خالد جهاد - المرآة والميزان

المقال رقم (٢٠) ضمن سلسلة مقالات (القبح والجمال)..

لم أتوقع عند بداية كتابة هذه السلسلة من المقالات بكل صراحة أن تأخذني إلى نقاطٍ لم أكن أفكر في الكتابة عنها أو التطرق إليها، لكنها كشفت لي أن كل شيء متصل ببعضه وإن لم يبدو كذلك للجميع، فحظيت بفرصة إنعاش ذاكرتي وعمل الكثير من البحث والمقارنات (التي قد تصيب وقد تخيب)، ولكن عودة الإنسان بكل جوارحه إلى الوراء في حد ذاتها لمحاولة رؤية الصورة بشكلٍ أشمل حتماً تجربة تحمل ثراءًا في ثناياها، وتعين على رؤية تفاصيل آنية وربما مستقبلية بوضوح، خاصةً عند الإستعانة بالتقنية اليوم للوصول إلى معلومات أو إصدارات كان يستحيل الحصول عليها آنذاك، سواءاً كان ذلك لمحدودية النشر إلا في نطاق ضيق أو بلدان معينة من جهة، أو بسبب شح المصادر التي أصبح الوصول إلى (بعضها) في زمننا أكثر سهولة من جهةٍ أخرى..

وهو ما يجعل حذف بعض النقاط ضرورة لإضافة أخرى أكثر أهمية وتأثيراً خلال هذه العقود المنصرمة، خاصةً وأن الكثير منها أسس لواقع نعيشه اليوم ولا يمكننا تجاهله حتى وإن أردنا ذلك، فبعض الظواهر بدء منذ عقود ولا زال مستمراً عبر الزمن مع تغير طفيف في بعض المسميات والشكليات فيما ظل المضمون هو ذاته، وما منعنا من رؤيته هو كثرة التجاذبات والتشويش على الكثير من المفاهيم، حيث قد لا يتقبل البعض بعض المعلومات لأسباب شخصية أو قد لا يضعها في السياق الذي يفترض أن تكون فيه، فلاحظت مراراً استمرار الكثير من الناس في الخلط بين التوثيق لحدثٍ ما والترويج له، فالتوثيق يأتي بناءاً على التغيير الذي أحدثه أمر ما وبناءاً على الأثر الذي تركه بغض النظر عن تقييمه في حد ذاته، والذي يأتي منفصلاً عنه كضرورة التوثيق للحروب أو الأزمات وتبعاتهما التي لا يقرها أحد، ولكنها دون شك أحداث مهمة في تاريخ الأمم ومؤشر هام لحياتها على أكثر من صعيد، وهو ما ينطبق أيضاً على العديد من الظواهر الإجتماعية (وإن كنا ضدها) لأنها أحدثت تغييراً في سلوك المجتمع وبنيته وطريقة تفكيره..

ومن ناحيةٍ أخرى مع التقدم في العمر يدرك كل منا وسيدرك أن كل حديث معرض لسوء الفهم مهما كان واضحاً، وأنه فقط من يشبهك أو يلتقي معك في الفكر والشعور (أو يحاول على الأقل) سيفهمك بشكلٍ صحيح مهما بدت الفوارق والمسافات بينكما شاسعة، ولذا فإن التعامل بأمانة مع المعلومة ووضع كلٍ منا نفسه مكان الآخر هو ضرورة ملحة، (محاولاً) رؤية المشهد من زاويته وليس مجرد الإعتقاد بأن ما يعرفه أو نشأ عليه هو الحقيقة المطلقة، وبالطبع فإن كل جهد بشري ناقص ولذلك فإننا جميعاً نعيش من خلال المحاولات دائما ً ونعيش من خلالها أكثر من حياة وبأكثر من نظرة، خاصةً إذا اتخذ أحدنا قراره بأن لا يتعصب لأي نظرية أو أن يأسر نفسه في قالبٍ معين، كون الآراء والأفكار والنظريات متغيرة بتغير الزمن، وكون اختيار أي شخص أن يكون واعياً بعيداً عن التصنيفات المعتادة هو أمر ليس بالهين..

لذا نحتاج اليوم في أفكارنا ومشاعرنا وعلاقاتنا بأنفسنا وبيئتنا والآخرين إلى شيئين متوفرين حولنا بكثرة لكن وظيفتهما الأساسية معطلة بسببنا سواءاً أدركنا ذلك أم لم ندركه، نحتاج إلى ميزان نضع فيه جميعنا سلوكنا وآرائنا ليحكم بالعدل ويساوي بين الناس ولا يتأثر بالضجيج والصوت العالي، كما نحتاج إلى مرآة نرى فيها عيوبنا كما هي دون تجميل ودون محاولةٍ للإلتفاف على الحقائق أو التقليل من مزايا من يختلفون عنا، بحيث يصبح الخصم وحشاً فيما نظهر دوماً بإطلالةٍ ملائكية، وهو ما ينطبق على كل قضايانا من أصغرها إلى أكبرها وعلى اختلافاتها، وهو ما وجدته كقاسم مشترك في مختلف الأحداث التي مرت بها بلادنا مع تنوع ثقافاتنا والذي لم يتغير حتى الآن لأن نظرتنا تجاه أنفسنا، وتجاه اخوتنا في الوطن والإنسانية، وشعورنا ببعضنا وبالشعوب المجاورة لنا لا زلت فضفاضة وضبابية ولم تخضع للمراجعة وإعادة التقييم..

مما يجعلنا نعتقد أحياناً أننا نتطور كلما تحولنا من التفكير والعمل بروح الفريق والجماعة إلى الحياة بشكلٍ فردي حيث تغلب المصلحة الخاصة على العامة، وبالمقابل يعتقد البعض من ناحيةٍ أخرى أن التفكير بشكلٍ جماعي يعني تبرير انتهاك الخصوصية وعدم احترام المساحة الخاصة وقمع الآخر وهو محض افتراء، ولذلك لن نخطو خطوة واحدة إلى الأمام حتى نحاسب أنفسنا قبل غيرنا وحتى تكون المرآة والميزان موجودة في داخل كل منا لإعلاء صوت الضمير على أي صوت آخر لأنه ينتصر دوماً للحق وليس للأشخاص..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى