أ. د. عادل الأسطة - حلاق الإسكندر وحلاقا نابلس؛ حمدي شرف وعلي عنتر

( تتكيء كتابة المقال على رواية براء الخطيب " إنهم ياتون من الخلف " ١٩٧٨ )

في العام ١٩٧٨ أصدر روائي مصري شاب هو براء الخطيب رواية عنوانها " إنهم يأتون من الخلف " ، وقد قرأتها في حينه ولم أعد أذكر منها إلا عنوانها وقصة الإسكندر المكدوني مع حلاقيه . أذكر العنوان الذي يتضح مدلوله من خلال قراءة النص فقط ، فقراءته منفصلا دون قراءة المتن الروائي يقود إلى مدلولات مختلفة يتعلق كل مدلول بتجربة القاريء وثقافته ؛ الغدر أو الخيانة أو الخديعة أو .. وإذا ما فسره المرء تفسيرا مجازيا فقد تذهب به المخيلة إلى مدلول جنسي ، والأخير هو ما يقوله المتن الروائي عموما ، وهو ما يحيل إلى الواقع المصري بعد سياسة الانفتاح في زمن أنور السادات وتغلغل المال الخليجي في مصر ، وأدى بدوره إلى انفتاح الخليجيين على مصر وانفتاح رجالهم على النساء المصريات ، ويتلخص في المقطع الآتي :
" لملمت ( باتعة ) شعرها المتطاير وشبكته إلى أعلى بمشبك البلاستيك الذي على هيئة وردة ، ولم تسمع صوت عجلات السيارة ( البيجو ) وهي تتوقف خلفها ومن الخلف أتاها صوت خفيض :
- " ما بدك تقضي سهرة ممتعة ؟"
وقبل أن تلتفت قال صوت آخر :
- " بدنا نتمتع بالقمر ، ليش القمر وحيد ؟" . "
وحين توافق وتنزلق إلى السيارة يجري بينها وبينهما الحوار الآتي :
" - " أين تسكن ؟"
قال :
-" في الإبراهيمية ، قبل أن نذهب بدنا شرط واحد ".
قالت :
-" من يدفع مقدما نقبل شروطه ".
قال : من الخلف ."
وتوافق باتعة ، وإن كان دال العنوان لا يخلو من مدلولات أخرى كتعذيب السجناء من مؤخراتهم ومهاجمة المباحث الأفراد المعارضين من خلفهم .
وما أذكره أكثر ووظفته مرارا في روايتي " تداعيات ضمير المخاطب " وبعض كتاباتي هو قصة حلاق الإسكندر المكدوني التي ترد في الجزء العاشر الأخير للرواية ولها دلالة رمزية بالتأكيد ، فما هي قصة حلاق الإسكندر ؟
كان للإسكندر قرنان لا يعرف بهما إلا حلاقوه ، ولذلك كان الإسكندر يقتل الحلاق كلما أنهى الحلاقة حتى لا يذيع سره ويفشيه ، وهكذا لم يبق في المدينة إلا حلاق مكير قصير ، فأدرك أن منيته اقتربت ، ولم ينتظر أن يطلب منه الإسكندر القدوم إليه ، فقر قراره أن يذهب بنفسه إلى الإسكندر ويعلمه أنه يعلم السر ولكنه أخفاه ، علما بأنه لم يكن يعرفه ، فاطمأن له الإسكندر وتركه يحلق له ، فاكتشف الحلاق السر ، ثم ضاق ذرعا به وهرب من المدينة . سار الحلاق حتى عطش فاقترب من بئر جفت مياهه وصار يصيح " الإسكندر له قرنان " حتى بصق دما امتزج بالتراب ولد منه طفل ، وعندما كبر صار يكرر العبارة نفسها وهكذا ذاع سر الإسكندر وانتشر .
في العام ١٩٩٣ كتبت روايتي المذكورة وعانت شخصيتها الرئيسة كثيرا لمجرد أنها أفشت سر مستشرقة وزوجها وارتباطهما بالمخابرات الإسرائيلية ، ووظفت في الرواية حكاية الإسكندر المكدوني وحلاقيه . أحيانا أنت تقتل ليس لأنك شخص خطير ، وإنما تقتل لأنك تكتشف سرا خطيرا .
تذكرت ما سبق يوم الثلاثاء الماضي الذي ارتقى فيه في مدينة نابلس خمسة شباب من ضمنهم حلاقان شابان هما حمدي شرف وعلي عنتر . كان هذان كما عرفت عائدين من صالوني حلاقتهما معا إلى البلدة القديمة حيث يقطنان فلاحظا قوات وحدة إسرائيلية متسللة إلى البلدة القديمة لاغتيال مجموعة من شباب " عرين الأسود " الذين يتخذون من حارة الياسمينة وحوش العطعوط مقرا لهم ، فاتصل الحلاقان بأصدقائهما يبلغونهم بما شاهدا ، وهنا أطلقت القوات الإسرائيلية النار عليهما فأردتهما شهيدين . كان الحلاقان حمدي شرف وعلي عنتر مثل حلاق الإسكندر الأخير القصير المكير ولكنهما لم يكونا قصيرين وما كانا مكيرين ، فهما شابان ناهضان ممتلئان أنيقان أناقة مزين وحلاق يزين الآخرين ، ومن ينظر في صورة كل منهما لا يحتاج إلى برهان يؤكد صحة كتابتي .
الطريف في الأمر اللافت للنظر في بعض الفيديوات التي تنتشر للمطاردين بعد ارتقائهم صورهم وهم في صالونات الحلاقة يزينهم الحلاق كما لو أنهم ذاهبون إلى عرسهم ، وهذا ما لاحظته وأنا أشاهد مقاطع فيديو للشهيد إبراهيم النابلسي . لقد بدا في بعض مقاطع الفيديو عريسا حقا وما زاد المقطع جمالا مخاطبة حلاقه له وهو يرش عليه الكولونيا :
"- تكلين .. تكلين " .
في قصيدته " أعراس " من مجموعته " أعراس "(١٩٧٧) يقول محمود درويش في وصف الفدائي :
" عاشق يأتي من الحرب إلى يوم الزفاف / يرتدي بدلته الأولى / ويدخل / حلبة الرقص حصانا / من حماس وقرنفل .. "
ولكن الطائرات تأتي " لتخطف العاشق من حضن الفراشة " .
أحد الحلاقين متزوج وله ثلاثة أطفال والله أعلم أن الثاني كان يهيء نفسه أيضا للزواج .
هل أقول : اللعنة على الإسكندر المكدوني أم على الاحتلال ؟
الأربعاء ٢٦ / ١٠ / ٢٠٢٢ .

( مقال يوم الأحد لجريدة الأيام الفلسطينية وسينشر بتاريخ ٣٠ / ١٠ / ٢٠٢٢ )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى