخلص وقادر كراصد ومؤرخ، دون أن يكون كذلك كفنان!

üüü

بعد نحو عام من صدور الكتاب الذي حمل هذا الرأي، نبهني الناقد اللبناني الصديق محمد دكروب إلى أن هناك احتمالاً بأن لا تكون رواية "مرقص العميان" للمؤرخ الفلسطيني عارف العارف، وإنما لكاتب لبناني كان قريباً من الحزب الشيوعي هناك، يحمل الاسم نفسه، وأنها شبه سيرة ذاتيّة لكاتبها الكفيف الذي درس في أوروبا وتفوّق على أقرانه المبصرين، مشيراً إلى أنه يمكنني التأكد من ذلك بالعودة إلى ابن عارف العارف اللبناني، المحامي أسامة العارف، الذي كنت قد تعرفت إليه في بيروت، وأدين إليه بأنه عرّفني على الفنان بول غراغوسيان، غير أن العدوان الإسرائيلي على لبنان العام 1982 ومغادرتي بيروت، وتراجع الاهتمامات النقديّة لديّ، وحالة الإحباط والكسل الذهني، كلها عوامل حالت دون متابعة المسألة.
العام 1994، وكنتُ أزور بيروت للمرّة الأولى بعد الرحيل عنها، وذلك للمشاركة في مؤتمر وزراء الثقافة العرب الذي انعقد هناك، شاءت المصادفة أن ألتقي، في حفل الاستقبال الذي أقامه وزير الثقافة اللبناني للمدعوين، بالمحامي أسامة العارف. وقد شكّل اللقاء فرصة لطرح السؤال عن حقيقة نسبة "مرقص العميان" إلى والده، فلم يتردد ـ وفي حضور الصديق الراحل مؤنس الرزاز ـ في التأكيد على ذلك، مضيفاً بأن "دار الفارابي" كانت قد أصدرت طبعة جديدة للرواية في مطلع الثمانينيات، حملت عنواناً آخر، (ذكره لي ولم أعد متأكداً من صحته: "رحلة في الظلام"، أو شيئاً من هذا القبيل)، وتواعدنا على أن نلتقي في وقت لاحق ومعه طبعتي الرواية، القديمة والجديدة. غير أن ظروفاً حالت دون تجدد اللقاء.
حتى الآن، لم أعثر في مكانٍ آخر على أي من طبعتي الرواية للتأكد من حقيقة الأمر، وإن بتُّ أميل إلى الاعتقاد بأن المؤرخ الفلسطيني عارف العارف لم يكن كاتب "مرقص العميان"، وهو أمر أتمنى أن يشاركني البحث فيه دارسون مهتمون، وخاصّة الطلاب الجامعيين الذين اعتمدوا كتابي مصدراً من مصادر دراستهم الأكاديميّة.
وإذا كان هذا الاعتذار المتأخِّر لسادن البرقوق واجباً علمياً وأدبياً وأخلاقياً، فإن الأمر يقتضي بأن يكون الاعتذار في حجم الخطأ، وفي حجم الزمن الذي مرّ عليه، ويجب أن يتسع ليشمل كلّ الذين أصابهم بضرر علمي أو أكاديمي، أو أسهم في تضليلهم أو الإساءة إليهم.
لا نبحث عن الفضيلة من الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه..
ولكننا نبحث، دائماً.. عن الحقيقة!

فاروق وادي
2008-08-08
أعلى