علي حسين - غواية القراءة.. الأوهام الضائعة من فلوبير إلى سارتر (6)

إن القراءة الذكية تنقذ الإنسان من كل شيء، حتى من نفسه، كما أننا نقرأ لمواجهة الموت، والوقت الذي نقضيه في القراءة، مثل وقت الحب، يطيل وقت الحياة.
دانيال بيناك
في رسالة وجهها الروائي غوستاف فلوبير الى أحد القراء يكتب فيها : عمري الآن ثلاثة وخمسون عاماً، جعلت من الأدب شيئاً لاينفصل عن حياتي، على الرغم من كل العوائق التي واجهتني، كنت أقول لنفسي.. فلوبير كاتب ولاشيء سوى هذا، فتجارب الحياة والمرض والحب والقراءة آلت الى شيء واحد هو الكتابة.. والتي من أول شروطها أن لايصاب القارئ بالملل ".
يخبرنا أميل زولا ، أن فلوبير كان يطرح السؤال الدائم على أصدقائه من الكتاب : كيف يمكن أن تحافظ على انتباه القارئ، وما هي المتعة التي ستقدمها له؟ وبعده بأكثر من مئة عام يكتب أمبرتو إيكو في كتابه " اعترافات روائي ناشيء " هذه النصيحة للكتاب :" عليك أن تتمكن من جعل متعة القراءة متساوية مع الوقت الذي نمضيه في القراءة ".
يكتب خطيب الثورة الفرنسية ميرابو في يومياته تعليقاً على الاعمال الروائية التي كتبها جان جاك روسو :" من ميزات الروائيين إنهم يخلقون شخصيات تقتل شخصيات التاريخ، والسبب في ذلك أن المؤرخين يكتفون بالحديث عن أشباح، أما الروائيون فيخلقون أشخاصا من لحم ودم ".
في واحدة من محاضراته يقترح أمبرتو ايكو على طلبته الدرس التالي :" بما إننا نعرف أن آنا كارنينا هي شخصية من الخيال، ولا وجود لها في العالم إلا في ذهن كاتبها تولستوي، لماذا اذاً نبكي على مآساتها أو على الأقل لماذا نتأثر بذلك؟.
يجيب صاحب اسم الوردة ، أن هناك بالتأكيد الكثير من القراء الذين لايذرفون دمعة واحدة على مصير سكارليت أوهار في ذهب مع الريح، ولكنهم يتأثرون لمصير آنا كارنينا، ويضيف إيكو :" لقد حاولت أن أفسر للطلبة بان القدرة على انتزاع دموع قارئ ما لا تعود فقط إلى الميزات التي تتوفر عليها الشخصية التخيلية ، بل أيضاً الى العادات الثقافية للقراء، او الى العلاقة القائمة بين القارئ والكتاب ".
معظم الكتاب يواجههم سؤال مهم هو : كيفية المحافظة على انتباه القارئ. كان ميشيل فوكو قد واجه مثل هذا السؤال ، وهو يلاحظ أن الجميع يقول : إن كتب الفلسفة مملة، ويكتب ذات يوم :" علينا أن نقدم للقارئ كتاب يحمل في ثناياه الكثير من التشويق والمتعة ".
كان ميشيل فوكو آنذاك يريد أن يقدم تحليلاً فلسفياً لمفهوم العقاب في العصر الحديث، ولكي يشد إنتباهنا نحن القراء قرر أن يبدأ كتابه " المراقبة والمعاقبة "، بطريقة روائية فقدم لنا مشهدا تصويرياً لعملية تنفيذ حكم الإعدام عام 1757 على روبرت فرانسوا ديمي، الذي حاول إغتيال لويس الخامس عشر. يبدأ فوكو بوصف تصويري حي لتعذيب شخص وإعدامه: " لقد استخدموا كماشة ساخنة ومتوهجة في تمزيق جسده وكانوا يصبون الزيت المغلي فوق الجروح كما ربطوا ذراعيه وقدميه في رقبة حصانين، ثم تركوا لهما فرصة الجري بأقصى سرعتهما لتمزيقه وعندما لم تنجح تلك المحاولة البشعة قاموا بتقطيع ذراعيه وقدميه بضربات على قدميه بصورة متوالية " في كتابه الممتع " السير فوق الماء " يخبرنا الاميركي ديريك جنسن إنه عندما قرأ هذا المشهد الافتتاحي في كتاب فوكو " المراقبة والمعاقبة " أعتبر الأمر في البداية فظيعاً وشنيعاً ووصفه بالمشين ، كيف يمكن لفيلسوف يريد أن يقدم تحليلاً علمياً لمفهوم العقوبة أن يسعى الى اللعب بمشاعر القراء، ويضيف جنسن :" لكنه في النهاية جعلني اقرأ الكتاب، وكنت اثناء القراءة أتوقع المزيد من المشاهد، لكني في النهاية لم أحصل على شيء ، بل حصلت على مئات الصفحات من الفلسفة الجادة " ..ويضيف :" هل شعرت بان الكاتب خدعني، يجيب بالتأكيد لا، اذا كانت الفلسفة مملة لأصبح الكتاب خدعة رخيصة لكن الفلسفة علم مثير للانتباه ويحمل في ثناياه كثيرا من التشويق والمتعة، لقد نجح الكتاب تقريباً وأستطيع القول بانها لم تكن خدعة رخيصة".
يصف لنا غوستاف فلوبير مشهد اللقاء الأول بين شارل بوفاري وإيما التي ستصبح فيما بعد مدام بوفاري بهذا المشهد المثير :" وجلست الفتاة الى المائدة مع شارل، وجرى الحديث عن المريض أولاً – ثم عن الجو وموجات البرد القارس، والذئاب التي تعدو خلال الحقول في الليل، كانت الفتاة ترتجف اثناء تناول الطعام لفرط رطوبة الصالة، مما كشف قليلاً عن شفتيها المكتنزتين اللتين اعتادت أن تعظهما في أوقات الصمت.
وكانت رقبتها تظهر خلال ياقة مزدوجة، وظفيرتاها السوداوان الناعمتان تبدوان – لفرط نعومتهما، قطعة واحدة، تنشق الى شعبتين عند الرأس بخط مستقيم ينبع استدارة الرأس، ثم تعود الشعبتان الى الالتقاء خلف الرأس في كعكة سميكة تنحدر منها خصلتان نحو الصدغ، لاتكاد أذنا الفتاة تبينان خلالهما،أما وجنتا الفتاة فكانتا متوردتين، وكانت ثمة عوينة في إطار من الصدف تتدلى من زرين في صدارها ".
يكتب أمبرتو ايكو ان القارئ الذي يسحره هذا الوصف للفتاة " إيما " سيتأثر حين يكتشف إنها بعد أن اصبحت مدام بوفاري ستنتهي حياتها بشرب السم .
كان تولستوي قد قرأ مدام بوفاري وقد نشرت متسلسلة، ونتعرف من يومياته أن موضوع الخيانة قد شغل باله منذ زمن طويل، لكنه يجد أن الكاتب الفرنسي كان قاسياً مع بطلته فقد طاردها بمشاعر متجمدة ومتواصلة بلا رحمة، ويتساءل تولستوي لماذا أصر فلوبير على أن تحيا مدام بوفاري حياة خالية وهمية، ونجد تولستوي برغم إعجابه الشديد بالرواية فأنه يأخذ على المؤلف محاولته أن يعكس الكثير من طباعه على " ايما بوفاري ".
************
كلما كان الكتاب مكتوباً بشكل جيد، شعرت بأنه بالغ القصر.
جين أوستين
كنت في الخامسة عشرة من عمري حين خاطرت ذات يوم واشتريت نسخة من رواية " مدام بوفاري " كانت النسخة تتكون من مئتي صفحة وعلى غلافها صورة مرسومة بالالوان لإمرأة جميلة جداً تقرب ملامحها من الممثلة الشهيرة بريجيت باردو ، وخلفها يقف شاب جميل يبدو أصغر منها عمراً، ولازلت أتذكر العبارة التي خطت على الغلاف " مدام بوفاري.. الزوجة الخائنة ".اخذت الكتاب وأخفيته عن الانظار، فمثل هكذا كتب ربما تسبب لي مشكلة.. لكنني قررت ان اقرأ الكتاب وأعرف لماذا خانت هذه الزوجة؟
لم أجد في مقدمة الكتاب التي كتبها الناشر سوى معلومات قصيرة عن المؤلف.." ولد جوستياف فلوبير – هكذا كتب اسمه - في مدينة روان في فرنسا عام 1821 وكان والده طبيبا.اعترف له بالزعامة الأدبية وبالامارة على فرسان البيان في عصره وقصته " مدام بوفاري الزوجة الخائنة " أعظم قصة لاقت رواجاً في اللسان الفرنسي.. نشرت للمرة الأولى في احدى المجلات وقدم المؤلف والناشر للمحاكمة لما فيها من أدب مكشوف، وقد قامت أصول القصة على حوادث الحياة نفسها، فكان المؤلف نفسه طرفاً فيها.. إنها قصة من الحياة كتبها أعظم كتاب البيان الفرنسيين ووضع فيها حسه وأعصابه وودّ والألم يصهر نفسه لو إنه كان غنيا ليشتري كل الطبعات ويحرقها ". كنت ألتهم صفحات الكتاب وأُمني النفس بحكاية مثيرة مثلما وعدني الناشر " أدب مكشوف "، لكن ما أن وصلت الى منتصف الكتاب حتى خاب أملي.. وقلت مع نفسي يجب أن أثق بالناشر حتى أتمكن من الانتهاء من الرواية.
إليكم ملخص الرواية كما فهمتها في القراءة الاولى.كان هناك طبيب أسمه شارل بوفاري قادته الصدفة لأن يعالج رجلاً كبيراً في السن، وفي بيت هذا المريض سيعثر على زوجة المستقبل إنها " إيما " وفي الوقت الذي تعرف فيه على إيما كان هو طبيباً معروفاً في المدينة الصغيرة، وشاباً ذكياً، وكانت الفتاة تعيش في عالم من الخيال صنعه لها شعراء وأدباء الرومانسية،عالم كله كتب وحكايات وأشعار وأحلام، كانت إيما تحلم بان تحب، وأن تتزوج الرجل الذي تحبه، وعندما إلتقت بالطبيب شارل بوفاري أيقنت إنه فتى أحلامها فتزوجته لتصبح مدام بوفاري، لكن الزواج خيب أملها لا أشعار ولا خيال ولاحديث عن القمر، فهي تجد نفسها كل يوم نائمة الى جوار رجل أنهكه العمل، كانت كل يوم تجلس الى جوار النافذة تنتظره، تتعطر وترتدي أجمل الملابس، وما أن تراه حتى تركض بإتجاه، أما هو فقد كان يذهب باتجاه السرير ليأخذ قسطاً من الراحة، لتعود لتجلس تتذكر روايات الحب التي قرأتها، والحلم بالفارس العاشق الذي يدخل عليها وبيده باقة حمراء من الزهور.
ونجدها تردد حين تكون لوحدها تنتظر : "يا إلهي لماذا تزوجت؟ "، وتحاول أن تتخيل حياتها مع الزوج الذي تخيلته، رجلاً وسيماً وفطناً ومتميزاً وجذاباً ، وتسأل نفسها ما العمل؟ هل سيدوم هذا الحال الى الأبد، كانت تتوق الى الحياة المرحة ، تبحث عن الحب، عن رجل يختطفها ويطير بها بعيداً، لقد قررت أن تفتح الباب المظلم، ففي مقابل احتقارها للحياة الرتيبة التي تعيشها مع شارل بوفاري ، نظرت في المرآة الى جمالها وأيقنت أن بإمكانها ان تحوِّل أحلام اليقظة الى واقع، قررت ان تكتشف عالماً اكثر إثارة يحقق لها وجودها. بدأت تبالغ في إنفاق الأموال على الألبسة والحفلات دون أن يعلم زوجها، وسرعان ما تراكمت عليها الديون، وبعد أن تفقد الرغبة في الملابس والحفلات، تقرر أن تقيم علاقات حب مع رجال آخرين . في البداية كان العشيق جاراً لها يدعى لويس كامبيون، ثم عامل المزرعة، ثم كاتب العدل،. ويكتب فلوبير في الرواية :" لقد بدأت تعيد الى ذهنها بطلات الروايات التي قرأتها، وبدأ هذا الفيلق من النساء العاشقات يغرد في رأسها".
أهملت زوجها وابنتها الصغيرة وأقاربها وجيرانها، لكنها في النهاية بدأت تشعر بالملل، كل هؤلاء العشاق بدوا لها أيضاً مخيبون للآمال، وأخيراً في فجر السادس من آذار عام 1848 بدأت المشاكل تحاصرها : زوجها أفلس، العشاق تبخروا، تقرر أن تتناول جرعة مميتة من الزرنيخ لنتهي حياة بلا طعم ولا أمل.
كان فلوبير يكتب ببطء وإتقان شديدين، ست صفحات في الأسبوع، قال لأمه : " يالها من مهنة صعبة مهنة الكتابة، القلم أشبه بمجذاف ثقيل "، ظل يعمل سبع ساعات في اليوم على مدى أكثر من خمس سنوات، درس خلالها كل ما يتعلق بالروايات الرومانسية، وحاول دراسة تأثير مادة الزرنيخ على وظائف الجسم، ومن حين لآخر كانت الكتابة تصيبه بالمرض :"عندما كنت أصف تسمم إيما بوفاري كنت أحس بطعم الزرنيخ في فمي، وقد عرّضني ذلك الى آلام في المعدة وسوء في الهضم رافقني طوال حياتي. ويكتب الى صديقة : " لقد توقفت عن الكتابة لا أستطيع مغالبة دموعي"، ولم يكتف بمشاهداته وقراءاته لمعظم الروايات التي صدرت في عصره ، بل ذهب يبحث عن قصص مشابهة لحكاية مدام بوفاري، وفي الدوائر الرسمية ومراكز الشرطة أطلع على التقرير التالي : " يوم السادس من اذار 1848 انتحرت في قرية ري نورمانديا، سيدة في السادسة والعشرين من عمرها بتعاطي كمية كبيرة من الزرنيخ ". في النهاية يجد نفسه قد كتب " كانت ثمة ظاهرة غريبة، فبينما كان " شارل بوفاري " يفكر باستمرار في " إيما " أخذ ينساها، واشتد به الاسى إذ شعر أن هذا الطيف يغيب عن ذاكرته رغم كل الجهود التي كان يبذلها للاحتفاظ به ".
************
بعد سنوات اتيحت لي الفرصة أن ألتقي بالناقد والعلامة علي جواد الطاهر، كان موعده لزيارة المكتبة التي أعمل فيها مساء كل اربعاء، يدخل المكتبة باناقته التي تنم عن روحه الشبابية وابتسامته التي لاتفارقه وسؤاله الدائم : هل وصلت كتب جديدة بالفرنسية؟ كان الراحل الطاهر قد حصل على الدكتوراه من السوربون ، وعلى مدرجات الجامعة كان يحتفظ بنصيحة استاذه محمد مهدي البصير في أن يغترف أولاً من تجربة الغرب في الأدب واللغة، ولهذا نراه يكتب :" إني لم أطمح من الدراسة في فرنسا إلا من أجل الإلمام بادب آخر عالمي " .وذات يوم تجرأت وانا اشاهده منهمكاً في قراءة عناوين الكتب لأسأله عن رأيه بالادب الفرنسي ، إلتفت إلي وعلى وجهه إبتسامته المعهودة : هذا سؤال طويل وعريض، هل تعرف إن عمر الادب الفرنسي من عمر الحضارة الاوروبية. صَمتُ ولم أكن أدري بماذا أُجيب، وعندما شاهد حيرتي اقترب مني وهو يقول : عندما عشت في باريس خمسة أعوام وكم شهر ، كنت مثلك أعتقد أنني أستطيع أن أتعرف على معظم ما كتبه ادباء فرنسا، لكنني عدت وأنا لم اقرأ سوى عشرات الكتب.
قلت له : أنا قرأت فلوبير وستندال وبلزاك وموبسان ورحت أعدد،
قاطعني قائلا : هل قرأت حقاً فلوبير؟
قلت : نعم حكاية الزوجة الخائنة؟
وابتسم عميد النقد العراقي : الزوجة الخائنة، تعني مدام بوفاري
قلت وأنا اعتقد إنني استطعت أن أثير اهتمام الناقد الكبير : نعم هي مدام بوفاري .
وراح الطاهر يشرح لي ما فات على هاوي قراة مثلي : لقد ولد فلوبير شغوفاً بالادب، لكنه يمتاز عن معظم أدباء عصره بانه كان دقيق الملاحظة، دائما ما ينصح الأدباء بان يروا جيداً، وأن ينظروا الى كل ما يريدون التعبير عنه نظرة طويلة وبانتباه ليكتشفوا فيها صورة جديدة لم يروها من قبل ولم يكتب عنها أحد "، بعدها يكمل الطاهر : هل تدري أن فلوبير عندما أراد ان ينهي حياة مدام بوفاري بالسم، أخذ يقرأ عن السموم وتأثيراتها، وكان يذهب كل صباح الى أحد المختبرات ليسمع حديثاً عن أخطر أنواع السموم، وكان يدوّن العديد من الملاحظات، وكان أحياناً يمضي يوماً او يومين في كتابة سطر واحد ولهذا أمضى في كتابة مدام بوفاري أكثر من ستة أعوام ".
ثم أخبرني الطاهر انه ما من رواية أثارت جدلاً مثلما أثارته رواية مدام بوفاري التي كتبت عنها عشرات المؤلفات ، وكان أبرزها حسب قول الطاهر ما كتبه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في كتاب تجاوزت صفحاته ال 3000 صفحة ".
في مقدمة كتابه عن فلوبير والذي ترجمت بعض فصوله الى العربية يخبرنا سارتر أن هناك عددا من الأسباب دفعته الى أن يكتب عن فلوبير، أول هذه الاسباب إن قلة فقط من الشخصيات في تاريخ الأدب، تركت وراءها كل هذا الكم الذي تركه فلوبير من معلومات وتفسيرات تتعلق بأدبه. ثانياً يقول سارتر ان فلوبير يمثل النقيض التام لتصوّري الشخصي عن الأدب، حيث أنه لا يكفّ عن إعلان تنزّهه التام عن كل إلتزام. وثالثاً وأخيراً، كون دراستي لفلوبير تمثّل بالنسبة إليّ استكمالاً لما طرحته في واحد من أوائل كتبي، وهو كتاب " التخيل "
متى بدأ المشروع يخبرنا سارتر ان صاحب فكرة الكتاب كان الفيلسوف الماركسي روجيه غارودي الذي اقترح ان يتشارك مع سارتر على كتابة سيرة فلوبير ، غارودي يكتب من وجهة نظر ماركسية وسارتر يبدي وجهة النظر الوجودية وبدأ سارتر يكتب الجزء الخاص به ويبداه بالعبارة التالية :" ماذا نعرف عن فلوبير بعد كل هذا الزمن الطويل؟إنه اكثر مما نتخيل،هناك الكثير من الوثائق والادلة والشواهد التي تحتاج الى غربلتها،وتفحص الاراء المتناقضة عن فلوبير والفرضيات المشكوك فيها والاستنتاجات المتسرعة" ،وبعد مئات الصفحات وتخلي غارودي عن المشروع يكتشف سارتر انه في ورطة حقيقية ، فهو يريد ان يبدي وجهة نظر وجودية في فلوبير ، لكنه يميل في العديد من الفصول الى استخدام المنهج الماركسي في تحليل الخلفية الاجتماعية لفلوبير،وفي فصول اخرى يستعين بمنهج فرويد لدراسة شخصية فلوبير التي وصفها بالمتناقظة ،وهكذا نجد ان كتابة دراسة عن فلوبير تاخذ من سارتر اكثر من سبع سنوات من حياته.
ولكن لماذا فلوبير؟ يخبرنا سارتر إنه قد تأثر في طفولته بفلوبير وغوته وانهم سمموا طفولته بنزعاتهم التشاؤمية،ونراه يحاول ان يعمل مقارنة بين طفولته وطفولة فلوبير، ،كلا الكاتبين نشأ في عائلة بورجوازية تقليدية تمارس الفضيلة دون أن تؤمن بها،كان سارتر قد تعود على شكوى جدته من جهة الأم التي كانت تكررها حين بلغت السبعين من العمر من زوجها الاناني ،وكيف كانت حياتهما مليئة بالحقد والضغينة،او رواية جده من جهة الأب عن اكتشافه في اليوم الثاني لزواجه ان عائلة زوجته التي كان يظنها ثرية كانت في حقيقة الامر قد أصابها الافلاس،ومنذ تلك اللحظة لم يكلم زوجته أبداً،ولا يتبادل معها سوى الاشارات إذا أراد منها شيئاً،وعاشا على هذا الحال لأكثر من اربعين سنة، ويخبرنا سارتر عاشا في جو من العلاقات العائلية تسوده النزاعات الانانية والمشاكل،وكان جد سارتر كثيراً ما يذكره بوالد فلوبير،أما جدة سارتر فقد كانت تشبه الى حد كبير مدام بوفاري بطلة رواية غوستاف فلوبير الشهيرة.
ان الطفل – سارتر - الذي رحل والده قبل عام ، كان موته " أكبر ضربة حظ. لم يكن عليّ أن أنساه " . هكذا يخبرنا في كتابه الكلمات ، والذي فيه ايضا لاينسى ان يسخر من فرويد ومقولته الشهيرة من ان الطفولة تقرر مصير الفرد ، فقد كان طفلا خجولاً ، وكانت امه تُصر على ان تلبسه ثياب البنات ، لكنه تعلق بجده : ” انه صاحب التأثير الاكبر على نشأتي".
نجد سارتر في دراسته يصر على اعتبار فلوبير نموذجا للرجل الذي اد\ار ظهره لعصره وكتب عن عالم حكم فيه بالاعدام على معنى المسؤولية والالتزام . وتمسك فيه بحرية زائفة . لانه وحسب تعبير سارتر لاحرية بغير مسؤولية .. وقد اختار فلوبير حسب تعبير سارتر الحرية ، وهو يريد في كتابه الضخم " فلوبير ابله العائلة " ان يثبت ان مؤلف مدام بوفاري لم يكن يمتلك القدرة الكافية ليكون مسؤولا عن افعاله.


* نقلا عن جريدة المدى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى