كوثر بوبكار - بين الامتعاض من التفاهة وخطورة انتشار الهراء

استوقفني مؤخرا الجدال الرائج في وسائل التواصل الاجتماعي حول المحتوى التافه الذي تعج به الصفحات والقنوات المغربية، وخاصة الاستنكار الجماعي لمنشور احدى السيدات التي وصلت الى المطالبة بالمحاسبة القانونية لها بل وسجنها لأنها خدشت الحياء العام.
توقفت مهلة وعدت الى قراءة ما كتبته منذ أزيد من ثلاث سنوات عن موضوع التفاهة، فوجدتني متمسكة بكل حرف فيه ومقتنعة أكثر مما مضى بضرورة محاربة الهراء المتزايد والمنتشر عبر التطبيقات الرقمية بمختلف أصنافها.
لماذا تثير التفاهة كل هذا النقاش بينما لا يُعطى اهتمام للهراء السائد؟ هل حقا الهراء غير جدير بالاهتمام؟ وبما أني من خلفية علمية تهتم بتعريف الاشياء بتدقيق قدر الامكان، ساتوقف لحظة لتعريف التفاهة و الهراء الذين اعنيهما
التفاهة حسب ما يُروَّج لها هي كل حديث عن مواضيع تُعتبر سطحية، جانبية بليدة او غير جديرة بالنقاش العمومي، و هذا تعريف لا اميل له شخصيا لانه فيه نوع من الوصاية على ما يليق نقاشه و ما لا يليق لكني ساعتمده من باب تقريب المفهوم للقارء.
و من هذا المنطلق نجد محتويات كروتيني اليومي تُصنف على انها تافهة مقابل محتويات كتبسيط العلوم تُرى أنها جدية و عميقة.
و قبل تعريف الهراء دعوني أذكر أن انتشار المحتويات عامة راجع لدمقرطة التعبير الذي سمحت به التكنولوجيا الرقمية الحديثة.
و أعود هنا قليلا للوراء حين كان النشر حكرا على النخبة المثقفة و الاعلام الذي قد يكون مستقلا او مسخرا من طرف دولة او جهاز او افراد لنشر فكر معين. و في كل الحالات كان هذا المثقف/ الصحفي يعير اهتماما للحقيقة في الوقائع إما لنشرها و تبيانها او لضحدها و تكديبها. ففي اخفاء الحقيقة تمييز بينها و بين الكذب
الهراء هو نقيض هذا الفعل بالذات، فهو خارج منضومة الحقيقة و الكدب، بل هو لا يعيرها اصلا اهتماما. الهراء هو ممارسة نوع من الهرطقة من خلال تحاليل و تعليقات لا تحترم ابجديات التفكير و الاخلاق الفكرية الهدف منها غالبا تضخيم و ارضاء انا ممارسها و اعطائه صبغة المفكر العميق و أحيانا تكوين قاعدة من المتابعين المُغيّبين لعقولهم و التلاعب بهم باساليب بلاغية او انشائية لا ترقى حتى ان تصنف ضمن فنون الكلام.
قد يكون ممارس الهراء سادجا يعاني من الجهل المركب أو ظاهرة
dunning-kruger.
كما قد يكون واعيا بفعله ممارسًا له عن سوء نية مسبقة
من مظاهر الهراء مثلا انتشار نظرية المؤامرة و الدعوات لممارسات خرافية، قد نجدها حتى عند حاملي الشهادات العليا
يكمن الهراء مثلا في استعمال استنباطات ساجدة لا تحترم قواعد الاستنباط لتعزيز موقف فكري ما أو استعمال احكام قيمة والشخصنة ضد أشخاص لضحد أفكارهم بعيدا عن النزاهة الفكرية و التسويق للامر على انه حجة عقلية أو استعمال الحياة الشخصية للأفراد للنيل من فكرهم أو التنديد بفعل وإعطاءه صبغة الأحقية حين يخدم مصالح الممارس للهراء أو تهويل الأشياء و تعميمها حين لا يليق الامر و غالبًا ما يرتكز الهراء على التلاعب باللغة والمشاعر واحداث قطبية سطحية للاحكام.
باختصار الهراء هو استعمال ما لا يرتقي للحجة أو القرينة كحجج ضامغة لطرح ما، بالعودة للفرق بين التفاهة ولهراء يمكن القول ان التفاهة تعود لطبيعة الموضوع بينما الهراء يرتبط بتحليله و مقاربته بغض النظر عن جديته من سفاهته.
هل الهراء ظاهرة جديدة؟ بالتأكيد لا، لكن مواقع التواصل ساهمت في انتشاره بشكل غير مسبوق .
الهراء اخطر من التفاهة لانه يهاجم محرك التفكير و ميكانيزماته، فهو يولد الانطباع عند متلقيه انه يفكر و يحلل بينما عقله يدور في الفراغ.
هو بالتالي يخدع المتلقي حول قدراته العقلية، اذ يقف منبهرا مما يقرأه أو يسمعه مفتخرا بذكائه الذي أوصله لاستيعابه .
و هذا قد يؤثر مع الوقت على القدرات المعرفية لمن يتعرض بتكرار للهراء. اذ ان العقل البشري يميل الى تطبيع ما يتلقاه باستمرار و قبوله او التسليم بصحته.
بيدأن التفاهة لا تولد عند متلقيها انطباع العلم او العمق، هي تخاطب الغرائز اكثر من العقل و لا تساهم بذلك في انتشار الجهل المركب
يتغدى انتشار الهراء على القطيعة الواقعة بين النخبة و العموم فنجد عدد من يتابع و يثق في بسطاء الفكر و ممارسي الهراء اكبر بكثير ممن يتابع المثثف الفعلي، وهذا نتيجة لاحباطات اجتماعية و اقتصادية ولدت هوة بين المثقف/الصحفي الناخب السياسي و المواطن العام.
ازمة الثقة هذه استعملها للاسف بعض الانتهازيون للاسترزاق من خلال ممارسة الهراء والتلاعب بالعقول، فهل يجب محاسبة المثقف انه ينأى بنفسه ان ينافش هؤلاء، شخصيا لا اظن فمجادلة السفهاء واصحاب النوايا السيئة عبث، وهؤلاء غالبا ما يستعملون أساليب كإصدار احكام قيمة مطلقة او السب للهجوم على معارضيهم؛
الوضع يستلزم تعليما و فعلا ثقافيا من خلال السينما و التلفزة والموسيقى و الاعلام يؤسس لعقل نقدي و يحارب الجهل المركب.
ان الصرامة الفكرية اساسية للخروج من مأزق الهراء و كطريقة بسيطة لممارستها من قبل الجميع يمكن للمتحدث قبل ان ينتج فكرة و ينشرها ان يخضعها للامتحان الذاتي بان يتصور نفسه امام متابعة قضائية بتهمة التلفيق و عليه تبرير ما يقول بحجج دامغة والا سيتعرض لدعيرة باهضة
ضبط النفس فيما نكتب و التزام الحياد الفكري اللازم للامانة العلمية و الابتعاد عن الاحكام المطلقة على الاشياء....كلها اساسية للارتقاء بالنقاش والوعي العام
هذا لن يمنع ممارس الهراء عن قصد و بسوء النية من مواصلة فعله، وهنا أتذكر المثل المغربي إذا كان المتحدث احمقا فعلى المستمع ان يكون عاقلا، ولا يمكن ان نخلي كاهل المتلقي من أثر الهراء عليه
فكل مسؤول عن عقله و عن تشغيله أكيد أن التعليم يساعد على اكتساب أدوات العقل النقدي، لكن اكتساب هذا العقل ليس حكرا على المتعلمين. و قد نجد في أجدادنا أمثلة لاناس اميين لكنهم واعون بأهمية تحكيم العقل.
كما نريد ان يعالجنا أفضل الأطباء و يصلح سياراتنا أفضل الميكانيكيين علينا ان نكون انتقائيين فيمن نودعهم عقولنا و لو لساعات، و أن نمارس بعدها حكمة الأبقار كما يقول نيتشه في اجترار للأفكار و مساءلتها و أن نعرض على عقولنا الآراء المتناقضة في الأمور الى ان تتكون لنا نظرة عن فكرة ما.
لسنا في حاجة اليوم لوعاظ جدد أو اصنام بشرية جديدة نتبعها، بقدر ما نحتاج من يثير فضولنا و يدفعنا للتفكير الذاتي و تحمل مسؤوليتنا الفردية و الجماعية في مجتمعنا
يحسب لفتيحة روتيني اليومي انها لم تتغوط يوما في عقل أحد متابعيها مدعية التحليل والحديث باسم المنطق والعقل المفترى عليهما مستعملة في ذلك التلاعب اللغوي والاخطاء الاستنباطية الفادحة.

وخلاصة القول السيدة فتيحة تغوطت في مرحاض منزلها، وان كان نشرها الامر للعلن يدعو الى الاشمئزاز والغثيان فهو لا يرقى الى أن يكون دافعا لسجنها تحت مسمى حماية الأخلاق. الأخلاق نحميها بالتربية الحسنة وإعطاء القدوة والمثل في محيطنا من خلال أفعالنا و ممارساتنا اليومية لا اقوالنا.
الاجدر بنا ان نحمي عقولنا وعقول اطفالنا ممن يتغوط فيها بتربيتهم على عقل نقدي قادر على التمييز بين الصالح والمزيف من الأخبار والخاطئ من الاستنتاجات المتهافتة و علينا ان نعلمهم خاصة التجاهل للنقدي لكل ما يعطي انطباع التحليل والتفكيك بينما هو حديث يدور في الفراغ منطقيا ومنهجيا ما قد يفسد ملكات التفكير

كوثر بوبكار

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى