حسين حمودة - "مراوغات السؤال.. مزاوغات اليقين" (قراءة فى رواية بهاء طاهر "واحة الغروب")

ـ 1 ـ
فى هجير عالمها وقره، يتحرك سرد رواية بهاء طاهر (واحة الغروب) تحت لفح السؤال وبرده. من الفصل الأول بالرواية إلى فصلها الثامن عشر الأخير، ينهض السرد كله على السؤال؛ يتأسس فى رحابة السؤال وينبنى بحافز السؤال. يتعدد الرواة فى هذه الرواية: محمود، كاثرين، الإسكندر الأكبر، الشيخ يحيى، الشيخ صابر.. وتتباين تكويناتهم وعوالمهم وتصوراتهم.. وتختلف زوايا رؤاهم وطرائق سردهم.. لكن، مع ذلك كله، يظل السؤال هاجسهم المشترك جميعا، كأنهم مسكونون به ومدفوعون إليه ومساقون إلى العثور، أو عدم العثور، على إجابات عصية عنه. وعلى الرغم من الانتقالات الواضحة، عبر قسمى الرواية وعبر فصولها المرقمة والمعنونة بالأسماء، المروية بأصوات هؤلاء الرواة المتكلمين، وعلى الرغم من الحركة الجلية من قسم لآخر، ومن فصل لآخر، ومن صوت آخر .. لا تكاد صفحة من صفحات الرواية جميعا تخلو من صيغ السؤال أو التساؤل أو المساءلة ، أو من معانى هذه الصيغ ودلالاتها التى تجعل الشخصيات ـ جميعا تقريبا ـ وتجعلنا معهم، يلهثون ونلهث فى حركة متصلة تجسد التوق إلى مقاربة إجابة نائية، وتعبر عن الطموح إلى مشارفة يقين محال، وتصور السعى إلى اقتناص المعنى فى عالم قد غاب عنه المعنى، أو فى عالم انطوى على ملابسات وتعقيدات تكثّر معهما المعنى وتبعثر؛ لم يعد واحدا، ولا نهائيا، ولا مطلقا. وخلال لهاث هذه الحركة الدائبة، عبر قسمى الرواية وفصولها، وخلال رحلتنا إلى "واحة" "الغروب"، مع أصوات الرواية وشخصياتها، وخلال شهودنا الوقائع التى تقترب حينا من زمن ومكان مرجعيين بعينهما، وتحلق أغلب الأحيان فوق ما يجاوزهما.. نكون قد استكشفنا ملامح العالم الذى تقتنصه وتجسده هذه الرواية من بين ثنايا التاريخ والمخيلة التى تتأمله؛ تعيد تكوينه وتشكيله بل وتعيد خلقه من جديد، ونكون قد تعرفنا جوانب غير مأهولة، لم نكن قد قاربناها من قبل، فى "تصوراتنا اليقينية" عن هذا العالم، وعن أنفسنا، وربما لم نكن قد قاربناها فى كل ما "تصورنا" أننا نمتلكه من "يقين".
ـ 2 ـ
يضم قسما الرواية ثمانية عشر فصلا. فى هذه الفصول جميعا نتنقل بين الرواة المتعددين لنتعرف عوالمهم الداخلية والخارجية معا، ورؤاهم لأنفسهم ورؤى كل منهم للشخصيات الأخرى، فضلا عن رؤاهم للعالم المدهش، الموصول بمنابع الطبيعة الأولى، الذى يقطع ـ عكسيا، من الطرف الآخر إلى الطرف الأول ـ متصل "الطبيعة" ـ "الحضارة"، والذى يجاوز ـ مع ذلك ـ حدود زمنه (القرن التاسع عشر) كما يجاوز آفاق مكانه (واحة سيوة بالصحراء الغربية لمصر) إلى ما لا يحد بأية تخوم من زمن أو مكان.
"واحة" "الغروب"، عنوان الرواية ـ الذى يعبر عن تصور "زمكانى"، أو عن "متصل زمنى/ مكانى" بامتياز ـ يتردد ترديدات شتى على مستوى جزئى بالرواية؛ إذ يشار إلى أن "الزجالة"، مزارعى الأرض، العبيد تقريبا، "ممنوع عليهم الزواج أو دخول المدينة وعبور أسوارها بعد غروب الشمس" (الرواية، ص 11 ـ وهذا التشديد وكل التشديدات التالية من عندنا)، وإذ يتوقف بعض الشخصيات عند معتقدات المصريين القدماء عن "الغرب" أو "الأفق الغربى"،"مملكة الموتى وأرض الحساب التى اعتقد المصريون أنها فى مكان ما فى الصحراء الغربية، وبما أن سيوة هى أقصى الغرب من مصر فلعلهم اعتبروها أيضا آخر محطة تغرب فيها الشمس عن الدنيا" (انظر الرواية ص 219)، وإذ يتحدث "محمود"، المأمور الذى تم إرساله من القاهرة لجمع الضرائب من الواحة، فيما يرويه، عن علاقته بزوجته الإيرلندية "كاثرين" بعدما انكسر شيء لا يعرفه في هذه العلاقة: "انتهى هنا ـ بكلماته ـ نهار علاقتنا إلى غروب فى هذه فى [كذا] المحطة الأخيرة إلى الأفق الغربى" (الرواية، ص 229)، وإذ تقرأ كاثرين ما ترجمته من سطور مدونة على جدران معبد بالواحة، تخاطب "المعبود الخفى الأسماء": "يامن تفتح عينيك فتهب النور للحياة وتغمضهما فيحل الظلام (...) تشرق بالنهار على أرضهم وفى الليل ترحل لترعى أهل مملكتك الخالدين فى الغرب.. امنحنى بركتك يا إلهى.. أنت يامن قهرت كل الأعداء فى الأفق الغربى" (الرواية، ص 280).
فى هذه المحطة الأخيرة بالأفق الغربى، مآل الموت والخلود معا، ملتقى الختام والأبد فى آن، تتقاطع عوالم شخوص الرواية التى قدمت من أماكن شتى، ولأسباب متباينة، بمن فى ذلك بعض مستوطنى الواحة أنفسهم الذين كانوا قد ارتحلوا وحطوا هنا فى زمن أقدم، متسائلين وباحثين عن يقينهم، ومساقين ـ بدوافع وبطرائق عدة ـ إلى ما يجعلهم ينظرون إلى مسارات حيواتهم كلها كأنما من ضفة أخرى، أو من "أفق" آخر. كأن هذا الأفول، أو هذا الشعاع الغارب فى هذه المحطة الأخيرة، يفتح أعينهم وعقولهم وأرواحهم، ببصر آخر وببصيرة جديدة، على كل نور أو ظلام شهدوه من قبل، وكأن هذه المحطة الأخيرة تجعلهم يطلون وراءهم، بنظرة كلية، صائبة وصادقة لأنها نهائية، على كل ما اجتازوا من محطات، وكأن هذا كله يحفز بداخلهم ثوران الأسئلة والتساؤلات وفورانهما؛ حول معالم رحلتهم التى قطعوها فى العالم الذى عرفوه أو خبروه (سوف يتساءلون ونتساءل معهم فى النهاية: "هل عرفوه أو خبروه حقا؟!")، وحول ملامح رحلتهم الأخرى فى العالم المجهول.
ـ 3 ـ
حضور الأسئلة ماثل بما يشبه الإلحاح والملاحقة، يكاد يكون متجذرا فى "تكوينات" أغلب شخوص الرواية. لا يستطيع محمود، مثلا، أن يكمل يوما من أيامه "دون أن تطاردنى ـ بكلماته ـ الأسئلة" (الرواية، ص 91). وتتحرك زوجته كاثرين مدفوعة بنزوع داخلى إلى حل الألغاز: "هذا لغز آخر يجب أن أحله وأنا أبحث ألغاز الإسكندر" (الرواية، ص 93)، "عندى أسئلة حتى عن الأرواح نفسها" (الرواية، ص 102). يطرح الشخوص على أنفسهم وعلى الآخرين ـ وعلى من، وما، يجاوز أنفسهم والآخرين ـ ما يطرحون من تساؤلات وأسئلة، ويبقى مدوّما فى رؤوسهم طنين تساؤلات وأسئلة أخرى لا يطرحونها: "لم أسألها عما تقصده ولا كان هناك وقت للسؤال" (الرواية، ص 36).
عمن، وعم، يتساءلون؟
من التساؤلات ما تطرحه الشخصيات على ذواتها، حول ذواتها.
يتساءل محمود، مخاطبا نفسه بصيغة "الالتفات"، عن أزمته السابق وجودها على مجيئه إلى الواحة: "لكن هناك شيء [شيئا] أبعد من ذلك موجود معك من زمن ولا ذنب فيه للعواصف أو الصحراء فما هى أزمتك يا محمود؟" (الرواية، ص 38)، ويستعيد سؤال كاثرين له: "وتسألنى كاثرين ما هى أزمتى؟"، قارعا التساؤل المستعاد بتساؤل جديد: "لكن بالفعل ما هى أزمتى؟" (الرواية، ص 42)، كما يتساءل حول تعامله مع أهل الواحة: "لماذا أساعدهم وأنا أعرف أنهم يتمنون الخلاص منى؟" (الرواية، ص 78). فى غير سياق وغير موضع، لا يستطيع محمود أن يفهم ذاته ولا مبتغاه، فيظل يتساءل حول هويته ومرامه: "إذن فما الذى أريده؟ ليتنى أعرف ماذا أريد! ليتنى أعرف ما أريد ومن أكون!" (الرواية، ص 79)، "إذا كنت لا أفهم نفسى فكيف أفهم القدر؟ فليكن ما يكون!" (الرواية، ص 90)، "فما الذى كنت أريده؟ مرة أخرى ما هى مشكلتى؟" (الرواية، ص 202)، وأحيانا يقترب من حدود فهم ما لبعض أسباب أزمته دون أن يصل إلى إجابة عن تساؤلاته المحومة حول ذاته ولا حول ماذا تريد: "لم أكن أبدا شخصا واحدا كاملا فى داخله (...) بقيت قانعا بالسخط على نفسى وعلى الإنجليز وعلى الدنيا كلها دون أن أعرف ماذا أريد" (الرواية، ص 202). يتمنى محمود، فى موقع متأخر بالرواية، وفى سياق لاحق من وقائعها، لو كان شخصا آخر غيره: "ليتنى لم أكن أنا! ليتنى كنت أخى سليمان مثلا"، "لو كنت سليمان ما عشت هذا العمر من الحيرة.. لو كنت سليمان.. لو كنت.." (الرواية، ص 264)، ثم ينتهى محمود إلى موات سابق على موته النهائى الأخير، متسائلا عما حدث بداخله من تبدلات ساقته وانتهت به إلى تبلد وخواء كاملين: "ما الذى جرى لى؟ لماذا لا أشعر بأى غضب؟ لماذا لا أشعر بأى شئ على الإطلاق؟" (الرواية، ص 275) .
وتتساءل كاثرين، بقدر أقل من الإحساس بالتأزم، عما تريد، ولماذا تريد ما تريد. هل ستأتى ـ مثلا ـ أختها فيونا إلى مصر، وهل تريدها أن تأتى؟ "لأمض إلى النهاية. هل أريدها بالفعل أن تأتى(...) أم أريد أن تظل بعيدة؟" (الرواية، ص 23). تسائل نفسها حول بعض ردود أفعالها: "لماذا تسمرت فى مكانى مأخوذة بهذا الوجه؟ وهل هى مفاجأة الود وسط كل هذا العداء غير المفهوم؟" (الرواية، ص 95)، وتتساءل عن حياتها؛ عما كانت وكيف غدت وإلام آلت، ولماذا حدث لها ما حدث من تحولات جعلتها تفقد السيطرة على ذاتها: "ما الذى يحدث لى بالضبط؟"، "الآن لا إرادة لى(...) ماذا أصبحت؟" (الرواية، ص 173). تلاحظ كاثرين أن هذه الواحة تنطوى على طاقة غامضة "تغّير" من يأتى إليها، وتتوقف عند التغير الذى قد طرأ عليها، وتتساءل عما إذا كان كشفا عن ذاتها الحقيقية التى ظلت متوارية مطمورة بداخلها أو خلقا لذات أخرى، وفى كل الحالات تتساءل عمن تكون: "يوجد شيء هنا يغير الإنسان. فى هذه الواحة(...) شيء يغيرنا"، "وإذن فمن أكون" (الرواية، ص 175).
ويتساءل كذلك الإسكندر الأكبر ـ الذى يفارق موته الطويل، أو يطل منه، فيتكلم بصوت داخلى خلال الفصل الثامن بالرواية ـ حول ذاته التى لم يستطع فهمها طيلة حياته: "من أكون حقا؟ من أنا؟" (الرواية، ص 115).
ـ 4 ـ
التساؤلات الحائمة حول ذوات الشخصيات بالرواية مشوبة بنبرة تشبه "المراجعة"، وربما "المحاكمة"، التى تقوم بها أو تعقدها هذه الشخصيات بداخلها لتبحث عن "حقيقة" لم تتكشف ولم تتجسد أبدا، ولتتأمل فى علاقتها بنفسها، وعلاقاتها بكل من عرفت وبكل ما عرفت، بما يجعل صوت الذات الواحدة يتناسل إلى أصوات عدة، كأنها تمثيلات لأطراف "الاستجواب" و"المداولة" و"الحكم" فى تلك المحكمة التى تتحول خلالها هذه الأصوات الداخلية المتناسلة إلى متهمين هم أنفسهم "شهود" و"مدعون" و"محلفون" و"قضاة"، بما يقترب أحيانا من حد "التوزع"، وبما يصل أحيانا إلى حد "الانقسام". وفى الحيز الكبير من السرد القائم على هذه التساؤلات، الذى تتوقف فيه هذه الشخصيات عند تجربتها كلها فتحاكم أفعالها وممارساتها وتجاربها واختياراتها، تتردد مفردات حول "البراءة"، و"الذنب"، و"المحاكمة"، و"العدل"..إلخ، أو تدور فى المجال الدلالى لتلك المفردات.
محمود، الذى يخفى ويكابد إحساسه بخيانته ثورة عرابى مع من خانوها، يتساءل بنبرة اعتراف حول دوره الذى كان ودوره الذى لم يكن: "كيف كان لى أن أقول لهؤلاء المهاجرين الذين يسبوننى إننى أنا، بالذات، لم أخن" (الرواية، ص 46)، ويدفع نفسه، كأنما يسوق شخصا آخر، إلى المثول فى مواجهة الحقيقة التى طالما هرب من مواجهتها: "لكن تعال الآن! انتهى وقت الخداع. ما الذى فعلته أنا بالضبط فى الثورة؟ كنت أجرى من شاطئ البحر إلى المستشفى لأنقل الجرحى والقتلى؟(...) نساء من الإسكندرية أيضا فعلن ذلك ولم يعتبرن أنفسهن بطلات ولا شهيدات. عشن فى صمت ومتن فى صمت. فما الذى فعلته أنت بالضبط؟" (الرواية، ص 127). خلال المواجهة للحقيقة، الآن، بات بإمكان محمود، وربما بات لزاما عليه، أن يمنح الغفران الكامل لمن خانوا الثورة خيانة أكثر وضوحا وعلانية؛ يفكر فى "طلعت" الذى خان ونال مكافأته، على نحو لم يفكر فيه من قبل: "حتى ولو لم أغفر له فلماذا ألومه؟"، "فى أى شيء أفضل أنا طلعت؟" (الرواية، ص 129). لكن لا يستطيع محمود أن يهب هذا الغفران لذاته هو؛ إنه يظل يلاحق نفسه، بنفسه، وربما يظل يجلدها، بالتساؤل حول البراءة التى ظن لزمن طويل أنه يحتازها: "إن كنت مقتنعا بهذا كله فلماذا لا أشعر فى قرارة نفسى أنى برئ؟" (الرواية، ص 179).
وتستعيد كاثرين علاقتها مع زوجها السابق مايكل، الذى انتزعته لنفسها من أختها فيونا ـ وقد كانت تحبه وتخلت عنه لكاثرين ـ والذى تحولت علاقته معها إلى جحيم باردة ـ إن صح هذا التعبير ـ تمنت معها موته، وتتساءل وهى تحاكم ذاتها، فى سردها الداخلى، حول هذه التجربة كلها، وإن اتسم صوتها فى هذه المحاكمة بنبرة أقل مصارحة، لازالت تتشبث بالدفاع عن النفس: "لم أقتله ولم أتمن له الموت لكنه انتهى من تلقاء نفسه فما هو ذنبى؟" (الرواية، ص 27)، ثم تلوح هذه النبرة أكثر مصارحة وأوضح اعترافا فى محاكمة كاثرين لنفسها بعد موت "مليكة"، الفتاة البدوية الجميلة المتمردة على الأعراف والمواضعات، التى حاولت أن تقترب من كاثرين ثم اندفعت أو دفع بها، فى ملابسات معقدة تمثل جزءا من تقاليد راسخة، إلى موتها المحتم: "أفكر فى كل ثانية من لقائنا الوحيد وما انتهى إليه. أحاول أن أفهم ما حدث وأحاكم نفسى. هل هى التى أغوتنى؟ أنا التى أغويتها؟ وهل هناك إغواء بالفعل أو خوف؟" (الرواية ص208 وانظر أيضا ص 209).
والشيخ يحيى ـ كبير عشيرة الغربيين ـ يسائل نفسه، أيضا فى محاكمته الداخلية لذاته، حول صلته العدائية بـ"الشيخ صابر": "قلت لنفسى هل أكون قد أخطأت فى حقك يا صابر؟"، "فهل أخطأ ظنى حين تصورتك قد دعوت إلى مجلس حرب؟" (الرواية، ص 68 و ص 69 على التوالى).
والإسكندر الأكبر ـ الذى يتحدث ساردا، من موته، عبر الفصل الثامن كله ـ يطرح التساؤلات ويعيد النظر حول، وفى، تجربته الحافلة، المدوية، الدامية، فيستعيد صور قتلاه العديدين، من الأصدقاء والأعداء على السواء؛ يقر حينا ببعض "الإثم" فيما فعل، ويقدم الكثير من الدوافع والمبررات لمسلكه فى أحايين أخرى: "وكان عدلا (...) أن أدمر تلك العاصمة وأن أحرقها. ألم يحرق الفرس أثينا الجميلة درة اليونان قبل قرنين من الزمان؟" (الرواية، ص 115)، و: "نعم أنا طاغية مهما سقت لطغيانى الأسباب" (الرواية، ص 121)، و: "هل كان لا بد من أجل هذا الحلم أن أخوض بحرا من الدماء، دماء المهزومين ودماء جنودى؟" ص 117).
وبعد سعيه الطويل، المستتر، من أجل الثأر لأبيه، يسوق "الشيخ صابر" ـ كبير عشيرة الشرقيين ـ دفاعه، كأنما أمام قضاة لا نراهم: "أنا لا أذكر حتى ملامح وجه أبى لكنى لا أنسى حقدى على من قتلوه، أليس من العدل أن أثأر له ولنفسى؟" (الرواية، ص 164).
ـ 5 ـ
يتكثف جانب من هذه المحاكمات الداخلية حول ما يشبه "تيمات" أساسية: الخيانة، والانقسام ، على نحو خاص.
وفضلا عن حضور خيانة الثورة العرابية فيما سبقت الإشارة إليه من بعض تساؤلات "محمود"، فإن فكرة الخيانة، بوجه عام، تحتل مساحة كبيرة من تساؤلاته الصامتة الممتدة بطول فصول الرواية التى يسردها كراو: "أسأل نفسى طول الوقت عن الخيانة. سألت نفسى كثيرا لماذا خان الباشوات والكبار الذين يملكون كل شيء؟ ولماذا يدفع الصغار دائما الثمن؟ (...) لماذا خان الضابط يوسف خنفس جيش بلده فى التل الكبير..إلخ"، "لماذا خان؟ لماذا نخون؟" (الرواية، ص 48)، "هى خيانة أخرى ولكنى أسأل ـ ومن الذى خان" (الرواية، ص 85)، "أنا الذى اخترت بإرادتى أن أخون وأن أتخلى" (الرواية، ص 135)، "لو كان الألم والشقاء وطعنات الخيانة ثمنا للنجاة لنجوت..إلخ" (الرواية ص285 وانظر أيضا صفحات: 129، 130، 220، 226 ـ ولاحظ رصد الخيانة من منظور آخر لا ينتمى إلى أصوات الرواة، هو منظور "وصفى" ـ اليوزباشى نائب المأمور، الذى ينحدر من أصول شركسية ـ ص 268).
تساؤلات الإسكندر أيضا وتأملاته تتطرقان، فيما تتطرقان، إلى "الخيانة": "فكرت طويلا فلم أعرف أين نقطة البدء فى سلسلة الطغيان والخوف والخيانة أيها يلد الآخر، وهل كنت أنا بالفعل صانعها أو واحدا من ضحاياها؟" (الرواية، ص 121). وهذا التساؤل، من تساؤلات أخرى كثيرة مثارة حول المسافة بين "المتهم" و"الضحية"، تعبير عن انقسام فعلى واضح يصل إليه الإسكندر الأكبر فى تساؤلاته حول ذاته، أو فى محاكمته لنفسه خلال الفصل الذى يتحدث فيه: "كان هناك دائما إسكندر آخر هو الذى ينتزعنى من الفرح. إسكندر الدم الذى يطرد إسكندر النغم. ظل هناك دائما طوال عمرى القصير إسكندر ضد إسكندر" (الرواية، ص 108)، "لماذا أفعل الشيء ونقيضه؟" (الرواية، ص 115)، "وتساءل إسكندر: هل كان لابد من أجل هذا الحلم أن أخوض بحرا من الدماء (...) ورد إسكندر آخر: نعم .. إلخ" (الرواية، ص 117)، "قضيت الليل (...)أبكى مرتاعا من الوحش الذى يسكن تحت جلدى" (الرواية، ص 119)، "كنت أشعر بالفعل أن هيفايستون هو الإسكندر الأفضل وسط الأشخاص الكثيرة التى تعيش داخلى" (الرواية، ص 122).
ـ 6 ـ
الزمن ـ ماضيه وحاضره واحتماله الآتى ـ ماثل بوضوح فى تساؤلات الشخصيات، مهيمن عليها. وحشد التساؤلات، التى تثار خلال، وحول، الوقائع الراهنة والمستعادة بالرواية، مشبع دائما بالزمن. تلتقى شخصيات الرواية بهذا المكان فى زمن حاضر، ولكنها تصل تساؤلاتها عن عالمها بتساؤلاتها عن ماضيها كله فى تجارب ارتبطت بأماكن شتى، وبتساؤلاتها عن الزمن المحتمل القادم الكائن فى غيابات مجهول آت لا نراه، ولا تراه الشخصيات، وإن كان بعضها مؤرقا بما سوف يجلبه هذا الزمن المحتمل من أحداث أو بما سوف ينتهى إليه من مصائر.
حاضر محمود، مثلا، حلقة موصولة بما قبلها، أو هو نتيجة لما سبقها من اختيارات يرى الآن أنها كانت بعيدة عن الصواب، ولكنه لا يستطيع إزاءها مدافعة أو تغييرا، إذ لا يملك الآن، وهو يكابد تداعياتها، أن يعيد صياغة مقدماتها فى الماضى البعيد الذى مر وانقضى. ماضى محمود ماثل دائما فى زمنه الراهن، وتساؤله حول ذلك الماضى مقترن بتساؤله حول ما آل هو إليه فى الزمن الحاضر الآن: "أسأل نفسى الآن إن يكن كل ذلك الماضى البعيد قد اختفى. أسأل إن يكن ذلك الشاب الموزع الروح قد التأمت أجزاؤه أم زادتها الأيام تبعثرا" (الرواية، ص 16). يشير محمود إلى أن المسار الذى قطعه من ماضيه إلى حاضره لم يكن ممكنا أن يكون غير ما كانه، ويؤكد أنه الآن، لذلك، لا يملك حتى إمكان الندم: "فات أوان الندم على أى حال. ثم على أى شيء أندم؟ وما الذى كنت أتمناه فى صباى؟ لم تكن فى ذهنى أى فكرة عن المستقبل" (الرواية، ص 14). هو يعرف عن نفسه، فيما يعرفه عنها، أنه يعى ما يعيه بعد فوات الأوان دائما: "بالطبع أدرك الآن ـ بعد فوات الأوان كالعادة ـ أنى أخطأت منذ البداية" (الرواية، ص 178). قد يقوده ألم الحاضر، الآن، إلى ذكرى نائية؛ إلى ما كان يتصوره من "أيام" مجد ما: "لماذا أيقظ كلامه [كلام اليوزباشى وصفى] الذكرى؟ ما الذى يعيدنى إلى أيام المجد فى لحظات الخيبة" (الرواية، ص 269). ولكن كل ذكرى، من الماضى أو عنه، لم تكن إلا تجربة تحمل بداخلها بذرة الهزيمة الراهنة التى يشعر بها ويعانى وطأتها محمود الآن، وكل ذكرى ماثلة الآن عن ماض أكثر نأيا، فيما قبل الاختيار ثم الندم المفتقد، هى مخايلة لصورة فردوس تلاشى ولا يمكن استعادته أبدا: "أين هى براءة العمر الأول عندما كانت الأشياء سهلة وبسيطة (...)؟ وما جدوى التفكير فى ذلك على أى حال؟" (الرواية، ص 42) . ليس بمقدور محمود، الآن، فى تساؤلاته عن الزمن، سوى أن ينتقل من مجال الاستفسار عما كان وعما هو كائن إلى مجال الاستفهام عما سيكون فى زمنه القادم المحتمل. لا يذكر محمود من أبيات الشعر التى حفظها "من أيام المدرسة" سوى البيت الذى يعبر عن حالته الراهنة، عن تساؤله عما يعرف وعما لا يعرف، فى الماضى والحاضر والزمن المحتمل:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكننى عن علم ما فى غد عمى
ولكنه، مع ذلك، يتمنى "لو كان الأمر هو العكس. لو أجهل ما حدث بالأمس وأعلم ما فى الغد" (الرواية، ص 31). وتساؤلاته حول الزمن المحتمل، أيضا، لا تملك أن تركن إلى ترف التفاؤل؛ إنه لا يستطيع أن يترقب أو يتطلع إلى حبل نجاة يمكن أن ينتشله من جبّه المظلم: "إن كنت لا أفهم نفسى فكيف أفهم القدر" (الرواية، ص 90)، "لماذا ينقبض قلبى وتحدثنى نفسى أن شيئا سيحدث" (الرواية، ص 91)، "فإلى أى مصير تعس آخر سوف أنحدر هنا" (الرواية، ص 179). وعندما يشعر بعاطفة ما تجاه "فيونا" أخت زوجته، التى يمضى بها مرضها المتفاقم ـ الذى يعلم محمود مدى خطورته ـ إلى موت مؤكد، سوف يتساءل: "لماذا إذن لا أستطيع التخلص من وجهها الذى يطاردنى فى البيت والمكتب والطريق؟ (...) ما نهاية ذلك الشيء الذى لا مطلب له ولا خلاص منه؟" (الرواية، ص 262).
وتساؤلات كاثرين حول تجربتها القديمة، التى تمتد إلى زمن آخر ومكان آخر قبل مجيئها لمصر وللواحة، تحتل مساحات كبيرة من سردها . إنها ترى لحظتها الراهنة، فى مكانها هذا، امتدادا لوقائع سابقة ـ تسميها "مصادفات" ثم ترى فيها نوعا من "اختيارات": " كم من مصادفة قادتنى إلى هذه اللحظة؟.. لا .. إنها ليست مصادفات. أنا المسئولة عن كل شيء" (...) إرادتى هى التى قادتنى إلى هنا" (الرواية، ص 22 ـ وانظر أيضا ص 25).
والشيخ يحيى يؤكد، فى تساؤلاته عن تساؤلاته، أنه لا يزال بعيدا عن دعة الإجابات واطمئنانها؛ لا يزال مطاردا بالأسئلة القديمة المعذّبة نفسها التى كان يسألها فى الماضى؛ كأن حياته، فى الماضى والحاضر، سؤال واحد متصل ممتد. تتغير الملابسات وتتضاءل القدرة بمرور الزمن، ومع ذلك فالأسئلة تظل هى نفسها، كأنها الحقيقة الوحيدة الخالدة: "ماذا تريد يا يحيى؟ أصبحت عجوزا جدا. ضعف بصرك وضعف جسمك. لماذا إذن لم يضعف غضبى ولا حيرتى؟ لماذا ما زلت حتى الآن أسأل الأسئلة نفسها التى عذبتنى فى شبابى" (الرواية، ص 73).
والإسكندر الأكبر، فى زمن ما بعد موته، يتساءل حول زمنه الأول؛ زمن حياته وموته معا، الذى أمعن فى نأيه، ، كما يتساءل حول زمن محتمل لا يدرى ولا ندرى عنه شيئا. الزمن الطويل الذى انقضى فيما بعد موته، فى تجربة مبهمة يلفها غموض مطبق، لم يأت للإسكندر بإجابات جديدة عن أسئلته القديمة، ولا بمعرفة لم يمتلكها من قبل: "لا أعرف شيئا هنا غير ما عرفته على الأرض" (الرواية، ص 106). ولكنه، مع ذلك، بات يدرك الآن أنه قد فاته الكثير فى ماضيه، فى حياته القصيرة الحافلة التى عاشها. وهو الآن، من موقع موته الذى لا يمكن أن يغير شيئا فى حياة قد وصلت إلى نقطة ختامها، أى من موقع حاضره الذى لا يستطيع أن يغير ماضيه، يتساءل حول ما عرفه وما لم يعرفه، ما فاته وما لم يفته، طيلة حياته كلها: "كيف فاتنى طول حياتى أن أدرك عمق هذا الحب؟ وما الذى فاتنى فى الدنيا غيره؟" (الرواية، ص 124).
ـ 7 ـ
مع زحام التساؤلات الداخلية للشخصيات، فنحن لسنا إزاء غرف سرية مظلمة أو حالكة، إننا بالأحرى أمام شعاع من ضوء "غارب" ـ لاحظ عنوان الرواية ـ هو مثول كائن بين النهار والليل، أو هو انتقال متوان نحو الظلام. وعلى خلفية هذا المثول أو الانتقال، وبحافز خفى منهما، تتناثر فى تساؤلات الشخصيات تعبيرات عن مراوحات بين أطراف: المعرفة وعدم المعرفة، البصيرة والعمى، اليقين وعدم اليقين.. ودائما يلوح الطرف الثانى فى كل مراوحة من هذه المراوحات هو الأكثر هيمنة فى هذه التساؤلات، بما يومئ ـ ربما ـ إلى تكاثف العتمة وتثاقل رزوحها مع المضى نحو الليل وربما الإيغال فيه، وبما يؤكد تباعد المسافة الفاصلة، الحائلة دون اليقين الذى تتوق إليه هذه الشخصيات.
*
وفضلا عما لاحظناه من تساؤلات الإسكندر حول ما عرف وما لم يعرف، فمراوحات المعرفة/ عدم المعرفة، أو بالأحرى طرفها الأخير، قائمة/ قائم فى أغلب تساؤلات الشخصيات الأخرى. يتساءل محمود عن المجهول الذى لا يعرفه ـ سواء كان هذا المجهول منتميا إلى الماضى أو إلى الحاضر أو إلى الزمن المحتمل ـ إذ يشير إلى المعلوم الذى يشهده. يسأل كاثرين، مومئا إلى حيرته فى الوصول لإجابة ما عن استخدام أسلافه للأهرام (انظر الرواية، ص 58)، ويتساءل فى حاضره عن الحكايات القديمة التى كانت تحكيها له فى زمن قديم "نعمة السمراء"، التى أحبها وفارقها ولم تفارقه "عمره كله" (انظر الرواية ص 83)، وينظر إلى أفراد القافلة التى تصحبه فى سفره للواحة ويرى"كل العيون مصوبة للأمام تحدق فى الفراغ"، ويتساءل: "فيم يفكر كل منهم؟"، ويجيب: "لا أعرف" (الرواية، ص 29)، ويسأل نفسه عما يريده منه الشيخ صابر: "ما الذى يريده منى بالضبط؟" دونما عثور على إجابة (انظر الرواية ص 78)، ويطلق المدفع القديم الرابض أمام "القسم" وينجح فى قمع تمرد أهل الواحة ولا يعرف إن كان استخدامه مرة أخرى سيؤدى إلى النتيجة نفسها: "تحققت المعجزة . لا أدرى إن كانت قابلة للتكرار" (الرواية، ص 178).
تتساءل كاترين أيضا ـ وإن بقدر أقل ـ عما لا تعرف؛ تستعيد صورة أمها التى لم ترها منذ جاءت إلى مصر وتقول لنفسها إنها "لا تعرف شعورها الآن" (الرواية، ص 23)، وتفكر فى أختها فيونا التى ربما حزنت بعد موت مايكل: "حزن فيونا عليه كان حقيقيا. ما يدرينى (...) لعلها كانت تحبه بالفعل...) ) ما يدرينى؟" (الرواية، ص 28). تتساءل كاثرين، أيضا دون إجابة، عن سبب توجس أهل الواحة منها: "ما الذى يخيفهم منى؟"، وتبحث عن الحقيقة والكذب فى آثار التاريخ التى تنقب عنها وعنه فى بقايا المعبد وتفكر فى أنه "ربما تكون هناك أكاذيب. بالقطع هناك أكاذيب. ولكن ما هى الطريقة لمعرفة الحقيقة غير البحث عنها" (الرواية، ص ص 101، 102).
والإسكندر الذى يقلقه ويقلقله فى موته نداء كاثرين له يتساءل حولها: "هل أنت رجل أو امرأة؟ لا علم لى"، ثم يتساءل حول وضعه وموقعه خارج عالم الأحياء، أهو جحيم هاديس أم هو فناء العدم: "لا أعلم. لا أدرى" (الرواية، ص 105).
والشيخ يحيى، الذى يلوح أكثر "معرفة" من كثيرين من أهل الواحة، تتحرك تساؤلاته أيضا بين ما يدرى وما ليس يدرى. لقد استطاع أن يتصل بالعالم خارج الواحة، وأن يتجاوزالتشبث الأعمى، هنا، بالمواضعات والأعراف، وأن يحتاز بعض أسرارالطب المتوارث، وهو قادر ـ باختصار ـ على أن يعرف ما لا يعرفه كثيرون من حوله: "كنت واثقا من أن بقية الأجواد لا يعرفون الأمريكان ولا الإنجليز ولا يدركون شيئا مما يقوله صابر" (الرواية، ص 68)، ولكنه، مع ذلك كله، يؤكد عدم معرفته بأشياء أخرى كثيرة. يفكر فى "مليكة"، ابنة أخته التى أحبها كابنته: "لم أقل لها إنها كانت النعمة الوحيدة فى هذا البلد. أو ربما هى غلطتها الوحيدة؟ لا أدرى" (الرواية، ص 73).
لدى شخوص آخرين، تلوح مراوحة المعرفة/ عدم المعرفة ماثلة بدرجة أقل. يؤكد إبراهيم ـ العجوز الذى أتى مع المأمور محمد فى رحلته للواحة لأنه كان قد زارها من قبل ويمتلك خبرة ما بأهلها ـ أن ما هو معروف عن أهل الواحة أقل مما ليس معروفا. يردد له المأمور ما سمعه عن أنه "يعرف الكثير عن أهل هذه الواحة" فيرد هو: "لا أحد يعرف عنهم الكثير يا سعادة المأمور" (الرواية، ص 54). ودليل الصحراء، الذى يتأسس عمله على درايته وإلمامه بخباياها، يقول إنه ـ بكلماته: "صحبت هذه الصحراء عمرى كله وأعرفها مثل كف يدى. أحفظ دروبها ومواسمها"، ولكنه يستدرك ليفسر غضباتها المفاجئة غير المفهومة، التى يجهلها، بقوله: "ولكنها تغدر. مهما صحبتها وأمنت لها يمكن أن تخونك" (الرواية، ص 37).
*
أما مراوحة اليقين/ عدم اليقين فتلوح لدى بعض الشخصيات مرتبطة بتجارب قديمة، أو بقناعات متوارثة، أو بتصورات ثابتة، ثم بما يسائل ذلك كله، وأحيانا بما ينفيه. ومساحات التساؤل، التى تشغل حيزا كبيرا فى سرد أصوات الشخصيات الرواة، هى بمثابة خلخلة لرسوخ كل يقين، أو إعادة نظر فيما كان يمثل، فى وقت من الأوقات، ضربا من ضروب اليقين. وغياب الإجابات المرتقبة، عن أغلب هذه التساؤلات، هو إيماء إلى أن اليقين مأمول بعيد، مرجأ، ربما لن يأتى أبدا.
إن الضوء المبهر، الذى يتكشف لبعض الشخصيات، فاتحا أعينهم وأرواحهم على ما لم يعرفوه أو يبصروه من قبل، لا يأتى إلا فى وقت جد قريب من الموت، وربما لا يأتى بأى يقين سوى بحقيقة اللحظة، أى بحقيقة هذا الموت. قبل أن ينبثق النور الأخير بداخل محمود، لم يكن لديه من يقين سوى ما يرتبط بشارة عمله وليس بعمله نفسه؛ بالزى وليس بحقيقة ما يعمل: "اليقين الوحيد هو تلك البذلة الرسمية التى ألبسها، والمهنة التى جاءتنى دون أن أرغبها ولم أعد أعرف لنفسى مهنة غيرها" (الرواية، ص 16). وكاثرين، التى تلوح أكثر اقترابا مما تتصور أنه "يقينها"، ليست متأكدة إلا من بعض جزئيات عن بعض الأشياء؛ إنها تعرف معلومات كثيرة عن الواحة مثلا: "المشكلة الحقيقية لا أجهلها. قرأت كل شيء عن الواحة كتبه المؤرخون" (الرواية، ص 21)، وتعرف "أن المأمور وهو حاكم الواحة يظل هدفا ثمينا لهم [لسكان الواحة]" (الرواية، ص 21)، وهى تعرف أنه لم يكن بإمكانها إقناع والدها بالزواج من محمود:"واثقة أنى ما كنت أستطيع إقناعه" (الرواية، ص 23)، وأن أختها فيونا لن تحاول معها إعادة ذكرى تجربتهما القديمة مع مايكل: "أنا واثقة بالطبع أنها لن تفعل أى شيء لتعيد الذكرى" (الرواية، ص 24).. ولكن خارج هذه الجزئيات، وبعيدا عن هذه "الثقة" ـ التى تبدو، إلى حد ما، مفرطة ـ بالمعرفة وبالقدرة، فإن كاثرين، خلال تجربتها بالواحة ـ وهى تجربة متأخرة فى حياتها ـ لا تستطيع أن تفهم أشياء أخرى أكبر، لا تفهم مثلا سلوكات أهل الواحة وأفعالهم، كما أنها تتشكك فى حدود معرفتها ويقينها؛ تعيد النظر فى بعض تصوراتها، التى ظلت ثابتة، عن العالم وعن ذاتها ومشاعرها، فتكتشف فى ذلك كله "حقائق" أخرى غير ما عرفت من قبل: "ما معنى قولى إذن بأنى لا أخاف من شيء؟ ها أنا خائفة!" (الرواية، ص 258). والإسكندر، الذى يتساءل حول ما يتساءل عنه، يوقن الآن، بعد موته وليس قبل ذلك، أنه لم يكن بمقدوره أن يكون غير ما كانه، وأنه ليس سوى طاغية: "نعم بالطبع أنا طاغية مهما سقت لطغيانى الأسباب" (الرواية، ص 121)، كما يوقن، الآن، بحقيقته خارج المحاولة الدنيوية التى تمت لتأليهه: "هنا، فى عالم الموت أعرف عن يقين أنى لست إلها" (الرواية، ص 123).
و"سلام"، الذى تدون أسرته أبا عن جد أخبار الواحة، يتمثل يقينه الوحيد فى "التدوين"، أو فى الأخبار ـ التى تخلدت بتسجيلها ـ عن وقائع حياة الأجداد الراحلين. وما يمكن أن يحدث الآن من وقائع ليس لها شبيه فيما حدث من قبل، إنما يقع خارج دائرة هذا اليقين: "لم تنزل ببلدنا مصيبة كهذه من قبل، أعرف هذا عن يقين..إلخ" (الرواية، ص 167).
تتحرك هذه الشخصيات، مدفوعة بتساؤلاتها، فى مساحة ماثلة بين ما يدعم اليقين وبين ما يخلخله، أو بين ما يستدعيه وما ينفيه، إنها تقاربه ـ إلى حد ـ فى وقت ما، وتنأى عنه فى أوقات. وخارج هذه المراوحة، وبعيدا عن هذه الشخصيات، يلوح يقين آخر، محدود الحضور، غير مرتبط بشخصية بعينها، يكاد يكون تعبيرا ـ بـ "عبارات إيديولوجية"، بمصطلح رومان ياكوبسون ـ عن "حقائق" ذات طابع تعميمى، غير متعين، تبدو خارج الزمن والمكان، مطلقة، لها ثبات قوانين الطبيعة نفسها: "لا يمكن لرجل أن يتزوج امرأة لا يحبها إلا إن كان يهوى العذاب" (الرواية، ص 26). ولكن هذا اليقين المطلق، المشبع بالاطمئنان إلى أحكام نهائية وإجابات قاطعة، يبدو كأنه قد هبط على هذا العالم من عالم آخر خارجه، بعيد عنه.
ـ 8 ـ
لا ينحصر دور الأسئلة والتساؤلات فى التعبير عن عالم/ عوالم شخصيات (واحة الغروب) فحسب، بل تنهض هذه الأسئلة والتساؤلات، مع هذا التعبير، بالجانب الأساسى فى تدفق سرد الرواية، وحركته، وتنوعه.
فى غير حالة، تقوم التساؤلات بالدور الذى يقوم به عادة "الوصف" ـ المحايد أو غير المحايد ـ فى طرائق السرد المتعارفة، وإن كانت التساؤلات تعكس وتجسد هنا، فضلا عن ذلك، العالم الداخلى للشخصية التى ينطلق الوصف من منظورها. وبهذا المعنى، تضطلع التساؤلات هنا بمهمتين متجاورتين ومتداخلتين، فى آن: "تقديم المعلومات" عن عالم الواحة، والإفصاح عن رؤى الشخصيات وعوالمها الداخلية. يفكر محمود فيما سمعه عن أن أهل الواحة سوف يقتلون مليكة "لينقذوا أنفسهم من لعنة الغولة"، ويتبع هذه العبارة بأخرى: "كيف لى أو لأى إنسان أن يفهم هذه العادات؟" (الرواية، ص 178). وفى سياقات متعددة تبدو تساؤلات الشخصيات مشبعة بأحكام قيمية، وقد يتصاعد حضور منظور الشخصية إلى نوع من "التعليق" الواضح: "كيف تريدون من مليكة أن تفهم عاداتكم التى بلغت أنا من الكبر عتيا فلم أفهمها؟ مليكة الجميلة رسول الموت؟ عقارب سوداء وحرائق فى البيوت والشجر وأطفال مرضى؟ أنتم المرضى!" (الرواية، ص ص 180، 181 ـ والتساؤلات هنا لمحمود الذى يخاطب، خطابا داخليا غير معلن، أهل الواحة). وهذه المزاوجة، بين بعدين: واصف ومقيّم، أو راصد ومعلّق، تتخلل أغلب مساحات سرد الشخصيات/ الرواة. ينظر محمود، مثلا، إلى ملامح الصبى الذى يقود حمارين ـ والحمار وسيلة الانتقال هنا ـ ويلاحظ أنه يسير حافى القدمين، ويفكر فى أن يقدم له مساعدة ما: "كل الأولاد هنا يتشابهون بوجوههم القمحية وملامحهم الدقيقة وطواقيهم التى لا تبرز منها غير خصلة واحدة من الشعر(...) إن كانت الطاقية تحمى رأسه من الشمس فماذا عن قدميه الحافيتين فوق الرمل الملتهب؟"، وينهى هذه العبارات الواصفة بعبارة ذات طابع تعليقى: "أى بؤس هذا!" (الرواية، (الرواية، ص 87). كذلك تنطوى بعض تساؤلات الشخصيات أحيانا على بعد "تفسيرى" لبعض "المعلومات" والسلوكات والوقائع؛ فمع محاولة محمود لاستيعاب عالم أهل الواحة والصراعات بينهم، يشير إلى معلومات سمعها من بعضهم ويربطها بتساؤلاته التى تنحو منحى تفسيريا: "صابر روى لى حكاية العمدة حسونة دون ذرة من العطف عليه أو على مصيره. ترى هل لأنه كان من الغربيين وصابر من الشرقيين؟" (الرواية، ص 78).
ترتبط التساؤلات أيضا فى (واحة الغروب) ببعد حوارى، وأحيانا حجاجى، يتحقق بين الصوت المتسائل وأصوات آخرين، وإن ظل هذا الحوار، أو الحجاج، محصورا فى نطاق افتراضى، غير فعلى، لا يجاوز حدود العالم الداخلى للشخصية إلى العالم الخارجى حولها. يتساءل محمود من مكانه فى الواحة لـ "النظارة" بالعاصمة البعيدة التى ترسل إليه الأوامر وتوجه له التأنيب تلو التأنيب، ولكن يظل تساؤله محصورا فى تأملاته الداخلية، لا يتخطى نطاق الذات ومن ثم لا يصل إلى هذه النظارة أبدا: "يجب أن أستعمل الحزم والشدة مع الأهالى (...) عظيم يانظارة ولكن أين الجنود والسلاح؟" (الرواية، ص 151). وقريبا من هذا المنحى، ينسج التساؤل أحيانا حوارا ذاتيا ـ لا يتم الجهر به ـ مع اقتطاعات مستدعاة أو مستعادة من حوار فعلى معلن. يتساءل محمود: "أزمتى؟ تسألنى كاثرين عن أزمتى؟ أسأل أنا نفسى؟" (الرواية، ص 127 ـ ولاحظ التنويع على عبارات وردت فى استشهاد سابق، صفحة 43). كذلك قد يقيم الصوت المتسائل حوارا مع صوت آخر متخيل؛ تفكر كاثرين فى اكتشافها بعض الأخطاء بعمل الذين نقلوا النقوش من جدران المعابد وتتباهى، داخليا، بذلك، ثم تعترض ـ بصوت آخر ـ على هذا التباهى، ثم تؤكد بصوتها هى حقها فى التباهى: "أنا الوحيدة القادرة على كشف أسرارك أيتها الواحة.
قليل من التواضع ياكاثرين!
لماذا؟ أليست هذه حقيقة؟ مع ذلك فلأسكت حتى لا يصيبنى الكبر (...) إذن فلأتواضع" (الرواية، ص 51). وفى هذه الوجهة، تندرج تساؤلات الشيخ يحيى، التى تستعيد بعض حوار فعلى مع الشيخ صابر، وترد عليه ردا غير معلن، ثم ترد على هذا الرد: "وبصعوبة أرد نفسى عن أن أسأله أتلك هى المعاصى ياشيخ؟ أليس تمنى الخراب هو أيضا معصية من المعاصى؟ وأنت، ألا يتملكك الكبر وتسكن نفسك الكراهية؟ (...) احترس يايحيى . ها أنت تفكر مثلهم.. إلخ" (الرواية، ص 61). وقد يتحول صوت السارد إلى اختزال يسترجع حوارا خارجيا مكتملا من زمن سابق: "فجاءنى [الشيخ يحيى يحدث نفسه أو يحدثنا] الأخوة والأعمام والأخوال. كيف وأنا فارسهم أتخلى عنهم فى ساعة الحرب، كيف أقبل هذا العار؟ فاض الكيل فإن كنتم تريدونها حربا فلتكن هى آخر الحروب! ما معنى كلامك يايحيى؟ معناه أن نقاتلهم غير قتالنا كل مرة (...) هل تمزح يايحيى؟ لا.. لكن هذا شرطى (...) شرطك غريب يا يحيى لكننا نوافق عليه ما دمت معنا. حتى آخر رجل؟ نعم، حتى آخر رجل. تقسمون على المصحف؟ نعم. نقسم" (الرواية، ص 182)، وهنا يتراجع حيز التساؤلات الداخلية ويغدو صوت السارد ـ السائل وليس المتسائل ـ إطارا يتضمن أصواتا أخرى شاركت فى حوار تم بالفعل.
تتنقل حركة التساؤلات، إذن، عبر هذه الأدوار المتنوعة، بين خطابات متعددة، بما يجعل هذه التساؤلات تجاوز الصوت الواحد، وتتخطى الثبات، وتعكس زوايا متباينة للحقيقة الواحدة أو تجسد تصورات مختلفة لها وعنها. ومع حضور ظاهرة الالتفات المتكررة فى خطابات التساؤل عند أغلب الشخصيات، مما يخط مسافة بين صوت الشخصية المتسائلة وذاتها، ومما يسمح بأن تضع الشخصية المتسائلة ذاتها موضع المغايرة والاختلاف (يتحدث الشيخ يحيى، مثلا، لذاته: "هل قلت سأحاربكم وحدى؟ أنت تهذى ياشيخ يحيى" ـ الرواية، ص 180)، فإننا نلاحظ أيضا انتقال الصوت المتسائل بين خطابه الفردى وخطاب جمعى يشير إلى آخرين، بمن فيهم القراء الضمنيين. تفكر كاثرين فى مايكل، وتتساءل عن تجربتها معه، ثم تقول لنفسها بصوت يشملها ويشملنا معها: "لم أفهم ذلك الموت(...) لكن مادام محتما فلنفعل شيئا يبرر حياتنا. فلنترك بصمة على هذه الأرض قبل أن نغادرها" (الرواية، ص 24).
حراك السرد بتساؤلاته، وحراك التساؤلات بانتقالات خطاباتها وتنوعها، يؤكدان بعد التعدد فى رواية (واحة الغروب)؛ وهو تعدد حقيقى ماثل بجلاء فى هذه الرواية على الرغم من احتشاد سرد رواتها جميعا بالتساؤلات. كذلك يتأكد هذا التعدد بتساؤلات تشبه "اللازمات" اللغوية التى تستخدم مقرونة بسرد شخصية ما، تتردد فى هذا السرد كأنها شارة على هذه الشخصية .
ـ 9 ـ
يتحقق جزء من قيمة (واحة الغروب) ـ وما أكثر ما تتضمنه من قيم ـ فى الاحتفاء بالتساؤل والسؤال والمساءلة. وإذا كان بعض، أو أغلب، حشد التساؤلات والأسئلة والمساءلات التى تنسرب وتسرى فى سرد/ سرود الرواية يظل معلقا دون إجابة، مقلقا دون يقين، فإن فى هذا تجسيدا لبعد من أبعاد مغزى هذه الرواية التى تواجه، فيما تواجه، كل اطمئنان نهائى ليقين كاذب.
لعل الإجابات قابعة فى مكان ما بهذا العالم، أو لعلها غافية فى مكان ما بداخلنا.
لكن أليست كل إجابة بحاجة، دائما، إلى تساؤلات وأسئلة جديدة عنها، وربما إلى مساءلة لها؟
تطرح (واحة الغروب) علينا هذا السؤال، بإلحاح وبطرائق متنوعة، وكأنها تومئ إلى طريق يمكننا ـ أو ربما يجب علينا؟! ـ أن نسلكه.




هوامش:
أعلى