وليد الخشاب - آني إرنو كتابة الجسد خفيضة الصوت

في حياة سابقة كمذيع لغة فرنسية بالبرنامج الأوروبي، أجريت حواراً مع آني إرنو للإذاعة المصرية وقت زيارتها لمصر في التسعينات. مازلت أذكر إلى اليوم ثوبها الأخضر الأنيق، وبهاءها وقد تجاوزت الخمسين آنذاك. كانت مفاجأة بالنسبة للشاب الذي كنته وقتها، أن ألتقي بكاتبة ماركسية وفائقة الجمال وغاية في الذكاء في آن.
حصول آني إرنو على جائزة نوبل يهمنا في العالم العربي بشكل خاص لأننا اكتشفنا عالمها الإبداعي مبكراً بفضل ترجمة الدكتورة أمينة رشيد والدكتور سيد البحراوي لرواية إرنو "المكان" والتي نشرتها دار شرقيات، ضمن ريادتها في الكثير من مجالات النشر الأدبي في مصر التسعينات. ولو لم تخني الذاكرة، أظن أن تلك هي المرة الأولى التي نقرأ فيها إرنو بالعربية. كانت آني إرنو صديقة شخصية للدكتورة أمينة رشيد، وتعود صداقتهما إلى السبعينات حيث جمعهما الفكر اليساري والنضال في سبيل قضاياه، سواءً دفاعاً عن الطبقات الشعبية، أو عن الحقوق الفلسطينية، أيام إقامة أمينة رشيد في باريس لدراسة الدكتوراة والتدريس. اهتمت أمينة برواية "المكان" لإرنو التي صدرت في مطلع الثمانينات، رغم أنها لم تكن الرواية الأولى للروائية الفرنسية، ربما لأنها الرواية الأولى التي يتجلى فيها بوضوح وعي الكاتبة الطبقي.
لابد أن احتفاء أمينة بجماليات الأدب اليساري غير التقليدي وغير التبشيري وبكتابة المرأة وبكتابة الذات هو ما أثار اهتمامها برواية "المكان" ودفعها إلى ترجمتها إلى العربية بعد حوالي عشر سنوات من صدورها بالفرنسية. ف "المكان" المقصود -كما قالت لي أمينة آنذاك – هو موقع الكاتبة الطبقي الذي "خانته" ثقافياً. فإرنو قد نشأت في أسرة عمالية، لكنها ترقت اجتماعيا وخانت طبقتها بمعنى ما، بفضل التعليم وتوليها وظيفة مدرس للأدب فانتقلت إلى الطبقة الوسطى وانسلخت عن جذورها في الطبقة العاملة. تغير مكان إرنو على الخريطة الاجتماعية، لكنها ظلت طيلة حياتها مدافعة عن حقوق البسطاء ومرهفة الحس تجاه التفاوتات الثقافية بين الطبقات. فهي لا تكتفي في روايتها بالدفاع عن الطبقة العاملة التي نشأت فيها، بل تتأمل التعالي الثقافي على تلك الطبقة من حيث أسلوب الكلام والتصرف، حتى بين من يدافعون عن الطبقة العاملة سياسيا أو من أتوا من تلك الطبقة، مثل الكاتبة نفسها. كتبت إرنو روايتها بعد وفاة والدها، وكأن تبلر شعورها بالذنب بعد فراقه قد تزامن مع شعورها بالذنب لأنها انفصلت طبقيا وثقافيا عن جذوره كعامل زراعي ثم عامل صناعي ثم صاحب مقهى.
المثير في منجز إرنو الفني أنها تكاد لم تكتب عملاً واحداً إلا وكان سيرة ذاتية. يزيد عدد كتبها عن العشرين، معظمها روايات تخييل ذاتي، بل روايات سيرة ذاتية، تستخدم فيها ضمير الأنا، وتحكي تفاصيل حقيقية عن حياتها وتجاربها الشخصية. فرواية "المكان" عن أبيها، ورواية "امرأة" عن أمها، وكلتاهما كُتِبَتا بعد رحيل الأب ثم الأم. ورواية "البنت الأخرى" عن أختها الكبرى التي توفيت وهي بعد طفلة. ورواية "الحدث" عن تجربة الإجهاض التي تعرضت لها في شبابها، و"عشق بسيط" عن علاقتها العاطفية والجنسية بدبلوماسي روسي. حتى كتب إرنو المصحوبة بصور فوتوغرافية والتي قد لا تصنف على أنها روايات، بقدر ما هي مقالات تستدعي الذكريات والخبرات الشخصية، هي كتب تحكي حياتها. فكتابها البديع "استخدام الصورة"، الذي يستدعي عنوان كتاب ميشيل فوكو "استخدام اللذات"، يتضمن -إضافة إلى نصوصها- أربع عشرة صورة للفنان مارك ماري، هو شذرات من يومياتها التي كانت تكتبها أثناء علاقتها الحميمة بالمصور الذي يصغرها بحوالي عشرين عاماً، بالإضافة إلى تأملاتها عن فن الصورة والفوتوغرافيا تحديدا، وعلاقتها بالجسد وبالجنس، وهي علاقة يؤكدها تناص عنوان كتاب إرنو مع عنوان كتاب فوكو الذي كان جزءًا من موسوعته في تاريخ الجنس.
من المثير أيضاً أن عالم آني إرنو الفني دائما ذاتي وتفاصيلي وبعيد بقدر كبير عن الهم السياسي المباشر، وإن كان التحليل الطبقي دائما حاضراً، والهم النسوي/الجسدي دائما هما ركيزة الكتابة عندها. فصراحة إرنو الشديدة والصارمة فيما يتعلق بعلاقاتها الحميمة هو تفعيل بلا ضجيج لسياسة تحرير الجسد النسوي. ومكاشفتها صافية الرؤية عن الخلافات والاختلافات مع والديها تتناول بالتبعية نقداً للبورجوازية وكذلك نقداً لليسار الذي يعيش انفصاماً بين دفاعه عن البسطاء نظريا وسياسيا، مع حرصه على الصعود ثقافيا وماديا في عالم تلك البورجوازية نفسها. لكن هذا لا يمنع أن إرنو كاتبة ملتزمة بالمعنى الكلاسيكي للأديب الذي يدلي بآراء في القضايا الخلافية ويكتب في الصحف متخذاً مواقف سياسية لمناصرة المستضعفين. إلا إن إرنو تفعل ذلك في مقالات الرأي التي تنشرها في الصحف، وفي حواراتها الصحفية والإعلامية، لا في كتاباتها الأدبية. ولعلها شجاعة من لجنة نوبل أن تمنح الجائزة لكاتبة تتعرض بانتظام لهجوم اليمين ولسهام الدعاية المغرضة، بسبب موقفها الحاسم والمعلن من سياسات دولة إسرائيل تجاه الحقوق الفلسطينية، ومناصرتها بلا لبس لتلك الحقوق.
كتابات آني آرنو تهمنا في مصر تحديداً على ثلاثة مستويات: 1)الجماليات و 2)الفكر و 3)السياسة. أولاً، لأن جماليات كتابتها توافق جماليات كتابة جيل التسعينات، من الاحتفاء بالتفاصيل اليومية والحياتية، والتجربة الذاتية، وتسجيل خفقات الجسد، أحيانا بحرية كانت تعتبر صادمة وقت نشر رواياتها في فرنسا، مثلما في وصفها لدور الملابس الداخلية في العلاقة الحميمة سواء في "عشق بسيط" أو "استخدام الصورة". كتابتها شديدة التقريرية، بلغة شديدة البساطة، بجمل مركزة، قصيرة. وهي بذلك تقدم ضماناً للجودة والاعتبار لكتاب التسعينات الذين كانوا يستكشفون الجماليات نفسها في ذات الوقت الذي يتعرفون فيه للمرة الأولى على رواية "المكان" المنشورة بالعربية في التسعينات.
ثانياً، على مستوى الفكر النسوي تحديداً، تقدم إرنو نموذجاً لتحرر المرأة ومجاهدتها للحفاظ على حريتها وعلى حقها في التصرف في جسدها، سواء بالإجهاض أو بالدخول فيما ترغب من علاقات حميمة، وعلى حقها في الكلام والكتابة باللغة التي تبتغيها، حتى لو تجاوزت المحرمات الاجتماعية بصراحتها التفاصيلية والجنسية. لكنها تفعل ذلك دون طنطنة ولا ضجيج ولا ادعاء، ولا تتاجر بكتابتها باعتبارها جهاداً في سبيل حرية المرأة. بل تقوم بفعل الكتابة نفسه، وبنبرة الكتابة الخفيضة، البسيطة، بممارسة هذه الحرية والدعوة لها دون دعاية عقائدية زاعقة، ودون انفعالية ميلودرامية تشوش على فعل التحرر ذاته. ثم إنها تقدم بذلك نموذجا للنزعات النسوية اللاتينية، المختلفة عن النزعات الأنجلوساكسونية، من حيث احتفائها باللذة وبالعلاقة الحميمة بالرجل. فكتابة إرنو وأخلاقيات أدائها كامرأة في المجال العام تبتعد عن الخطاب ذي الأصول الطهورية البيوريتانية الذي يشكل تياراً مؤثراً في مجمل الخطابات النسوية الأنجلوساكسونية، والذي ينحي العلاقة الحميمة بالرجل، وينفر من الاحتفاء باللذة، ويركز على المساواة بمعنى التشابه بين المرأة والرجل.
ثالثاً، على المستوى السياسي، يدهشنا أنه مازالت هناك كاتبات يدافعن عن الحق الفلسطيني بلا خوف ولا تردد ولا مماينة، وبلا اعتماد على الموقف الأخلاقي والسياسي النبيل لاكتساب قيمة من خارج العمل الأدبي. لكن ها هي آني إرنو تجسد ذلك كله. وها هي تكتب من منطلق اليسار دفاعا عن الطبقات المهمشة وعن المهاجرين ولا تخشى أن يؤثر موقفها السياسي على دعم دور النشر أو النقاد أو دوائر السياسة لها، ولا تلتفت إلى أن نموذج الكاتب الملتزم سياسياً قد بات "موضة" قديمة.
باختيار آني إرنو لجائزة هذا العام تواصل لجنة جائزة نوبل للآداب الاهتمام بكتاب ينظر إليهم على أنهم على هامش الجماليات المؤسسية، وعلى أنهم يكتبون كتابة "بسيطة"، تماماً مثلما اتخذت اللجنة قراراً شجاعاً بمنح الجائزة للشاعر والمغني بوب ديلان. باختيارها، فقد كرست اللجنة كتابة الذات وكتابة التفاصيل. وربما لم تكن لجنة نوبل تقصد ذلك، لكن اختيارها لإرنو شجاع من حيث إنها المرة الأولى منذ سنين التي تختار فيها كاتبة تعلن أنها ماركسية بلا اعتذار ولا مواربة، وتؤيد الحق الفلسطيني دون تنازل ولا تردد.

وليد الخشاب/أستاذ الدراسات العربية بجامعة يورك، كندا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى